استفسارات الحرية

استفسارات الحرية | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2438 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مراجعة لكتاب: فضاءات الحرية، سلطان العميري، المركز العربي للدراسات الإنسانية، الطبعة الأولى، 1434هـ.

 

الحمد لله وبعد،،

واضح أن هذا الكتاب ليس كتابًا ابتدأ فيه مؤلفه بخطة مسبقة، بل من الظاهر جدًا أن هذا الكتاب حصيلة خبرة طويلة للمؤلف في معالجة مسائله، ذلك أن الغوص في دقائق مسائل الفصول هو الذي يكشف المؤلف حديث العهد بالموضوع، والمؤلف ذي العلاقة العميقة الجذور بموضوع بحثه.
 
هذا الكتاب الذي سماه مؤلفه (فضاءات الحرية) وهو دراسة تفصيلية غزيرة مليئة بالمناقشات والحجج والاستشكالات والإيرادات والشواهد والمعطيات حول الخطوط الفاصلة بين الحرية في التصور الإسلامي، والحرية في التصور الليبرالي الغربي الحديث. فالمؤلف –بشكل عام- يبتدئ كل فصل بعرض ميادين الحرية الواسعة في الإسلام في هذا المجال، ثم يتبعها بمناطق الاختلاف والتمايز عن الحرية الليبرالية الغربية في هذا الباب.
 
وقد اختار المؤلف مسلكًا أدبيًا في كتابه، وهو في الحقيقة يتسق مع عموم منهج المؤلف في عامة كتاباته، وواضح أن المؤلف حريص على أن يصل هذا المعنى بكل وضوح للقارئ، لذلك شرح هذا المسلك الأدبي في مقدمة كتابه بصراحة إذ يقول (التوجّه نحو الأفكار دون الأشخاص، فلم يتوجّه البحث إلى أحد من الأشخاص، لا بمدح ولا بذم) [فضاءات الحرية، ص23].

 

غموض مفهوم الحرية

أول مشكلة عرضها المؤلف في كتابه هي معضلة (غموض مفهوم الحرية) والاختلاف العويص في تعريفها، وساق المؤلف نصوصًا لفلاسفة ومفكرين، وبل وقياديين سياسيين غربيين، يتحدثون عن مأزق تعريف الحرية.
 
ولاحظت في المؤلف أنه لا يحابي أحدًا في صرامة المنهج العلمي الموضوعي، ومن ذلك أنه في أحد فصول الكتاب انتقد العلامة الطاهر بن عاشور في مسألة علاقة العدل بالمساواة [ص80]
 
ومن الفقرات المهمة في الكتاب دراسة المؤلف لمفهوم الحرية في المواثيق الحقوقية الغربية، وعلاقته بالتصور الإسلامي[ص95]. كما أن من أجمل مباحث الكتاب مبحث عقده المؤلف لتحليل وتقييم نتاج المنتسبين للإسلاميين في مجال (الحقوق والحريات)، وقد وجّه له المؤلف نقدًا منهجيًا كعادته [ص102]
 

الحرية ومقاصد الشريعة

ومن المسائل التي انشغل بها المعاصرون مبحث هل الحرية من مقاصد الشريعة فتزاد على المقاصد الخمس الكبرى أم لا؟ وقد درس المؤلف هذه المسألة، وذكر أقوال المعاصرين، وتوصل إلى أنه لا يصح إطلاق الإثبات ولا النفي في هذه المسألة، وأن الواجب هو التفصيل بحسب مراتب الحرية[127]
 
وفي زخم ضغط مفهوم الحرية المعاصر، طرح بعض المنتسبين للإسلاميين مقولات فكرية في تثمين منزلة الحرية، وكأن هناك نوع من التنافس بين بعض الأطراف في ابتكار منزلة شرعية للحرية أكثر من الأخرى، وقد خصص المؤلف فصلًا لدراسة المبالغات في تقييم منزلة الحرية، كالقول بأن الحرية (بمفهومها المعاصر) هي غاية دعوة الرسل، والقول بأن الحرية قبل تطبيق الشريعة[ص132].
 
وطرح المؤلف تقسيمًا لمجالات الحرية طوّره بنفسه، وصب مادة الكتاب فيه، كما يقول المؤلف (وقد قسّمت مكونات الحرية في الإسلام في هذا البحث إلى ستة أقسام: الحرية القدرية، الحرية النفسية، الحرية الشخصية، الحرية الدينية، حرية التعبير، الحرية السياسية. وإنما اعتمدت هذا التقسيم السداسي لأنه من خلاله تنكشف طبيعة الحرية في التصور الإسلامي)[ص148].

 

الحرية القدرية

فأما المكون الأول وهو الحرية القدرية فيعني بها المؤلف المبحث الذي تدرس فيه العلاقة بين إرادة العبد وإرادة الله، وهو من حيث التاريخ الفلسفي الغربي ألصق بمصطلح الحرية منه بمصطلح الحرية الليبرالي الذي يغلب عليه المحتوى السياسي/القانوني، حتى أن كتاب الدكتور زكريا إبراهيم المشهور عن (مشكلة الحرية) هو في جوهره عن هذه المسألة، وليس عن مسألة الحرية الليبرالي، وهي في الحقيقة مسألة كلامية/ثيولوجية، ووقع في تاريخ الفلسفة الغربية من الجدل فيها أضعاف ما وقع من الجدل في مسألة القدر/الجبر في الإسلام.
 

الرق وحد الردة

وقد لاحظت أن ثمة مسائل يضعف فيها كثير من الباحثين المعاصرين أمام ضغط الثقافة المعاصرة، ويتخلون عن المنهج العلمي في تفسير وفهم النصوص الشرعية، ويخجلون أن يصادموا الثقافة الحديثة، وأرى أن أشهر هذه المسائل مسألتان، وهما: مسألة الرق، ومسألة قتل المرتد، فهاتان المسألتان تصادمان جذريًا وبشكل حادّ ثقافة الحرية الليبرالية، ولذلك يستحي كثير من الباحثين أن يبحثهما بمنهج علمي صارم، ويفضل أن يتزين لثقافة الحرية الليبرالية، ويتجمل أمامها بإنكار أن يوجد في الإسلام قتل المرتد، ويقرر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت سيلغي الرق لكن لم يسعفه الوقت! ونحو هذه التقريرات الواضح جدًا فيها أن الدافع هو الخجل من ضغط الثقافة الليبرالية، وليس المنهج العلمي الحاسم.
 
ولذلك إذا رأيت الباحث المعاصر يقرر نظام الرق كما جاء في النصوص الشرعية وإجماع الفقهاء، ويقرر عقوبة المرتد كما جاءت في النصوص الشرعية وإجماع الفقهاء، فضع يدك في ماءٍ بارد، وثق بالحصافة المنهجية لهذا الباحث، وتأكد أن بقية المسائل الشرعية لن ينكسر فيها -بإذن الله- أمام الضغط الشديد للحرية الليبرالية، وأما من ضيّع البوصلة العلمية في مسألتي الرق والمرتد، فهو لما سواهما أضيع.
 
والحقيقة أنني دهشت لجمال وإبداع الباحث في الفصل المكرس للحرية النفسية، وهي (مسألة الرق) فلم ينكسر الباحث لضغط الثقافة الليبرالية المعاصرة، بل تمسك كليًا بالمنهج العلمي في بحث المسألة، فلم يحاول أن يطوّع المعطيات الشرعية لتوافق المزاج المعاصر، وهذا الفصل من أمتع الفصول بالنسبة لي، بل إنني لا أظن أنه يوجد كتاب معاصر –بحسب اطلاعي- ناقش علاقة الرق بالحرية بمثل هذه التفاصيل والاستشكالات والإيرادات والمحاججات، وهو فصل يقع في زهاء (50) صفحة، وفيه جهد واضح في التحليل العلمي الصبور والهادئ.
 
ومن النماذج التفسيرية التي أظن المؤلف أول من ابتكرها في تحليل مسألة الرق: التفريق بين الرق في المستوى الفردي، والرق كنظام كلي، فالرق على المستوى الفردي أكد الفقهاء على تشوف الشريعة للعتق، وأما على مستوى النظام الكلي فقد أبقته الشريعة بإبقاء أسبابه المرتبطة بمضي الجهاد إلى قيام الساعة.
 
ومن أهم الحجج ضد تحريف هذا الباب أن تضييق الإسلام لباب الرق لا يعني أنه يقصد لإلغائه، وهذا نظير كون الإسلام يضيق الحدود بالتشديد في شروطها، ويضيّق الطلاق بذمّه، ومع ذلك لم يقل أحد أن الشريعة كانت ستلغي الحدود والطلاق لكن لم يسعف الوقت!
 

الحرية الدينية

وفي الفصل المكرس للحرية الدينية ناقش المؤلف إشكالية (علاقة الحرية بالجهاد)، وناقش فرضية أن الجهاد في الشريعة لصد العدوان وليس في الإسلام جهاد الطلب، ولم يكتف المؤلف هاهنا بذكر أدلة مفردة، بل قسم الأدلة إلى أنواع، وكل نوع من الأدلة تحته شواهد كثيرة، ومن هذه الأنواع الدليلية دراسة جهاد النبي صلى الله عليه وسلم، ودراسة جهاد الخلفاء الراشدين، واستخلاص وجوه دلالتها على نقض فرضية أن الجهاد فقط لصد العدوان وليس في الشريعة جهاد الطلب.
 
وفي هذا الفصل بحث دقيق مبدع في التمييز بين مسألتين خلط بينهما جماهير الباحثين المعاصرين، وهما مسألة جهاد الطلب، ومسألة علة القتال. وبسبب هذا الخلط وقع توظيف وإسقاط لنصوص التراث في أحد المسألتين على الأخرى، وبين المؤلف ببراعة كيف أن التمييز بين المسألتين يلغي أساس الاستشكال حول نصوص ابن تيمية في الرسالة الجدلية "قاعدة مختصرة في قتال الكفار"، وأعترف أنني لأول مرة أقف على مثل هذا الجمع بين نصوص ابن تيمية في هذه المسألة.
 

حرية التعبير

وفي الفصل المعقود لحرية التعبير لفت انتباهي صبر المؤلف على استعراض كل الأدلة التي ذكرها دعاة الحرية الليبرلية مثل آيات نفي الإكراه في الدين، وآيات نفي القدرة على هداية الناس، وآيات حصر مهمة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في البلاغ والنذارة، ونحوها، بل حتى أدلتهم التي تبدو غير جادة مثل استدلال بعضهم بكون الله أعطى الحرية لإبليس ليجادل! في كل ذلك لاحظت المؤلف حليمًا شديد التحمل في متابعة واستقراء أدلة هذا الاتجاه وتقسيمها، وتحليل مدى علميتها بكل هدوء ولباقة، والحقيقة أنني أغبطه على هذه الرحابة والأناة.

 

الحرية السياسية

وفي الفصل المعيّن للحرية السياسية ناقش المؤلف عددًا من المقولات الرائجة، مثل: نظرية سيادة الأمة، والاستفتاء على الشريعة، وقيام الأحزاب المناقضة لأصل الإسلام، ونحوها.
وربما يكون من الطريف في هذه الأجواء أن المؤلف ختم كتابه بآخر مسألة وهي (حكم الإنكار العلني على الحاكم؟).

 

لدي قناعة شديدة أن أي قارئ جاد يحترم المنهج العلمي لا يمكن أن يقرأ هذا الكتاب ويخرج منه بمثل ما دخل إليه، بل إن أي باحث قرأ في الردود على (التأويل الليبرالي للإسلام) سيخرج من هذا الكتاب وقد رتّب المؤلف عقله، ونظّم كل مقروءاته السابقة، ولذلك فإنني أوصي بكيفية خاصة كل شاب لديه برنامج للقراءة الفكرية أن يبدأ بقراءة هذا الكتاب، وسيتسلح بروح المنهج العلمي الحازم في فهم الإسلام، وتجاوز الخجل البحثي الذي يقود لتقبل ضغط ثقافة الحرية الليبرالية للغرب الاستعماري الغالب المهيمن، وهو الخلل الذي أنتج لنا جيلًا مهزومًا، ومكتبة فكرية تعيسة، تسير مُطرِقة باتجاه عبودية التفسير الليبرالي للإسلام، واسترقاق النصوص الشرعية ومدونات الفقه لتخضع للمشروع الأمريكي للبرلة الشرق الأوسط.
 
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،

 


 

المصدر:

http://saaid.net/Doat/alsakran/56.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #فضاءات-الحرية
اقرأ أيضا
شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الأول | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة: المساواة الجزء الأول


يشتمل المقال على مجموعة من الشبهات المثارة حول المرأة في باب المساواة حيث يحاول العلمانيون والمشككون وأعداء الدين أن يجدوا أي باب ليدخلوا منه ويهدموا الأسرة المسلمة وفي هذه الشبهات ستجدهم يستخدمون بعض الأحاديث النبوية التي يستدلون بها على إمكان المساواة المطلقة بين الجنسين وتجدهم يستندون تارة أخرى إلى العقل والهدف في النهاية واضح والمقال يشتمل على ردود كثيرة على هذه الشبهات

بقلم: موقع المنبر
1639
العلم أعمال وسرائر وليس أقوالا ومظاهر | مرابط
تفريغات

العلم أعمال وسرائر وليس أقوالا ومظاهر


من هاب الخلق ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير وبقي مجرد تعظيمه وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه

بقلم: إبراهيم الدويش
517
مفهوم الهداية | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم الهداية


مقتطف ماتع للدكتور سلطان العميري حول مفهوم الهداية والذي يفهمه كثير من المسلمون بشكل خاطئ ويحصرونه في الأمور الدينية فقط بينما يحتاج الإنسان إلى أنواع كثيرة من الهدايات في حياته يوضحها لنا ويسردها بشكل موجز

بقلم: سلطان العميري
650
الغضب لله والغيرة على حرماته | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغضب لله والغيرة على حرماته


وإن الغضب لله والغيرة على حرماته من أهم نتائج الإيمان وعلاماته وكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها فإن الغيرة لا تنفك عن المحبة وإن المحب يغار وغيرته تلك علامة حبه وبذلك نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مشاعر المؤمن تجاه حرمات الله: إن المؤمن يغار والله أشد غيرة

بقلم: محمد علي يوسف
458
القدر والأسباب | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

القدر والأسباب


الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها وبين يديكم مقتطف سريع لابن عثيمين يدور حول هذه المسألة

بقلم: ابن عثيمين
440
تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام | مرابط
مقالات

تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام


من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.

بقلم: عبد الله القرني
363