فقه الخلاف في حياة الصحابة

فقه الخلاف في حياة الصحابة | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

441 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

ثَمَّة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة، وقد كانت عقول الصحابة كبيرة، وإيمانهم عالٍ، فكانوا يعذرون بعضَهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.

نموذج بني قريظة

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى الخطاب، وقالوا: هناك مفهوم ومنطوق، فالمنطوق وهو ظاهر الكلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) إذًا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، حتى ولو لم ندخل إلا بعد العشاء، وجماعة أخرى قالوا: لا. نحن عندنا الأصل: "إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" [النساء:103]، فلا يحل إخراج الصلاة عن وقتها، وإلا ضيعنا الآية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقصد أننا نجد ونجتهد، وليس معناه أننا نؤخر الصلاة، وإنما المقصود المبادرة، وكلا الفَهمين سائغ على المنطوق والمفهوم.

ولكنهم رضي الله عنهم -عندما اختلفوا- لم يتنازعوا ولم يكفر بعضهم بعضًا، ولم يتفرقوا. ثم مضت الغزوة ودخلوا بني قريظة، والذي صلى في الطريق صلى، والذي أجَّل الصلاة أجَّل. وبعد ذلك لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَكَوا له الخلاف، قال الراوي: (فلم يعِبْ على أحد).

ورُبَّ شخص يقول: معنى ذلك أن الحق يتعدد، أي: لا يكون طرف منهم قد أخطأ.
ويقول آخر: لا يمكن أن يكون الحق شيئًا وضدَّه أبدًا، فالذين صلوا إما محقون أو مخطئون، والذين تركوا الصلاة وأجَّلوها إما مخطئون وإما محقون، والحق لا يكون إلا واحدًا، ولا يكون ضدين أبدًا.

فنقول: إن كَوْن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعِبْ ليس معناه أن كليهما حق في نفس الأمر؛ لكن معناه أن المخطئ اجتهد، وأفرغ الوُسْع في طلب الحق، فكيف يُلامُ مَن أفرغ الوسع في طلب الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)، أَيُذَمُّ مَن أصاب أجرًا؟! لا يَذُمُّ مَن أصاب أجرًا واحدًا؛ لأن الحق واحد فقط، فالذي أصاب الحق أصابه، والذي لم يصب الحق أصاب أجرًا واحدًا، فليس من اللائق أن يُعَنَّف مَن أصاب أجرًا واحدًا.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف، وليس معنى هذا أن كلا القولين حق.

نموذج من أحد الأسفار

وفي الصحيح: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها؛ حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا قريبًا منكم لعله أن يكون عندهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط: إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم. والله! إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال ...).

وقد ورد الحديث برواية أخرى فيه: (إن سيد الحي سليم)، وسليم بمعنى لديغ، وهي في الأصل لا تعني اللدغ، ولكن العرب يقولون (سليم) تفاؤلًا بالسلامة.

كما أن القافلة هي التي قَفَلَت أي: رجعت؛ أما التي غادرت لا يقال لها: قافلة، إنما يقال: قَفَل إذا رجع، فَهُم يقولون: خَرَجَت القافلة مع أنه في الأصل لا يقال قافلًا إلا لمن كان راجعًا، فسميت قافلة؛ رجاء رجوعها.

والصحراء سميت مفازة تيمنًا بالفوز منها؛ لأن الذي يضل فيها يموت.

والرواية التي عند البخاري ومسلم لم توضح مَن الراقي؛ لكن وقع في سنن النسائي وأبي داود أن أبا سعيد قال: (فانطلقت إليه فجعلت أبصق وأقرأ: الحمد لله رب العالمين).

فأخذ الصحابة رضوان الله عليهم القطيع من الغنم وانطلقوا إلى رسول الله ليسألوه أيحل لهم أم لا؟ -هذا هو الجيل الذي نريدكم أن تتأسوا به، فلا يحركون ساكنًا ولا يسكنون متحركًا إلا إذا كان مأذونًا لهم، هذا هو معنى العبودية: أنك قبل أن تفعل الشيء اسأل فيه؛ ما حكم الله ورسوله؟ هذا هو حق الإسلام عليك، حق الالتزام- قال: لا نفعل حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءوا وجاءوا بالغنم، وحدثوا النبي بما جرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (وما أدراك أنها رُقْية؟ -ما الذي عرَّفك؟ هو لا يعرف شيئًا عنها، وهذه كانت أول مرة له يرقي فيها- قال: يا رسول الله! شيءٌ أُلْقِي في روعي).

من أجل هذا تجد أحيانًا شخصًا يدعوك ويقول لك: تعال ارقِ، فتقول له: أنا ما جربت هذه المسألة، وما عملتها قبل هذا!

يا أخي! قد يجعل ربُّنا سبحانه وتعالى على يدك الشفاء. فهذا أبو سعيد الخدري لم يكن يعرف شيئًا، ولم يجربها قبل هذا في عمره، ولما اختار الفاتحة اختارها هكذا من أجل شيء وقع في صدره. (قال: شيءٌ أُلْقِي في روعي، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يبين لهم أنها حلال قال: اضربوا لي معكم بسهم)، وما قال له: حلال. وسكت؛ لأن هذه أقوى من مجرد القول فالرسول عليه الصلاة والسلام قد يتعفف عن الشيء الذي يكون حلالًا لأصحابه، لكن أنه يأكل هذا من أقوى أدلة الجواز والإباحة.

فهذه الخلافات كانت موجودة.
أعني مثلًا: لو أن هذا حصل في زماننا، فمن الممكن أن واحدًا منهم يقول: انظروا إلى الأَثَرَة! انظروا إلى الأنانية! أنا كنتُ أظنه (أَخًَا في الله)، فظَهَرَ (فَخَّا ليس في الله)! فهذه أَثَرَةٌ وأنانية، وأخذ الغنم عنده، ولا يريد أن يعطينا منها.

فيحصل الحقد.. لكنهم قالوا: (ليس قبل أن نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفتينا في المسألة).

فهناك خلافات فرقت بين الإخوان أدنى من هذا مائة مرة، وإذا اختلف مع أخيه تجده لا يصلي في المسجد الذي يصلي فيه، ولا يقابله في الشارع وإذا لقيه تجده يجري؛ من أجل خلاف تافه حقير لا قيمة له ولا واقع.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصحابة
اقرأ أيضا
قضايا يدور حولها الجدل: الحرية | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

قضايا يدور حولها الجدل: الحرية


إن رسالة الرسل كان فيها من معاني الحرية ما هو أكثر من ذلك وهي تخليص الإنسان من معاني العبودية الخفية التي لا يشعر بها كالخضوع للمال وعبادته أو للشهوة وعبادتها وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على مفهوم الحرية لفحص ما أثارته من الجدل وتوضيح معناها السليم

بقلم: أحمد يوسف السيد
2081
في القرآن كفاية الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

في القرآن كفاية الجزء الأول


في القرآن كفاية تأتي هذه الشبهة في مقولة تظهر صاحبها في صورة المكتفي بالقرآن مصدرا للحجة والاستدلال فإذا استدللت لحكم شرعي بدليل من السنة النبوية قذف بهذه المقولة في وجهك مدعيا كفاية القرآن في إقامة الدين دون الحاجة لمصدر آخر وقد يعضد صاحب هذه المقولة مقولته ببعض الأدلة القرآنية كمثل قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أو قوله سبحانه: ما فرطنا في الكتاب من شيء

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2864
السياسة الرشيدة في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

السياسة الرشيدة في الإسلام


أتى على العالم حين من الدهر وهو يتخبط في جهل وشقاء ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه- بعزم لا يحوم عليه كلال وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض فأخذ يضع مكان الباطل حقا ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة وما لبثت الأمم أن تقلدت آدابا أصفى من كواكب الجوزاء وتمتعت بسياسة يتجلى بها العدل في أحسن رواء وأرفع سناء

بقلم: محمد الخضر حسين
1312
عقيدة شاملة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

عقيدة شاملة الجزء الأول


تمتاز العقيدة الإسلامية بالشمول لكافة مناحي الحياة وكافة جوانب الإنسان وقد يقال أن إثبات هذه الشمولية يحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص ولكننا نقول أن مجرد النظر إلى جنبات هذه العقيدة والشريعة يكفي للعيان وفي هذا المقال بجزئيه يكشف لنا الكاتب عباس محمود العقاد عن شمولية هذه العقيدة الساطعة

بقلم: عباس محمود العقاد
2249
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
740
المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه | مرابط
اقتباسات وقطوف

المعاصي تجرئ على الإنسان أعداءه


قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي وكذلك يجترئ عليه أولياء الأمر بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله وتجترئ عليه نفسه فتتأسد عليه وتصعب عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبي

بقلم: ابن القيم
2082