طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة

طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة | مرابط

الكاتب: البيهقي

200 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

قال ابن خلدون في المقدمة:

«اعلم أن الله -سبحانه- اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده: يعرفونهم بمصالحهم، ويحرضونهم على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلّونهم على طريق النجاة.

وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات، المغيبة عن البشر التي لا سبيل الى معرفتها، إلا من على ألسنتهم من الله بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم..

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم: «ألّا وإنّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِيَ الله».

واعلم أن خبرهم في ذلك، من خاصيّته وضرورته الصدق، لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة.

وعلامة هذا الصنف من البشر: أن توجد لهم -في حال الوحي- غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين، وليست منهما في شيء، وإنما هي -في الحقيقة- استغراق في لقاء الملك الروحاني:

بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ثم يتنزل الى المدارك البشرية: إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ الله.

ثم تنجلي عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقي عليه.

الوحي

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقد سئل عن الوحي: «أحيانا يأتيني مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ. وأحيانا يتمثّل إليّ الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول».

ويدركه أثناء ذلك، من الشدة والغطّ ما لا يعبّر عنه. ففي الحديث: «كان مما يعالج من التنزيل شدة».

وقالت عائشة: كان يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عرقا» وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.

ولأجل هذه الحالة في تنزّل الوحي، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون له رئي، أو تابع من الجن.. وإنما لبّس عليهم، بما شاهدوه من مظاهر تلك الأحوال: “وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ”.

خلق ما قبل الوحي

ومن علاماتهم أيضا: أنه يوجد لهم -قبل الوحي- خلق الخير والزكاة، ومجانبة المذمومات والرجس أجمع. وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها. وكأنها منافية لجبلّته.

وفي الصحيح: أنه حمل الحجارة وهو غلام، مع عمه العباس، لبناء الكعبة، فجعلها في إزاره، فانكشف، فسقط مغشيا عليه، حتى استتر بإزاره، ودعى إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب. فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس، ولم يحضر شيئا من شأنهم، بل نزّهه الله عن ذلك كله، حتى إنه -بجبلّته- يتنزه عن المطعومات المستكرهة.

فقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، لا يقرب البصل والثوم، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أناجي من لا تناجون».

وانظر، لمّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، بحال الوحي أول ما فجأه وأراد اختباره.

فقالت: اجعلني بينك وبين ثوبك، فلما فعل ذلك، ذهب عنه.
فقالت: إنه ملك، وليس بشيطان، ومعناه: أنه لا يقرب النساء.

وكذلك سألته عن أحبّ الثياب إليه أن يأتيه فيها.
فقال البياض والخضرة.
فقالت: إنه الملك.
يعني: أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة. والسواد من ألوان الشر والشياطين، وأمثال ذلك.

الدعوة إلى العبادة

ومن علاماتهم أيضا: دعاؤهم إلى الدين والعبادة من: الصلاة والصدقة والعفاف.

وقد استدلت خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك أبو بكر، ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه.

وفي الصحيح أن هرقل -حين جاءه كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسلام- أحضر من وجد ببلده من قريش، وفيهم أبو سفيان، ليسألهم عن حاله. فكان -فيما سأل- أن قال:

بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ، إلى آخر ما سأل. فأجابه فقال: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ حقا فهو نبي، وسيملك مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ».

والعفاف الذي أشار إليه أبو سفيان، هو العصمة.

فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبوته، ولم يحتج إلى معجزة، فدل على أن ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ!! ومن علاماتهم أيضا: أن يكونوا ذوي حسب في قومهم.

وفي الصحيح: «ما بعث الله نبيا، إلا فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ».

وفي رواية أخرى: «في ثروة من قومه».
استدركه الحاكم على الصحيحين.

وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال: «كيف هو فيكم» ؟

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: «هُوَ فينا ذو حسب».

فقال هرقل: «والرسل تبعث في أحساب قومها».

ومعناه: أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار، حتى يبلغ رسالة ربه، ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته


المصدر:
دلائل النبوة، للبيهقي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إثبات-النبوة #البيهقي #ابن-خلدون
اقرأ أيضا
القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي الجزء الأول


عندما يجري الحديث عن القراءة العلمانية للتاريخ الإسلامي فإن الأمر يتجاوز الحديث عن وقائع معينة تمت روايتها وتدوينها في كتب التاريخ ليجري الحديث عن الأرضية التي يجري على أساسها تحليل واستنباط النتائج من الوقائع كما أن هذا يشمل المنهج المتبع في التحقق من تلك الوقائع إنه في المقام الأول حديث عن فلسفة التاريخ عن المنهج الذي يسلكه المحلل في قراءته وتوظيفه للأحداث التاريخية في نسقه التحليلي قبل المنهج المتبع في التحقق من صدق الرواية التاريخية

بقلم: يوسف سمرين
1340
الانقطاع سمة العصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

الانقطاع سمة العصر


يبدو أن الانقطاع سمة أساسية لحضارتنا وربما لعصرنا هناك شيء اسمه العلم يزعم أنه يتعامل مع التفاصيل ومع البيئة الشاملة للعالم ويحاول أن يفسر: كيف أتت المادة إلى الوجود وكيف نشأت الحياة ومتى وبأي أسلوب وصلت الكائنات البشرية إلى الأرض ويبدو أن العلم يتعلق بكل شيء ولكن العلم في الواقع قاصر جدا

بقلم: بول فييرابند
569
مشروعية الرخصة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مشروعية الرخصة


مقتطف للإمام الشاطبي يتحدث فيه عن مشروعية الرخصة حيث أراد الله جل وعلا أن يخفف على المكلفين ويرفق بهم فالأخذ بالرخصة إذن موافق لقصده وعلى الجانب الآخر من يرفض الأخذ مطلقا بالرخصة واقع فيما نهى عنه القرآن وما نهى عنه الرسول وهذا ما يقف عليه الشاطبي في هذا المقتطف

بقلم: الشاطبي
1226
هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الثاني | مرابط
تاريخ فكر مقالات

هل يمكن أن نعيد رسم التاريخ الجزء الثاني


في حياة الشعوب كثير من المنعطفات التي غيرت مسار التاريخ صعدت بها إلى الأعلى أو هبطت بها إلى الأسفل والتاريخ -في نهاية الأمر- ليس إلا رجل وموقف وعبر سلسلة من الرجال والمواقف يكتب التاريخ أحداثه لذا فنحن قادرون على رسم التاريخ وأن نورث لأبنائنا تاريخا خيرا من الذي ورثناه عن أجدادنا فلقد ورثنا عنهم من الخبرة مالم يتوفر لهم كما سنورث أبناءنا من الخبرات ما يجعلهم قادرين على أن يورثوا أولادهم تاريخا خيرا مما ورثوه منا كل ذلك شريطة أن يتولى رسم المسار رجال يؤمنون بالتعايش بين بني الإنسان فيتصرفون...

بقلم: راغب السرجاني
1176
منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل | مرابط
تفريغات

منهجية الرسول في التعريف بالله عز وجل


إذا ضل الإنسان في معرفة الموازين والقوى فإنه يختل حينئذ من جهة التوكل المحبة الخوف الرجاء وما ينتج عن ذلك من بذل العبودية لله سبحانه وتعالى بعبادة الجوارح السجود لغير الله سؤال غير الله التضرع لغير الله كحال ذلك الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشفع بالله عليه لأنه عرف شيئا وجهل أشياء فكفر بالله سبحانه وتعالى ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله عز وجل للناس بتعريف مخلوقات الله عز وجل إليهم

بقلم: عبد العزيز الطريفي
299
ليست السنة كلها تشريعا ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج1


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
684