شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟

شبهة: هل نستجيب للنص أم لأقوال الفقهاء؟ | مرابط

الكاتب: كريم حلمي

342 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..


• فمن قواعد الأصول المشهورة أنه (لا حاكم إلا الله)، [‌إِنِ ‌الْحُكْمُ ‌إِلَّا لِلَّهِ]، لا للفقهاء ولا للمحدثين ولا لغيرهم، والأصل في المسلم ألا يخضع إلا لله سبحانه، و(الأصل) في الحجة كلام الله لا كلام البشر، و(الأصل) في التحاكم أن يكون إلى كتاب الله سبحانه لا إلى كتب مصنّفة في فن معين، سميّناه فقهًا أو لا.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجده يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ‌وَأَطِيعُوا ‌الرَّسُولَ"، ويقول سبحانه: "فَإِنْ ‌تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، ويقول سبحانه: "‌فَلْيَحْذَرِ ‌الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، ويقول سبحانه: "‌فَلَا ‌وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، فيعلم المؤمن بذلك وبغيره من البراهين الشرعية والعقلية أنه يلزمه الخضوع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يلزمه التحاكم إليها والتفتيش عن حكمها في أفعاله وأقواله.


• لكن المؤمن الخاضع لله وكتابه يجد نفسه لا يعرف كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق المعرفة، ويجد الله سبحانه يقول ..، هو بنفسه الذي يقول: "‌فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، ويقول: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ‌لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، فأخبر سبحانه أن الدين يحتاج إلى تفقّه فيه ودراسة، لا مجرد نقل للنصوص، ويحتاج إلى تفرّغ لأجل ذلك، وأنّ وظيفة من انشغل بذلك أن يُنذر من انشغل عنه بغيره، ووظيفة من انشغل عنه بغيره أن يخضع لنذارة من انشغل بذلك عن غيره.


• الفقهاء ليسوا معصومين، ولا يلزم أن يصيب كل واحد منهم الحق، بل لا يلزم أن يصيبه أكثرهم، وإن كان لا يخرج عن مجموعهم، لكن المسلم غير المتفقه في الدين إذا اتبعهم فقد استجاب لأمر الله له وأبرأ ذمته وإن أخطأوا، أما من اتبع هواه واستحسن رأيه من غير تفقّه في الدين أو سؤال من انشغل بذلك فقد خالف أمر الله وإن أصاب الحق في نفس الأمر،  وعرّض نفسه بذلك للإثم والعقوبة.


• ومع ذلك، فالتفقه في الدين ليس شيئًا كهنوتيًا، وليس محظورًا على رجل أو امرأة، فمن أراد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أي واسطة فله ذلك، إن قدر أن يفعله بحقه، لكن مثلًا: ...


* الذي لا يفهم كتاب الله، ولا يستطيع أن يفسّر حتى غريب ألفاظه = كيف يُدرك ما الذي قاله الله في هذه المسألة أو تلك؟!
* والذي يرجع في فهم كتاب الله إلى كتب التفسير فقد رجع إلى أقوال العلماء وتقليدهم .. فما الذي فعله إذن؟!
* فإن رجع في تفسير الألفاظ إلى المعاجم مثلًا فقد رجع إلى آراء الرجال كذلك! .. فالمعاجم لم تنزل من السماء!
* وإن رجع في فهم الغريب إلى قصائد الجاهليين ونحوها (إن سلّمنا استطاعة ذلك) فكيف يميز بين الثابت المنقول والضعيف المنحول؟! .. فإن رجع إلى قول النقّاد فقد رجع إلى أقوال الرجال واتباعهم!


* ثم لا يمكن فهم نص من غير معرفة سياقه، فلابد من معرفة أسباب النزول، فإن رجع فيها إلى الكتب فقد رجع إلى آراء الرجال، وإن استقرأ الآثار المنقولة واستخرج آثار أسباب النزول ونظر في أسانيدها .. فإن رجع في التصحيح والتضعيف إلى الكتب المصنفة في ذلك فقد رجع إلى آراء الرجال! .. وإن درسها هو لكن رجع في الجرح والتعديل وأسباب العلل لكتب الرجال والطبقات والتاريخ والوفيات وغيرها فقد رجع إلى آراء الرجال!
* وقبل ذلك كله يحتاج إلى التفرقة بين القراءات المتواترة والشاذة ليعرف حدود كتاب الله أصلًا، فإن رجع في ذلك إلى غيره فقد رجع إلى آراء الرجال وإجماعهم في مواطن واختلافهم في أخرى، وإلا يجمع هو أسانيد القراءات المختلفة وينظر فيها وفي تواترها وموافقتها للغة والمصاحف العثمانية من غير رجوع في شيء من ذلك لحكم من أحكام الرجال، إجماعي أو خلافي!
* ... إلى آخر هذه الأوجه والاحتمالات التي لا تكاد تُحصى.


• الذي يُفتي ويتكلم في مسألة من دين الله سبحانه لأنه (حفظها هكذا)، أو لأنه (لا يعرف غير ذلك) فالأصل أنه آثم مجرم فاعلٌ لكبيرة من الكبائر، ولا يجوز أن يتكلم في دين الله سوى فقيه، يعلم لماذا يقول بما يقول، ولماذا لا يقول بما لا يقول، أما من (حفظها هكذا) فكلامه في دين الله إذا لم يوجد فقيه كأكل الميتة للمضطر، لأن نقل الجاهل قول عالمٍ ما إلى جاهل آخر خير من عمل الجاهل بهواه واستحسان رأيه.


• لأجل ما بدأنا به الكلام، وأنه (لا حاكم إلا الله) = لا يجوز لأي إنسان أن يستحسن في الشرع ويستقبح بميول نفسه وأوهام عقله، ولا أن يخترع بهواه صورة للرحمة أو العدل أو الحكمة يوجبها على الله سبحانه، ولا يكاد يوجد قانون جنائي أو إداري أو غيرهما إلا يراه أقوام ما في أحوال ما - على الأقل - ظلمًا وقهرًا وزورًا، بحسب الهوى والمصلحة الشخصية، وكم من مستبشع لحكم الإعدام صار يستقله لما اغتصب إنسان ابنته وعذبها وقتلها، وأشباه هذا كثير، لكن الإنسان لا يريد أن يكون هواه تبعًا للحق، بل يريد أن يكون الحق تبعًا لهواه، بل تبعًا لأهوائه من حين لآخر بحسب اختلاف الأحوال، وصدق الله سبحانه: [بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ . وَلَوِ ‌اتَّبَعَ ‌الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ]!


ختامًا: هذا بيان وتذكرة، ولن ينتفع صاحب الهوى من ذلك بشيء، إذ هو لا يريد كتاب الله أو غير كتاب الله، سوى ما أُشرب من هواه، فهو إلهه الذي يعبده، [‌أَفَرَأَيْتَ ‌مَنِ ‌اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]، فهذا إن لم يجد الحكم منصوصًا في القرآن قال: لا أتحاكم إلا إلى كتاب الله، فإن وجده منصوصًا فيه قال: هذا إنما روعي فيه زمن الصحابة ولكل زمان أحكامه فلا يلزم أهل زماننا ذلك، وقد يحيل في ذلك إلى أحد دجاجلة المفكرين، فالمشكلة ليست إذن في استفتاء الرجال والشيوخ، المهم أن يكون مستنيرًا! .. وما ضابط المستنير؟! .. الذي يقنن الأهواء ويُلبس الشريعة الليبرالية العلمانية ثوب الشريعة الإسلامية!


[‌يُخَادِعُونَ ‌اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ]


صدق الله! .. ما تخلّفوا عن حرفٍ من ذلك الوصف .. [‌قَدْ ‌نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ]

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أصول-الدين #الفقهاء
اقرأ أيضا
الرأسمالية ومعاناة الإنسان | مرابط
فكر

الرأسمالية ومعاناة الإنسان


قرابة 40 في المئة من الغذاء الذي يتم إنتاجه ومعالجته ونقله في أمريكا يتم إهداره.. هل تتخيل الرقم؟ .. هذه الكمية وحدها كافية للقضاء على الجوع في العالم.. بل تزيد عن القدر المطلوب! .. فالأمريكان من أكثر الشعوب شهية وأكثرهم سمنة بسبب عاداتهم الغذائية.

بقلم: علي محمد علي
352
الإيمان بالملائكة | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

الإيمان بالملائكة


الإيمان بالملائكة الذين هم عباد الله المكرمون والسفرة بينه تعالى: وبين رسله عليهم الصلاة والسلام المرام خلقا وخلقا والكرام على الله تعالى: البررة الطاهرين ذاتا وصفة وأفعالا المطيعين لله عز وجل خلقهم الله تعالى: من النور لعبادته ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا ولا شركاء معه ولا أندادا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون والملحدون علوا كبيرا قال الله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارت...

بقلم: حافظ بن أحمد الحكمي
1258
الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها | مرابط
أباطيل وشبهات فكر الإلحاد

الاستدلال بنواميس الكون على نفي وجود خالقها


إن الفهم السقيم الذي يحاول بعض الملاحدة نشره هو أن نفي وجود الخالق أو مجرد تدخله يمكن أن يكون بشرح الآلية التي يعمل بها شيء كان يقال عنه إنه من سنع الله فإن استطاع شخص فهم القوى الفيزيائية المؤثرة على بقاء الأرض أو القمر أو غيرهما في مدارات محددة قال: هذا ما يبقيها إذا وليس الله كما كنت أعتقد

بقلم: سامي أحمد الزين
443
كيف تعرف صدق النبوة ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

كيف تعرف صدق النبوة ج2


كثيرا ما يردد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم وهذا يقتضي عظم التنافر والفرق بينهما حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق والآخر في أسفل دركات الكذب ومن التبس عليه حالهما حري به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما

بقلم: صفحة براهين النبوة
994
من آثر الدنيا واستحبها | مرابط
اقتباسات وقطوف

من آثر الدنيا واستحبها


كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق

بقلم: ابن القيم
839
تأثير القرآن | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

تأثير القرآن


انظر كيف بدل القرآن وجه الأرض وغزا ربوع الدنيا كيف عمد إلى خلق كانوا أذل قوم يسجدون للحجارة ويدعونها ويسألونها يسفكون الدماء فصيرهم خير الناس هديا وأحسنهم سمتا وأعقلهم قولا وأعدلهم حكما وأعزهم ذكرا ملكهم رقاب الملوك ومكنهم من قلوب العباد

بقلم: كريم حلمي
536