يقول الدكتور محمد عبد الله دراز:
وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلا واضح الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، فإليك طرفًا من ذلك:
لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلحّ عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالا ومجالا، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآنا يقرؤه على الناس.
ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة، رضي الله عنها، وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس "إني لا أعلم عنها إلا خيرًا"، ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الآمر "يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإنت كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله"
هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصدّيق المتثبت الذي لا يتبع الظن ولا يقول ما ليس له به علم. على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها، ومصدرا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما.
فماذا كان يمنعه -لو أن القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه ويذب بها عن عرينه وينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ".
المصدر:
- د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، ص 93