السياسة الرشيدة في الإسلام

السياسة الرشيدة في الإسلام | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

1153 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أتى على العالم حين من الدهر، وهو يتخبَّط في جهل وشقاء، ويتنفس من نار البغي الطاغية على أنحائه الصعداء، حتى نهض صاحب الرسالة الأعظم - صلوات الله عليه- بعزم لا يحوم عليه كلال، وهمة لا تقع إلا على أشرف غرض؛ فأخذ يضع مكان الباطل حقًّا، ويبذر في منابت الآراء السخيفة حكمة بالغة، وما لبثت الأمم أن تقلدت آدابًا أصفى من كواكب الجوزاء، وتمتعت بسياسة يتجلَّى بها العدل في أحسن رُواء، وأرفع سناء.

 

سياسة الإسلام

وضع الإسلام للسياسة نظامًا يقطع دابر الاستبداد، ولا يُبقي للحيف في فصل القضايا، أو الخلل في إدارة الشؤون منفذًا. أوصى الرعاة بأن لا ينفردوا عن الرعية بالرأي في آية: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران : 159] وآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى : 38].

ثم التفت إلى الأمة، وعهد إليها بالرقابة عليهم، وإسدائهم النصيحة فيما تراه غير واقع على وجه الاستقامة، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104].

 

الأمراء الراشدون

ولم يكن الأمراء الراشدون – احترامًا لهذا القانون الإلهي – يكرهون من الناس، أو يحجرون عليهم البحث في الشؤون العامة، ومجادلتهم فيها بلهجة ناصح أمين، وهذه صحف التاريخ حافلة بقصص الذين كانوا يقفون للخليفة عمر بن الخطاب، وهو يخطب على منبر المسجد الجامع، فينكرون عليه عزل عامل اعتقدوا أمانته، أو يجادلونه في رأيٍ عَزَم على أن يجعله قانونًا نافذًا، فلا يكون منه سوى أن يقول لمن نطق على بينة: (أصبت)، ويرد على من أخطأ في المناقشة ردًّا جميلًا.

وإن شئت مثلًا من سيرة الأمراء الذين تقلبوا في فنون من أبهة الملك، ولبسوا من عظمته برودًا ضافية؛ فقد حضر القاضي منذر بن سعيد مجلس الخليفة الناصر بمدينة الزهراء، فتلا الرئيس عثمان بن إدريس أبياتًا تمضمض فيها بشيء من إطراء الخليفة، حتى اهتزَّ لها طربًا، وكان منذر بن سعيد ينكر على الناصر إفراطه في تشييد المباني وزخرفتها، فأطرق لحظة، ثم قال:

يا باني الزهراء مستغرقًا    أوقاته فيها أما تمهلُ

لله ما أحسنها رونقًا    لو لم تكن زهرتها تذبلُ

 

فما زاد الناصر على أن قال: (إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسُقيت بماء الخشوع، لا تذبل إن شاء الله)، فقال منذر: (اللهم اشهد؛ فإني قد بثثت ما عندي).

في مقدرة ذلك الخليفة أن يفصل منذر بن سعيد عن وظائفه، أو يبعث به إلى المنفى غير آسف عليه، ويجعل عذره في ذلك العقاب خُطَبه التي كان يلقيها على منبر الجامع، ويتصدَّى فيها لنقد بعض أعمال الدولة، ولكنه أمير نفذت بصيرته إلى روح الشريعة الغرَّاء، ودرس تاريخ الخلفاء قبله عن عبرة، فعرف أن لا غنى للدولة عن رجال يجمعون إلى العلم شجاعة، وإلى الشجاعة حكمة، حتى يمتطوا منصب الدعوة إلى الإصلاح بحق، ويكوِّنوا الصلة التي يظهر بها أولو الأمر وبقية الشعب في مظهر أمة تولِّي وجهها شطر غاية واحدة، ثم لا يغيب عن مثل ذلك الخليفة العادل أن الدولة لا تحرز مجدًا خالدًا، وسمعة فاخرة، إلا أن تعيش في ظلالها أقوام حرة، وفي مقدمتهم علماء يجدون المجال للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فسيحًا.

 

إنما الطاعة في المعروف

يصفون بعض الأمم بمحررة الشعوب، ويلقبون عاصمة بلادها بمطلع الحرية، إلا أن ناشر لواء الحرية بحقٍّ، ومعلم البشر كيف يتمتعون بالحقوق على سواء، من وضع لطاعة الرؤساء حدًّا فاصلًا، فقال: (( إنما الطاعة في المعروف))، وجعل الناس في موقف القضاء أكفاء، فقال صلوات الله عليه: (( أيها الناس! إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها)).

كم ظهر في البلاد العرب من سيد بلغ في الرياسة أن أحزر لقب مَلِك؛ كآل جفنة، وآل غسان، وربما وُجِد من بينهم من لا يقلُّ في قوته النفسية الفطرية عن الفاروق رضي الله عنه، فما بالهم لم يأخذوا في السياسة بنزعته، ويرموا إلى أغراضها عن قوس حكمته؟!.

لا عجب أن يمتطي ابن خطاب تلك السياسة الفائقة، ويجول بها بين الأمم جولته، التي رفعت الستار عن أبصارهم، حتى شهدوا الفرق بين سيطرة الدولة المستبدة، وسيرة الخليفة الذي ينام في زواية من المسجد متوسِّدًا إحدى ذراعيه.

إن هو إلا الإسلام، أقام له أساسها، وأنار سراجها، فبنى أعماله على أساس راسخ، واستمدَّ آراءه من سراج باهر، فكانت صحف آثاره أبدع عند عشاق السياسة القيمة من مناظر الروضة الغناء.

 

مذاهب السياسة وفنون الحرب

تدرَّب الخلفاء العادلون على مذاهب السياسة وفنون الحرب بما كانوا يتلقونه من حضرة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الحكم السامية؛ كحديث: (( الحرب خدعة))، أو ما يشاهدونه من التدابير المحكمة؛ كوسيلة التكتم في الأمر الجارية عند الدول لهذا العهد، وهي أن يبعث الرئيس الأعلى إلى الرئيس الأدنى، أو يناله رسالة مختومة، ويأمره أن لا يفك ختامها إلا في محل أو وقت يُسمِّيه له، وقد جاء في (صحيح البخاري) وغيره: أن حضرة صاحب الرسالة -عليه الصلاة والسلام- ناول عبد الله بن جحش -وهو أمير نجد- كتابًا، وقال له: (( لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا))، فلما بلغ عبد الله المكان، قرأ الكتاب، وأخبر الجند بما في ضِمنه من الأمر.

 

اختلاف الأمم

إن اختلاف الأمم في عادتها وحاجاتها، يستدعي أن تكون سياستها وأنظمتها مختلفة، كما يقتضي أن يكون المدبرون لأحكام الأمة وتراتيبها المدنية ممن وقفوا على روحها، وأحاطوا خبرة بمزاجها، حتى لا يضعوا عليها من الأوامر والنواهي ما يجعل سيرها بطيئًا، أو يردها على عقبها خاسرة، وكذلك الإسلام يقيم السياسة على رعاية العادات، ويسير بها على ما يطابق المصالح، ولهذا فصل بعض أحكام لا يختلف أمرها باختلاف المواطن؛ كآية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة : 179]. وحديث: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعي عليه))، ودلَّ على كثير منها بأصول عامة يستنبطها الراسخ في العلم بمقاصد الشريعة، البصير بما يترتب على الوقائع من آثار المقاصد والمصالح.

وإن شريعة تقوم على قواعد: (الضرر يُزال. المشقة تجلب التيسير. العادة محكَّمة)، ويقول أحد العظماء من فقهائها: (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من المعاملات والسياسات) لا يحق لأحد أن يرميها بمجافاة الإصلاح والبعد عما تقتضيه طبائع العمران، إلا أن يفوته العلم بحقائقها، أو يحمله الزيغ الجامد على مناوءتها.

 


 

المصدر:

محمد الخضر حسين، موسوعة الأعمال الكاملة، دار النوادر بسوريا ، ط1، 1431هـ، 10/4591.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#سياسة-الإسلام
اقرأ أيضا
لماذا نصوم الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الثالث


لقد عرفنا الكثير من موجبات صيامنا ومقتضياتها وأول موجب للصيام: أن صيام رمضان قاعدة من قواعد الإسلام الخمس فمن قال: لا أصوم جاحدا منكرا لما شرع الله فقد أسقط بناء الإسلام ولم يبق له حظ فيه كمانع الزكاة الجاحد لفرضيتها وكتارك الصلاة الجاحد لفرضيتها فالكل يكفر والعياذ بالله إذا نصوم لتلك الفضائل التي اشتمل عليها الصيام والميزات العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة

بقلم: أبو بكر الجزائري
807
شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟


الفقهاء ليسوا معصومين ولا يلزم أن يصيب كل واحد منهم الحق بل لا يلزم أن يصيبه أكثرهم وإن كان لا يخرج عن مجموعهم لكن المسلم غير المتفقه في الدين إذا اتبعهم فقد استجاب لأمر الله له وأبرأ ذمته وإن أخطأوا أما من اتبع هواه واستحسن رأيه من غير تفقه في الدين أو سؤال من انشغل بذلك فقد خالف أمر الله وإن أصاب الحق في نفس الأمر وعرض نفسه بذلك للإثم والعقوبة

بقلم: كريم حلمي
404
تعظيم السلف | مرابط
فكر مقالات

تعظيم السلف


ينبوع الإحداث في دين الله كله ناشئ بسبب ضعف تعظيم السلف في عمق علمهم وكمال ديانتهم وصحة تدين المرء واهتداؤه في دين الله فرع عن تعظيم السلف واعتقاد كونهم أكمل منا دينا وعلما والمتأمل في كلام الطوائف الكلامية سابقا أو الطوائف الفكرية المعاصرة وغيرهم يجد أنهم جميعا ينظرون إلى السلف كالدروايش أو أن تجربتهم لا تلزمهم أو أنها ناجحة ولكن تجربة الخلف أذكى وأمهر وأثرى

بقلم: إبراهيم السكران
2289
طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة


ومن علاماتهم أيضا: أنه يوجد لهم -قبل الوحي- خلق الخير والزكاة ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها. وكأنها منافية لجبلته.

بقلم: البيهقي
281
حاجة النبي للوحي وتأخره: دليل على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

حاجة النبي للوحي وتأخره: دليل على مصدرية القرآن


إذا تأملت الحالات والمواقف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى نزول الوحي ولكنه كان يتأخر ستدرك بشكل قاطع أن هذا القرآن ليس من عند النبي كما ادعى أولياء الشيطان زورا وظلما وبهتانا ولكنه وحي من عند الله وإلا لو كان غير ذلك لسهل على النبي -حاشاه- أن يصدر كلاما من تلقاء نفسه وينسبه للوحي وهذا الكلام المقتطف للدكتور محمد عبد الله دراز يناقش إحدى الحوادث التي كان فيها النبي في حاجة للوحي ولكنه تأخر

بقلم: محمد عبد الله دراز
2075
أحاديث مشكلة في الحجاب ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

أحاديث مشكلة في الحجاب ج1


لا يخلو باب من أبواب أصول الدين ولا فروعه من آيات أو أحاديث مشتبهة تخالف في ظاهرها المحكمات البينات فإن جاز ذلك في الأصول فإنه في أبواب الفروع من باب أولى وفي أبواب حجاب المرأة ولباسها يورد بعض الكتاب أحاديث تخالف المحكم البين منها الصحيح ومنها الضعيف ومنها ما لو وضع في موضعه ولم يلغ به العام لاستقام للناظر الحكم ولكن استعمل كثير من الأحاديث الظنية في نقض القطعية والأحاديث المشتبهة في نقض المحكمة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
729