فاحكم بينهم أو أعرض عنهم

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2481 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أستاذٌ فاضلٌ كان كثيرًا ما يكرر على مسمعي هذه الكلمات:
( أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة أنها تعتمد على بعض النصوص وتترك بعض، فأخذها ببعض النصوص جعلها تظن أنها تعتمد على الشريعة، ولو نظرت في النصوص جميعًا لظهر لها الانحراف بشكل جلي).
 
وما أكثر الوقائع التي جعلتني أتذكر هذه الكلمات، وأكثر شيءٍ شدني فيها أنها تفسر حالة بعض الانحرافات التي تستدل – بصدق – بآيات من القرآن أو بأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُعلم قطعًا أنه مخالف لأحكام الشريعة وتأباه قواعدها وأصولها ولا يقول به فقيه، وهو أحد تطبيقات اتباع المتشابه الذي حذرنا الله تعالى منه في كتابه (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

تذكرت هذه الكلمات - مرة أخرى -  قبل أيام لما رأيت بعض الناس يستشهد بقول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)
يستدل بها على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها، فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنًا بها  لا يكون ملزمًا  كما خير الله في هذا الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم، ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار.

صدمت من هذا الاستدلال، لأن هذه النتيجة تضرب حكمًا قطعيًا من أحكام الإسلام، فكيف استهان أن يضرب هذا الأصل بمجرد فهم عارض طرأ عليه؟

وحتى لو جهل الباحث عن الحق معنى هذه الآية فمن العقل والحكمة أن ينظر في النتيجة التي يأخذها من الآية، فلا يمكن أن يأتي بها على حالة يراها ممزقة لأحكام وآيات كثيرة، فأين هو عن قول الله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ونحو هذه الدلائل القاطعة أن الإسلام حاكم على الجميع ولا يجوز تجاوزه أو التخيير في حكمه بمجرد أن أحدًا أو جماعة لا تريد ذلك.

 

تفسير الآية

إذن، ما تفسير قول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم)

لأهل التفسير اتجاهان في تفسير هذه الآية..

الاتجاه الأول: يرى أنها منسوخة بقول الله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله)
والاتجاه الآخر:  يرون أنها غير منسوخة وأنه لا تعارض بينها وبين قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) لأن المقصود أنه مخير، فإذا حكم وجب الحكم بما أنزل الله.[1]

وبناءً عليه، يرى بعض الفقهاء أنه يلزم القاضي أن يحكم بينهم إذا ترافعوا إليه[2]، ويرى آخرون أنه لا يلزم القاضي أن يحكم بين أهل الكتاب حين يأتوه.[3] وعلى كلا اتجاهي التفسير، وعلى كلتا الرؤيتين الفقهيتين فالحكم يتعلق بجزئية معينة، هي تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم فيما لا يلزمهم من أحكام الإسلام، فالآية لا تتحدث عن (أهل الإسلام) الذين يلزمهم أن يحكموا بالإسلام في كافة قضاياهم، ولا تتحدث عن (أهل الكتاب) فيما يلزمهم من أحكام الإسلام، إنما موضوع الآية في بعض الأحكام التي جعلت الشريعة لأهل الكتاب بأن لهم أن يتحاكموا فيها إلى دينهم، فإن اختاروا التحاكم إلى المسلمين فهل يلزم المسلمين الحكم بينهم؟

 

الخلل في تفسير الآية

هذا هو محل الآية، هو في الحكم بين أهل الكتاب فيما لا يلزمهم، فجاء هذا الاستدلال ليجعله حكمًا عامًا لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ويجعله حكمًا  عامًا لكافة القضايا ولو أدى لعدم الحكم بالإسلام، فضرب في أصول الإسلام يمنة ويسرة من حيث يظن أنه يستدل بآية قطعية الثبوت والدلالة! وهي مشكلة قد لا تظهر للقارئ إلا بعد أن ينظر في النصوص كلها فيتضح له عمق هذا الإشكال ومخالفته القطعية، لهذا كان العلماء يوصون بأهمية الرجوع لكلام أهل العلم بكتاب الله قبل الحكم لأنهم ينظرون في النصوص جميعًا فلا يقعون في مثل هذه الانحرافات والأخطاء الفادحة.

فهذا الخطأ صدم برأيه المتسرع هذا أمرين محكمين من محكمات الشريعة التي أجمع العلماء عليها:

المحكم الأول:  أن المسلم لا يُحكم في النظام الإسلامي بغير الإسلام أبدًا، وحتى لو اختلف مع كتابي فيجب الحكم بينهم بحكم الإسلام، وهو محل وفاق بين العلماء، وفيه ما لا يحصر من نقولات الاجماع:
فمنها مثلًا:

(فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولًا واحدًا سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا لأنهم يتجاذبان إلى الإسلام والكفر فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب).[4]

(واتفقوا فيما أعلم على أنه إذا ترافع مسلم وكافر أن على القاضي الحكم بينهم).[5]

(وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه)[6]

(فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة)[7]

وغيرهم ممن نقل هذا الإجماع المحكم.[8]

وإذا كان هذا في مسلم مع كتابي فكيف إذن إن كان بين مسلمين؟ فليس للمسلم خيار في قبول الشريعة أو رفضها (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا  أن يكون لهم الخيرة من أمره) بل إن رفضها يعتبر في النظام الإسلامي جناية تستحق العقوبة وليس المكافأة!
 
المحكم الثاني: أن هذا ليس في كل القضايا بل في بعض القضايا التي تركتها الشريعة لأهل الكتاب، وليس في كل الأحكام فإن ( الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم)

فحكم الإسلام شامل بعدله ورحمته وكماله لجميع المنضوين تحت سلطانه، غير أنه ترك لغير المسلمين بعض الأحكام فجعل لهم أن يتحاكموا فيها بينهم لان حكم الإسلام فيها أنهم غير ملزمين بأحكام المسلمين، وذلك مثل عباداتهم وأنكحتهم ومعاملاتهم وما يستحلونه كشرب الخمر، وأما ما تجاوز ذلك فهم ملزمون فيه بأحكام الإسلام.
وثم اختلاف في فروع المذاهب الفقهية في حدود ما يختص بغير المسلمين فعله مما لا يجوز للمسلمين فعله، سيصل قارئها لنتيجة قطعية ظاهرة هي أن ثم مساحة معينة – بشروطها – فقط هي التي لا يلزمهم فيها حكم الإسلام وهي التي جرى الخلاف فيها فيما لو جاءوا هل يلزم الحكم بينهم، لأنها مساحة تركتها الشريعة لهم، ولن يجد أحدًا يقول إنهم مخيرون في أحكام الإسلام كلها، بل هم متفقون على لزوم أحكام الإسلام عليهم في الجملة.[9]
 

خلاصة هذا الكلام كله:

أن حكم الآية خاص بأهل الذمة فقط، وخاص ببعض أقضيتهم، لكن هذا تحول بكل تهاون وعجلة إلى أن يكون شاملًا للمسلمين، وشاملًا لكل القضايا، من دون أن يتروى قائله قليلًا في هذه النتيجة التي تضرب في المحكمات من حيث لا يشعر!

فعجبًا كيف يستدل بآية قرآنية ليقع في هذا الخطأ الفادح!
 
 وفيه عبر:


1-ضرورة النظر في النصوص جميعًا، وأن الاستدلال بالنص الشرعي لا يكفي ما لم يضم لجميع النصوص في الباب حتى يتضح مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
2-ضرورة مراجعة كلام أهل العلم والنظر في أقوالهم وتفسيراتهم، فمن الكسل المعرفي والعجز العلمي أن يخوض المسلم في مثل هذه القضايا الكبيرة وهو خلو الذهن عن الاستفادة من تراث قرون تعاقبت فيها الأذهان والأقلام في التحرير والنظر والتدبر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
3-ضرورة صيانة أحكام الشريعة من  التفسيرات العاجلة التي يدفعها ضغط واقع معين أو حاجة ماسة ما، فيجد المسلم نفسه يتقبل كثيرًا من الأقوال والتفسيرات متخففًا من الأصول المنهجية والقواعد العلمية في النظر والاستدلال لأن ثم قوة دافعة تجعله لا يقف عندها كثيرًا.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: تفسير الطبري10/ 325-330
  2. هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية ورواية عند الحنابلة،  انظر: بدائع الصنائع2/312، الحاوي 9/307،  المغني 10/190.
  3. هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية،  انظر: الذخيرة 3/458، المغني 10/190، الحاوي 9/307
  4. الحاوي في فقه الشافعي 9/308
  5. الذخيرة 10/112
  6. المغني 10/191
  7. تفسير البغوي 3/59، وانظر: شرح السنة للبغوي 10/287
  8. انظر: تفسير الخازن 2/55، اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي 7/343، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/148، تفسير الجلالين 144، فتح القدير 2/61
  9. انظر في المذاهب الأربعة:  بدائع الصنائع 7/113، الذخيرة للقرافي 457-458 و 326، الحاوي للماوردي 14/386-387،  المغني 10/190 وعند  المفسرين انظر:  المحرر الوجيز 2/226، الجامع لأحكام القرآن 6/185،  التحرير والتنوير 6/205-206

 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الثانية، ص133
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص
اقرأ أيضا
اكتساب الهمة | مرابط
ثقافة

اكتساب الهمة


لا شك أن قابلية اكتساب الهمة والعزم كبيرة فالله جل وعلا كلف العباد جميعا - إلا من استثنى الله منهم - بتكاليف متساوية في الجملة وكل هذه التكاليف تفتقر إلى الهمة وصدق العزم كالصلاة والصيام والإنفاق والحج وترك الشهوات المحرمة والمنكرات الفاحشة وإذا كانت الهمة غير مكتسبة ومستطاعة التحصيل لكانت التكليفات ظلما لطائفة من العباد تعالى الله عن ذلك. والحياة تدفع لنا كل يوم صورا عظيمة لأناس هزموا اليأس وتغلبوا على أنفسهم وصاروا من أصحاب الهمم العالية كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة.

بقلم: كريم حلمي
441
كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟ | مرابط
تعزيز اليقين

كيف كان النبي يعالج الكرب والهم والغم والحزن؟


فصل ماتع من كتاب الطب النبوي لابن القيم يبين فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاج الهم والغم والكرب والحزن ويجمع فيه الأحاديث الواردة في هذه المسائل ودلالتها.

بقلم: ابن القيم
375
الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها | مرابط
أباطيل وشبهات فكر الإلحاد

الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها


إن الفهم السقيم الذي يحاول بعض الملاحدة نشره هو أن نفي وجود الخالق أو مجرد تدخله يمكن أن يكون بشرح الآلية التي يعمل بها شيء كان يقال عنه إنه من سنع الله فإن استطاع شخص فهم القوى الفيزيائية المؤثرة على بقاء الأرض أو القمر أو غيرهما في مدارات محددة قال: هذا ما يبقيها إذا وليس الله كما كنت أعتقد

بقلم: سامي أحمد الزين
519
الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص | مرابط
تفريغات

الاحتجاج بالخلاف في مواجهة النص


تفريغ لمحاضرة للشيخ إبراهيم السكران يتحدث فيها عن موضوع الخلاف وكيف تحول في زماننا إلى حجة يقفون بها أمام النص فكلما ذكرت لأحد نصا أو أمرا شرعيا يقول لك فيه خلاف وهذا الخلاف عنده يساوي الإباحة أي أن هناك الكثير من الأحكام الشرعية قد تعطلت بحجة الخلاف وهذا ما يناقشه الشيخ في المحاضرة

بقلم: إبراهيم السكران
3083
من ذكريات الحج | مرابط
مقالات

من ذكريات الحج


ألا ترون العروق الشعرية كيف تحمل الدم من أطراف الجسم ثم تصبه في الأوردة الكبار حتى يدور دورته في القلب مجتمعا وفي الرئة منتشرا فيصفو بعد العكر وينقى من الوضر ويعود في الشرايين دما أحمر جديدا بعد أن كان في الأوردة دما أسود فاسدا كذلك الحج يأتي المسلمون من آفاق الأرض الأربعة أفرادا ثم ينتظمون جماعات ثم يدورون حول الكعبة قلب الأرض المسلمة ثم ينتشرون في عرفات رئة الجسم الإسلامي فتصفي نفوسهم من أكدار الشهوات وتنقى أوضار الذنوب ويعودون إلى بلادهم أطهارا قد استبدلوا بتلك النفوس نفوسا جديدة كأنها م...

بقلم: علي الطنطاوي
767
شبهة: أنا مسلم غير متدين! | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: أنا مسلم غير متدين!


إن نفي المسلم صفة التدين عن نفسه يساوي نفي الإسلام عن نفسه وفي الغالب هو لا يقصد ذلك لأننا إذا سألناه عن دينه سيجيب بأنه مسلم ونفيه التدين عن نفسه يعني أنه بلا دين وهذا تناقض. في الحقيقة هذه من العبارات المستوردة من الثقافات العلمانية الغربية التي تتبنى الفصل بين الدين وحياة الإنسان الشخصية

بقلم: د. جمال الباشا
419