فضيلة شهر شعبان

فضيلة شهر شعبان | مرابط

الكاتب: عبد الله بن ناصر السلمي

424 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد على آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:

فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهتم بشهر شعبان ما لا يهتم بغيره؛ ولهذا روى النسائي والإمام أحمد من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! رأيتك تكثر من صيام شعبان أكثر من صيامك شهر رجب، فقال: صلى الله عليه وسلم: ذاك شهر بين رجب ورمضان وهو شهر تغفل الناس عنه، وهو شهر أحب أن أصوم فيه، وهو شهر ترفع فيه الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم).

 

فدل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصيام شعبان على أنه أفضل من صيام رجب؛ ولهذا قال أهل العلم: أفضل الصيام بعد رمضان شهران، أولهما: شهر الله المحرم كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)، وثانيهما شهر شعبان، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها و ابن عباس: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صيامًا من شهر بعد رمضان من شهر شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا)، وقد جاء في حديث أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله).

 

وقد اختلف العلماء هل يستحب صيام شعبان كله أم يصام فيه بعض الأيام حتى لا يشبه رمضان؟ فذهب عبد الله بن المبارك و سفيان وروي عن أحمد أنه لا ينبغي أن يصام شهر شعبان كاملًا. وأما ما جاء في قول عائشة: (كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا)، فإن عبد الله بن المبارك أشار إلى أن العرب تقول: كان فلان يصوم شهرًا كاملًا، ويريدون من ذلك بعض الأيام؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلًا.

 

وأما ما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله)، فإن أهل العلم يقولون: إنه محمول على أن أم سلمة روت بما تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، أو أن أم سلمة رضي الله عنها إنما أخذت بلغة العرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله وتقصد إلا يومًا أو يومين. وإذا ثبت هذا فإن استحباب صيام شعبان متأكد تأكيدًا شديدًا سواء صام المسلم أوله أو وسطه، ما دام أنه يقصد صيام شعبان.

 

إذا انتصف شعبان

أما ما جاء في الحديث الذي رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)، فهذا الحديث حاول الإمام ابن حبان أن يصححه، وأن يجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى، وكذلك حاول الشيخ الألباني، فقالوا: إن المقصود أن من كان يصوم أول شعبان ثم جاء منتصف شعبان وهو يصوم فلا حرج عليه أن يصوم؛ لأنه غير مخاطب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلًا)، وأما من ابتدأ الصيام فإنه لا ينبغي إذا انتصف شعبان أن يبتدئ الصيام، وهذا بناء على تصحيحهم لحديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة.

 

والصحيح -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن هذا الحديث ضعيف وإن كان ظاهره الصحة، فإن العلاء من رجال مسلم، لكن الإمام أحمد و ابن رجب و الأثرم والطحاوي وغيرهم أشاروا إلى أن الحديث منكر، وأن الأحاديث الصحيحة تخالفه؛ فإنه قد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصيام يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه).

 

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه لا يُتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، لكنه لو أراد أن يتقدم بأكثر من ذلك جاز له ذلك، كما أشار إلى ذلك الإمام الأثرم وغيره، وقد حاول بعضهم أن يقول: إن الحديث منسوخ. والصحيح أن الحديث ضعيف، وإذا ثبت هذا فإننا نقول للناس: يشرع لكم أن تصوموا شعبان، سواء ابتدأتم صيامه من أوله أو من وسطه أو من ثلثه أو من الثلث الأخير شريطة أن لا يكون ذلك قبل رمضان بيوم أو يومين؛ لأجل أن لا يدخل من رمضان ما ليس فيه، وإذا ثبت هذا فإن شعبان فيه فضيلة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه.

 

ليلة النصف من شعبان

السؤال الذي يُطرح كثيرًا: هل في ليلة النصف من شعبان فضيلة؟

أشار أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم إلى اختلاف أهل العلم في فضل ليلة النصف من شعبان؛ وذلك بناء على الأحاديث والآثار المروية في ذلك، فبعض أهل العلم صححها من المتأخرين والمتقدمين وكان مكحول رضي الله عنه ورحمه يبالغ في ذلك، ويراها فضيلة، بل إن بعضهم كان يرى أن أجر ليلة النصف من شعبان مثل أجر ليلة القدر، كما ذكر ذلك عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة أنه حُدث أن زيادًا المنقري النميري كان يقول: إن أجر صيام ليلة النصف من شعبان مثل صيام ليلة القدر، فقال ابن أبي مليكة: لو أني سمعت زيادًا يقول ذلك وبيدي عصا لضربته. مما يدل على أن هذه مبالغة.

 

ولقد ذكر ابن وضاح في كتابه العظيم البدع عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رضي الله عنه أنه قال: لم ندرك أحدًا من علمائنا ولا فقهائنا يذكرون في ليلة النصف من شعبان فضيلة أو عملًا، ولم أدرك أحدًا يقول بقول مكحول، وقال ابن أبي زيد: لم يكن فقهاؤنا يهتمون بها، يعني: من باب العبادة. وقد قال أبو العباس ابن تيمية كلامًا فصلًا في هذا فقال: أما فضلها فقد اختلف فيه، والصحيح مذهب أحمد وغيره أن لها فضلًا. لكن هذا الفضل لا يجوز الاحتفال فيه، ولا تخصيصه بعبادة صيام أو قيام أو غيرها من العبادات، فكونها لها فضل لا يلزم أن يكون لها عبادة تخصها.
 

وقد جاءت أحاديث تدل على فضلها، من ذلك ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه كما عند البزار وغيره، وقد روى ابن ماجه من حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي يرويه القاسم بن محمد عن عمه أو أبيه عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن)، وهذا الحديث وإن كان في سنده ضعف، وفيه عبد الملك بن عبد الملك، وقد أشار الإمام البخاري إلى أنه فيه نظر، وأشار الإمام البزار إلى أن فيه ضعفًا، قال: ولما رأيت أهل العلم يتداولونه ويذكرونه ويحتملونه ذكرته، فهذا يدل على أن هذا محتمل.

 

ومما يدل على ذلك أن هذه اللفظة (إلا لمشرك أو مشاحن) جاءت من طرق غير طريق أبي بكر فمن ذلك حديث أبي موسى يرويه ابن ماجه وغيره من طريق مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيغفر لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن)، وإن كان في الحديث انقطاع؛ وذلك لأن مكحولًا لم يسمع من مالك بن يخامر، ولكن الحديث يدل على أن له أصلًا، وقد جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده أيضًا ابن لهيعة.

 

وأحاديث ليلة النصف من شعبان جاءت عن ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منها:

الحديث الأول: حديث عائشة وفي سنده ضعف؛ لأن في سنده الحجاج بن أرطأة، وكذلك يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم كـالترمذي و البخاري.

الحديث الثاني: حديث أبي موسى وفي سنده أيضًا ضعف، فإن في سنده الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب لم يسمع من أبي موسى وكذلك فيه ابن لهيعة.

الحديث الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده ضعف. وكذلك حديث أبي بكر وقد مر معنا، وحديث معاذ بن جبل وقد مر معنا، وكذلك حديث أبي ثعلبة وقد مر معنا، وحديث علي بن أبي طالب، وغير ذلك من الأحاديث الواردة.

 

وعلى هذا فإننا نقول: إن ليلة النصف من شعبان فيها فضل بينها الحديث على أن الله يغفر فيها لعباده، لكن ليس فيها ما يدل على تخصيصها بعبادة كما أشار إلى ذلك أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفذ اقتضاء الصراط المستقيم، وعليه فالاحتفال ليلة النصف من شعبان لا يجوز، وتخصيصها بعبادة لا يجوز؛ لأن كل عبادة خصصت بزمن أو مكان أو أشخاص فإنها من البدع الإضافية التي يشير إليها أهل العلم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شهر-شعبان
اقرأ أيضا
الدليل العقلي عند السلف ج1 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج1


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
453
لماذا لا نستمتع بالنعم | مرابط
فكر مقالات

لماذا لا نستمتع بالنعم


حديث رائع للدكتور إياد قنيبي يدور حول استشعار النعم التي وهبنا الله إياها وأحاطنا بها وكيف أن كثيرا من المسلمين لا يدرك هذه النعم أو يشعر بها فقد بهتت أدوات استشعار النعم في داخله وبات لا يولي نظره إلا لأهدافه التي لم يحققها أو فشل في تحقيقها فيغيب عن ناظريه قدر النعم العظيمة التي ما زال يملكها

بقلم: د إياد قنيبي
2549
تحرير نسبة الأقوال إلى أصحابها | مرابط
مقالات

تحرير نسبة الأقوال إلى أصحابها


ندرك هنا أهمية الحذر من الخطأ في نسبة الأقوال البدعية إلى الأئمة نتيجة الاعتماد على ما يرويه من تأثر ببعض البدع المحدثة حتى يصير يفسر كلام إمام من أئمة أهل السنة والأثر -كما حصل هنا مع الإمام أحمد- على قواعد أهل الكلام المناقضة لمنهجه وما علم عنه بالضرورة فلا هو حكى أقوال الإمام بألفاظها كما وردت عنه ولا هو فسرها على وفق ما علم عنه

بقلم: عبد الله القرني
520
ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر | مرابط
مناقشات

ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر


كتاب ردود علماء الغرب على الإلحاد المعاصر هو في الأصل رسالة دكتوراه نوقشت وأجيزت في قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية لكن الكتاب ليس مجرد عمل أكاديمي بحت وإنما هو في الحقيقة نتيجة تجربة ومجاهدة ثرية ومثيرة للباحث الدكتور عبدالله السويدي يتبين بها معنى أن الله تعالى إذا أراد شيئا هيأ أسبابه وأن الإنسان إذا جاهد في الله وسعى بإخلاص في طلب الحق هداه الله تعالى ووفقه وصرف عنه ما يعيقه عن الوصول إلى غايته.

بقلم: عبد الله القرني
547
كيف تقرأ كتابا ج5 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج5


وأحيانا يحتاج القارئ أن يقرأ كتابا آخر ليعرف طريقة مؤلف أو كتاب مثل صحيح البخاري العلماء استقرءوا منهج البخاري ووضعوه في كتب وبعض كتب الفقه لها مصطلحات مثلا: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لابن عبيدان الحنبلي هذا إذا قال: اتفقوا يقصد الأئمة الأربعة مثلا أحيانا إذا قال: اتفقت يقصد ثلاثة إلا فلانا أحيانا إذا قال: اتفقا يقصد فلانا وفلانا ولكن ليس دائما يقول هذا فلابد أن تعرف ذلك وقد ذكر لك الاصطلاح في البداية

بقلم: محمد صالح المنجد
482
شروط الإفتاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

شروط الإفتاء


وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه فقال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة وذكر الكلام المتقدم

بقلم: ابن القيم
642