فاحكم بينهم أو أعرض عنهم

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

2356 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أستاذٌ فاضلٌ كان كثيرًا ما يكرر على مسمعي هذه الكلمات:
( أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة أنها تعتمد على بعض النصوص وتترك بعض، فأخذها ببعض النصوص جعلها تظن أنها تعتمد على الشريعة، ولو نظرت في النصوص جميعًا لظهر لها الانحراف بشكل جلي).
 
وما أكثر الوقائع التي جعلتني أتذكر هذه الكلمات، وأكثر شيءٍ شدني فيها أنها تفسر حالة بعض الانحرافات التي تستدل – بصدق – بآيات من القرآن أو بأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُعلم قطعًا أنه مخالف لأحكام الشريعة وتأباه قواعدها وأصولها ولا يقول به فقيه، وهو أحد تطبيقات اتباع المتشابه الذي حذرنا الله تعالى منه في كتابه (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

تذكرت هذه الكلمات - مرة أخرى -  قبل أيام لما رأيت بعض الناس يستشهد بقول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)
يستدل بها على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها، فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنًا بها  لا يكون ملزمًا  كما خير الله في هذا الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم، ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار.

صدمت من هذا الاستدلال، لأن هذه النتيجة تضرب حكمًا قطعيًا من أحكام الإسلام، فكيف استهان أن يضرب هذا الأصل بمجرد فهم عارض طرأ عليه؟

وحتى لو جهل الباحث عن الحق معنى هذه الآية فمن العقل والحكمة أن ينظر في النتيجة التي يأخذها من الآية، فلا يمكن أن يأتي بها على حالة يراها ممزقة لأحكام وآيات كثيرة، فأين هو عن قول الله تعالى (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ونحو هذه الدلائل القاطعة أن الإسلام حاكم على الجميع ولا يجوز تجاوزه أو التخيير في حكمه بمجرد أن أحدًا أو جماعة لا تريد ذلك.

 

تفسير الآية

إذن، ما تفسير قول الله تعالى (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم)

لأهل التفسير اتجاهان في تفسير هذه الآية..

الاتجاه الأول: يرى أنها منسوخة بقول الله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله)
والاتجاه الآخر:  يرون أنها غير منسوخة وأنه لا تعارض بينها وبين قوله تعالى (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) لأن المقصود أنه مخير، فإذا حكم وجب الحكم بما أنزل الله.[1]

وبناءً عليه، يرى بعض الفقهاء أنه يلزم القاضي أن يحكم بينهم إذا ترافعوا إليه[2]، ويرى آخرون أنه لا يلزم القاضي أن يحكم بين أهل الكتاب حين يأتوه.[3] وعلى كلا اتجاهي التفسير، وعلى كلتا الرؤيتين الفقهيتين فالحكم يتعلق بجزئية معينة، هي تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم فيما لا يلزمهم من أحكام الإسلام، فالآية لا تتحدث عن (أهل الإسلام) الذين يلزمهم أن يحكموا بالإسلام في كافة قضاياهم، ولا تتحدث عن (أهل الكتاب) فيما يلزمهم من أحكام الإسلام، إنما موضوع الآية في بعض الأحكام التي جعلت الشريعة لأهل الكتاب بأن لهم أن يتحاكموا فيها إلى دينهم، فإن اختاروا التحاكم إلى المسلمين فهل يلزم المسلمين الحكم بينهم؟

 

الخلل في تفسير الآية

هذا هو محل الآية، هو في الحكم بين أهل الكتاب فيما لا يلزمهم، فجاء هذا الاستدلال ليجعله حكمًا عامًا لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ويجعله حكمًا  عامًا لكافة القضايا ولو أدى لعدم الحكم بالإسلام، فضرب في أصول الإسلام يمنة ويسرة من حيث يظن أنه يستدل بآية قطعية الثبوت والدلالة! وهي مشكلة قد لا تظهر للقارئ إلا بعد أن ينظر في النصوص كلها فيتضح له عمق هذا الإشكال ومخالفته القطعية، لهذا كان العلماء يوصون بأهمية الرجوع لكلام أهل العلم بكتاب الله قبل الحكم لأنهم ينظرون في النصوص جميعًا فلا يقعون في مثل هذه الانحرافات والأخطاء الفادحة.

فهذا الخطأ صدم برأيه المتسرع هذا أمرين محكمين من محكمات الشريعة التي أجمع العلماء عليها:

المحكم الأول:  أن المسلم لا يُحكم في النظام الإسلامي بغير الإسلام أبدًا، وحتى لو اختلف مع كتابي فيجب الحكم بينهم بحكم الإسلام، وهو محل وفاق بين العلماء، وفيه ما لا يحصر من نقولات الاجماع:
فمنها مثلًا:

(فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولًا واحدًا سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا لأنهم يتجاذبان إلى الإسلام والكفر فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب).[4]

(واتفقوا فيما أعلم على أنه إذا ترافع مسلم وكافر أن على القاضي الحكم بينهم).[5]

(وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه)[6]

(فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة)[7]

وغيرهم ممن نقل هذا الإجماع المحكم.[8]

وإذا كان هذا في مسلم مع كتابي فكيف إذن إن كان بين مسلمين؟ فليس للمسلم خيار في قبول الشريعة أو رفضها (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا  أن يكون لهم الخيرة من أمره) بل إن رفضها يعتبر في النظام الإسلامي جناية تستحق العقوبة وليس المكافأة!
 
المحكم الثاني: أن هذا ليس في كل القضايا بل في بعض القضايا التي تركتها الشريعة لأهل الكتاب، وليس في كل الأحكام فإن ( الأمّة أجمعت على أنّ أهل الذمّة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأنّ عهود الذمّة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددتْ لهم شرائعهم)

فحكم الإسلام شامل بعدله ورحمته وكماله لجميع المنضوين تحت سلطانه، غير أنه ترك لغير المسلمين بعض الأحكام فجعل لهم أن يتحاكموا فيها بينهم لان حكم الإسلام فيها أنهم غير ملزمين بأحكام المسلمين، وذلك مثل عباداتهم وأنكحتهم ومعاملاتهم وما يستحلونه كشرب الخمر، وأما ما تجاوز ذلك فهم ملزمون فيه بأحكام الإسلام.
وثم اختلاف في فروع المذاهب الفقهية في حدود ما يختص بغير المسلمين فعله مما لا يجوز للمسلمين فعله، سيصل قارئها لنتيجة قطعية ظاهرة هي أن ثم مساحة معينة – بشروطها – فقط هي التي لا يلزمهم فيها حكم الإسلام وهي التي جرى الخلاف فيها فيما لو جاءوا هل يلزم الحكم بينهم، لأنها مساحة تركتها الشريعة لهم، ولن يجد أحدًا يقول إنهم مخيرون في أحكام الإسلام كلها، بل هم متفقون على لزوم أحكام الإسلام عليهم في الجملة.[9]
 

خلاصة هذا الكلام كله:

أن حكم الآية خاص بأهل الذمة فقط، وخاص ببعض أقضيتهم، لكن هذا تحول بكل تهاون وعجلة إلى أن يكون شاملًا للمسلمين، وشاملًا لكل القضايا، من دون أن يتروى قائله قليلًا في هذه النتيجة التي تضرب في المحكمات من حيث لا يشعر!

فعجبًا كيف يستدل بآية قرآنية ليقع في هذا الخطأ الفادح!
 
 وفيه عبر:


1-ضرورة النظر في النصوص جميعًا، وأن الاستدلال بالنص الشرعي لا يكفي ما لم يضم لجميع النصوص في الباب حتى يتضح مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
2-ضرورة مراجعة كلام أهل العلم والنظر في أقوالهم وتفسيراتهم، فمن الكسل المعرفي والعجز العلمي أن يخوض المسلم في مثل هذه القضايا الكبيرة وهو خلو الذهن عن الاستفادة من تراث قرون تعاقبت فيها الأذهان والأقلام في التحرير والنظر والتدبر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
3-ضرورة صيانة أحكام الشريعة من  التفسيرات العاجلة التي يدفعها ضغط واقع معين أو حاجة ماسة ما، فيجد المسلم نفسه يتقبل كثيرًا من الأقوال والتفسيرات متخففًا من الأصول المنهجية والقواعد العلمية في النظر والاستدلال لأن ثم قوة دافعة تجعله لا يقف عندها كثيرًا.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: تفسير الطبري10/ 325-330
  2. هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية ورواية عند الحنابلة،  انظر: بدائع الصنائع2/312، الحاوي 9/307،  المغني 10/190.
  3. هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية،  انظر: الذخيرة 3/458، المغني 10/190، الحاوي 9/307
  4. الحاوي في فقه الشافعي 9/308
  5. الذخيرة 10/112
  6. المغني 10/191
  7. تفسير البغوي 3/59، وانظر: شرح السنة للبغوي 10/287
  8. انظر: تفسير الخازن 2/55، اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي 7/343، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/148، تفسير الجلالين 144، فتح القدير 2/61
  9. انظر في المذاهب الأربعة:  بدائع الصنائع 7/113، الذخيرة للقرافي 457-458 و 326، الحاوي للماوردي 14/386-387،  المغني 10/190 وعند  المفسرين انظر:  المحرر الوجيز 2/226، الجامع لأحكام القرآن 6/185،  التحرير والتنوير 6/205-206

 

المصدر:

  1. فهد بن صالح العجلان، معركة النص المجموعة الثانية، ص133
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#معركة-النص
اقرأ أيضا
المروجون لسؤال غير الله ودعائه | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

المروجون لسؤال غير الله ودعائه


إن المروجين لسؤال غير الله ودعائه والنذر له.. بأقوالهم وأفعالهم هم كذلك يحاربون الفطرة والدين والعقل. أولئك مضلون صادون عن سبيل الله وهؤلاء كذلك.. ويجب بيان باطلهم وكشفهم وفضحهم بكل وضوح صراحة. هم والله قطاع طرق يصدون عن سبيل الله. ولا أعلم شيئا أولى بالرد والبيان والتفصيل من مقام إخلاص الدين لله الذي هو الأصل الذي خلق الله له السموات والأرض وما بينهما.. أن يكون الدين كله لله وليس بعضه له وبعضه لشركائهم!

بقلم: حسين عبد الرازق
317
الحكمة من خلق الخلق ج1 | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الخلق ج1


تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني يقف فيها على سؤال بديهي وربما لا يخطر لكثير من الناس رغم حاجتهم الشديدة إليه ألا وهو: لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن فمعرفة هذا الجواب وإدراك الغاية والحكمة من الخلق ربما يبدل الكثير من التصورات الخاطئة عند الناس ويعينهم على العودة إلى طريق الرشاد

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
487
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2


الأساس الأول الذي بنيت عليه أمة الإسلام والذي بنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم وبغيره لا تقوم أمة ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظمه ونجله وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فهذا تفتقده الأمم الأخرى فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة ب...

بقلم: د راغب السرجاني
677
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
486
الموظفة: الترغيب في المحتارة والزهد في المختارة | مرابط
المرأة

الموظفة: الترغيب في المحتارة والزهد في المختارة


المرأة العاملة غارقة في مخالفات شرعية كالاختلاط وكثرة الخروج ومزاحمة حق الرجل في العمل لكن لا ينبغي تعميم الحكم فمنهن المضطرة التي تسأل الله القرار ولم يتيسر لها بعد

بقلم: قاسم اكحيلات
265
إمكانيات فهم القرآن | مرابط
فكر مقالات

إمكانيات فهم القرآن


وأتذكر قصص السلف التي رويت في تراجمهم وما ذكر عن تهجدهم بالأسحار وقيام بعضهم الليل كله بآية يرددها من كتاب الله وجاء هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي ذر عند النسائي أيضا أتذكر هذه المشاهد من قيام بعض السلف ليلة كاملة بآية واحدة وأقول في نفسي: يا ترى كم هي المعاني التي فتحت لهذا المتهجد في قيام الليل حتى أصبحت قراءة الآية لا تزيده إلا شغفا بإعادتها

بقلم: إبراهيم السكران
645