أنواع الاختلاف

أنواع الاختلاف | مرابط

الكاتب: شيخ الإسلام ابن تيمية

892 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد.

 

اختلاف التنوع

واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن».

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل.

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك، وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.

ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا.

ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين.

ثم الجهل أو الظلم: يحمل على ذم إحدهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم.

 

اختلاف التضاد

وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: " المصيب واحد "، وإلا فمن قال: " كل مجتهد مصيب " فعنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.

وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.

ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة: من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.

وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].

وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون.

وكما في قوله: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم.

وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.

وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».. ونظائره كثيرة.

وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام.

وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] إلى قوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253].

فقوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253] حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم للآخرى، وكذلك قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج: 23] مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: " أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد.

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك.

وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213] ؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.

وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة.


وقريب من هذا الباب: ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.

لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه

 


 

المصدر:

شيخ الإسلام ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ص148


 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الاختلاف
اقرأ أيضا
فن أصول التفسير ج5 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج5


ما هي السور التي ابتدأت بالقسم وما هي أنواع المقسم به فعندنا هنا أقسم بالطور فلو أردنا أن نأخذ نظائر لهذه السورة من جهة الابتداء نجد مثل: والشمس وضحاها الشمس:1 مثل: والذاريات ذروا الذاريات:1 مثل: والنجم إذا هوى النجم:1 مثل: والليل إذا يغشى الليل:1 مثل: والفجر الفجر:1 إذا نلاحظ أن عندنا نظائر لهذه السورة من جهة القسم ومفيد جدا لتالي القرآن أن يتأمل ما هي النظائر في الخبر والإنشاء ما هي النظائر في قضية القسم يعني ما هي السورة التي ابتدئ بها بالقسم ما هي السورة التي ابتدئ بها بالحمد ما هي السو...

بقلم: مساعد الطيار
645
جذور الخطاب المدني المعاصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

جذور الخطاب المدني المعاصر


يبدو أن الخطاب المدني المنتشر في بلادنا الإسلامية قد حظي باهتمام بالغ لدى الباحثين في محاولة لمعرفة الجذور التي أدت إليه يقول البعض أنه نتاج مباشر للمدرسة العقلانية بينما يظن آخرون أنه الامتداد الطبيعي لمدرسة المعتزلة أو أنه نتج بسبب الانبهار الشديد بالغرب وبين يديكم مقتطف هام من كتاب مآلات الخطاب المدني يقف فيه إبراهيم السكران على هذا التساؤل الهام والآراء المنتشرة حوله

بقلم: إبراهيم السكران
655
تحديد المنهجية في انتقاء الكتب | مرابط
تفريغات

تحديد المنهجية في انتقاء الكتب


ما هو السبيل إلى الانتفاع بالكتب وهي كثيرة لأنك إذا دخلت في الكتب على غير منهج تفارق عليك أمرك فأفضل وسيلة بعدما تأخذ قدرا من العلم وهذا كلام موجه إلى من انتهى من الفرض العيني ويريد أن يتخصص يعني كلامنا ليس للذين يطلبون الفرض العيني فأفضل وسيلة أن تأتي لكل فن من الفنون بأفضل كتاب وأشده تحريرا وتبدأ تخدم هذا الكتاب وتقرؤه بتمعن فافترض مثلا أنك تبنيت كتابا فقهيا فتأخذ -على سبيل المثال- نيل الأوطار أو سبل السلام -وله متن أيضا- على أساس أنه من أقصر الكتب وأفضلها

بقلم: أبو إسحق الحويني
569
مع القلوب الصخرية | مرابط
مقالات

مع القلوب الصخرية


يا أخي والله لقد قرأت كثيرا كثيرا في كتب الرقائق والإيمانيات والمواعظ وجربت كثيرا من الوسائل التي ذكروها وأصدقك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى لا أنكر أن فيها فائدة لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط دواء واحد لا غير وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي هذا العلاج هو بكل اختصار تدبر القرآن.

بقلم: إبراهيم السكران
232
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
684
الحسد يصد عن الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحسد يصد عن الحق


أحيانا يمتنع المخالف عن اتباع الحق ليس لوجود حجة عقلية أو دليل يجهله أو أي مانع خارجي يمنعه وإنما يرجع الأمر في النهاية إلى الحسد الداخلي الحسد هو الذي يدفعه إلى المكابرة وإلى صد الحق والابتعاد عنه وفي هذا المقتطف يتحدث الإمام ابن القيم عن الحسد وكيف أنه يمثل جسرا لترك الحق والصد عنه

بقلم: ابن قيم الجوزية
1791