لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط

الكاتب: محمد الخضر حسين

639 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

استعباد البشر للبشر قديم جدًا، لا يعرف له التاريخ بداية؛ فقد رأيناه بجميع أنواعه في أقدم ما نعرفه عن الصين، وفي الهند كانوا يدينون بأن من لم يكن برهميًا، فهو مخلوق ليكون عبدًا للبرهمي، ويسمونه: (سودرار). وكان الرقيق في النظام الفرعوني هو أداة العمل، وعلى كتاف الرقيق بنيت الأهرام، وكان الرق عريقًا في تاريخ الآشوريين والفرس، أما في بني إسرائيل، فقد أباحت التوراة الاسترقاق بطريق الشراء، أو سبيًا في الحرب، بل أباحت التوراة للعبري أن يُستعبد إذا افتقر، فيبيع نفسه لغني، حتى يوفي له الثمن، أو يخدمه ست سنين، ثم يتحرر، وإذا سرق العبري ماشية وذبحها، أو أي شيء استهلكه، ولم يكن في يده ما يعوضه به عن سرقته، يباع السارق بسرقته، كما نصت على ذلك التوراة في: سفر الخروج، وأباحت التوراة للعبري أن يبيع بنته، فتكون أمةً للعبري الذي يشتريها.

الرق عند اليونان:

وكان استعباد البشر للبشر مطلقًا وبكثرة في حضارة اليونان، وكان قرصانهم يتخطفون أبناء الأمم الأخرى في مختلف السواحل، ويبيعونهم في أسواق "أثينا"، وغيرها، ولما صارت لليونان مستعمرات في آسيا الصغرى، صارت لهم فيها أسواق للاتجار بالرقيق، حتى امتلأت بيوت الإغريق بالإماء والعبيد، يستعبدهم اليونان جميعا، لا فرق بين غني وفقير، ولم تؤثر في تاريخهم كلمة واحدة عن أي حكيم من حكمائهم باستنكار استعباد الإنسان، لأخيه الإنسان أو الترغيب في تحريره.

الرق عند الرومان:

أما الرومانيون، فإن النخاسين كانوا يتخذون الحروب الكثيرة مواسم لتجارتهم، فيصحبون الجيوش إلى أوطان الشعوب الأخرى؛ ليشتروا الأسرى والمغلوبين من صبيان وينات، ورجال ونساء بأبخس الأثمان، حتى لقد كان النخاس إذا كان غنيًا يشتري ألف إنسان صفقة واحدة، عقب نصر كبير تعده الإنسانية خزيًا، ويعده تاريخ الاستعمار الروماني عظمة ومجدًا، وفي مدينة "رومية" العظمى كانت للرقيق سوق تعرض فيها هذه البضائع للمزاد العلني على رابية مرتفعة، فيكون الرقيق عريانًا من كل ما يستره، ذكرًا كان أو أنثى، كبيرًا أو حدثًا، ولمن شاء من الناس أن يدنو من هذا اللحم الحي المعروض للبيع، فيجسه بيده، ويقلبه كيف شاء، ولو لم يشتره في النهاية، والقانون الروماني لم يكن يعتبر الرقيق إنسانًا له شخصية ذات حقوق على الإنسانية، بل يعتبره شيئًا من الأشياء كسائر السلع التي يباح الاتجار بها.

نظام كان معترفًا به:

ولما جاءت المسيحية، كانت عبودية الإنسان شائعة في كل العالم. نقل الدكتور (جورج برست) أحد رجال الجامعة الأمريكية في بيروت، في المجلد الثاني من كتابه "قاموس الكتاب المقدس" (ص ٦٠ - ٦١) طبع المطبعة الأمريكية في بيروت سنّة ١٩٠١ م قول العالم (شاق): إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي، ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئًا ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها، ولم تأمر باطلاق العبيد حالًا. وبالإجمال: لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك، فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباتهما.

هكذا كانت عبودية الإنسان في أمم الأرض عندما ظهر الإسلام. فهو نظام كان معترفًا به من كل الأمم، وأسواقه قائمة في كل مكان، وآثاره موجودة في بيوت الناس ومجتمعاتهم، وفي أنظمة الدول ومرافقها.

مواقف الإسلام من الرق:

وأبرز مواقف الإسلام من الرق كان من ثلاث جهات:

أولًا: أمر المسلمين بحسن معاملة من تحت أيديهم من الرقيق إلى أقصى ما يمكن أن تسمو إليه الفضائل الإنسانية.
ثانيًا: الترغيب في تحرير الرقيق إلى أقصى ما ينتظر من دين عالمي جاء ليعالج عيوب المجتمع بحسن توجيهه نحو الفضائل.
ثالثاَّ: وضع قاعدة المعاملة بالمثل في الحروب الدولية فيما يتعلق بالأسرى ومبدأ الاسترقاق. وكلما وجد الإسلام دولة ترضى أن تتعامل معه بمبدأ ينطبق على أهدافه في تحرير الإنسانية من الرق، فإنه كان دائمًا على استعداد للاتفاق معها على تحقيق هذه الأمنية بالفعل.

إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن، وكتب السنّة النبوية المشهورة بصحة رواتها، إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق، فإنها وحدها تبلغ كتابًا، وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم، وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل، لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

ويمكننا أن نعلن ونحن مطمئنون بصحة ما نقول: أنه من أول ابتلاء الإنسانية بنظام الرق، واستعباد البشر للبشر، إلى طروء الضعف على دول الإسلام في العصرين الأخيرين، لا تعرف الإنسانية حضارة، ولا ديانة، ولا فلسفة قاومت الرق، وحاولت التخفيف من أضراره، وتهذيبه بما يلائم الإنسانية كما فعل الإسلام وحده، دون غيره من أنظمة البشر ومذاهبهم وطوائفهم.

تحرير الرقاب:

أما نص القرآن على ايجاب تحرير الرقيق، فنجده في سورة التوبة (الآية ٦٠) التي فرض فيها الإسلام ضريبة على المسلمين لهذا الغرض، وهي الزكاة، فجعل من مصارفها تحرير الرقاب؛ (أي: تحرير المملوكين): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٦٠]. والرقيق الذي يطلب من مالكه أن يتعاقد معه على مبلغ من المال يدفعه له بسعيه وعمله ليتحرر من الرق، قد وردت (الآية ٣٣) من سورة النور بأمر المسلم المالك للرقيق أن يجيب هذا الطلب، وذلك في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: ٣٣].

وتحرير الرقيق قد جعله الإسلام فدية عن أمور كثيرة؛ كقول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في (الآية الثالثة) من سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ٣}.

وكقوله سبحانه في (الآية ٨٩) من سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: ٨٩].

ومما أوصى الله به المسلمين في (الآية ٣٦) من سورة النساء، قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣٦].

النبي يوصي بالرقيق:

أما الأحاديث النبوية في هذا الموضوع الإنساني، فكثيرة جدًا لا يكاد يأتي عليها الحصر؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - ما برح يحدث أمم الأرض بها، ويحث القبائل والشعوب على العمل بها مدة ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله بالنبوة إلى أن اختاره للرفيق الأعلى.

ونحن نورد هنا نماذج قليلة منها؛ لندل على سائرها مما يتسع له المقام.

من ذلك: ما ورد في كتاب: الإيمان من "صحيح الإمام مسلم"، من حديث أبي ذر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال في الرقيق: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كفلتموهم، فأعينوهم".

وفي ذلك الكتاب من "صحيح مسلم" أيضًا، عن أبي هريرة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لاءمكم من خدمكم، فأطعموه مما تأكلون، وأكسوه مما تلبسون -أو قال: تكتسون-، ومن لا يلائمكم، فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

الاسترقاق الشرعي:

ثم إن الاسترقاق الشرعي هو الذي يقع في حرب يراد بها إعلاء كلمة الحق، وأن يأذن بها الحاكم العام، وأن يعامل المسترق بالرفق والإحسان كما يعامل الابن والأخ.

وقد أصدر أحمد باي تونس سنة ١٢٦٢ هـ أمرًا بتحرير المسترقين في المملكة التونسية، حيث إن غالب المالكين لا يعاملونهم بما أمر به الإسلام من الرفق وحسن المعاملة، ووافق الشيخ إبراهيم الرياحي رئيس الفتوى في تونس على ذلك.

ونص الفقهاء على أن من أضر برقيق ضررًا بينًا يعتقه القاضي عليه، وقد قدمنا أن الرق ليس بواجب من واجبات الحرب، إنما أباحه الإسلام للحاكم العام إذا اقتضته مصلحة الحرب، فلو اتفقت الدول على أن لا استرقاق، فرغبة شارع الإسلام في الحرية تجيز للحاكم العام أن يتفق مع المحاربين هذا الاتفاق، ويبطل الاسترقاق من أصله.


المصدر:
مجلة "الأزهر" الجزء الثاني -المجلد الخامس والعشرون- غرة صفر ١٣٧٣ هـ -أكتوبر تشرين الأول- ١٩٥٣ م.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الرق
اقرأ أيضا
أيها المسلم.. لا تنقطع عن نبيك | مرابط
اقتباسات وقطوف

أيها المسلم.. لا تنقطع عن نبيك


وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان كل يوم ينادى باسمه الشريف ملء الجو ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة يهمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا عن نبيهم ولا يوما واحدا من التاريخ

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
501
القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن


إذا أردت أن تشهد العبقرية الاجتماعية للتشريع الإسلامي عليك أن تتوقف أمام أزمة الخمر في المجتمع العربي قبل وبعد الإسلام وترى كيف تم التدرج في تحريمها بداية من العامل النفسي وصولا إلى التحريم الصارم ثم تقارن كل هذا بمحاولة أمريكا في القرن الماضي للتغلب على أزمة الخمر في مجتمعها وترصد الفوارق الشاسعة بين الطريقتين وهذا بالضبط ما يقدمه المقال

بقلم: مالك بن نبي
2170
الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
مقالات

الإمبريالية كمقولة تحليلية


من الملاحظ أن البلاد التي ظهر فيها المجتمع المدني هي أساسا البلاد صاحبة المشروع الاستعماري. ولم تنجح ألمانيا في تأسيس مجتمع مدني ربما بسبب إجهاض تجربتها الاستعمارية على يد الدول الاستعمارية الأخرى. ويلاحظ أن معظم بلاد شرق أوربا واتحاد دول الكومنولث المستقلة الاتحاد السوفيتي سابقا دول لا يوجد فيها مجتمع مدني ولا مشروع استعماري أو لم يظهر إلا متأخرا فلم تتم عملية النهب في روسيا القيصرية بشكل منهجي كفء وهو ما جعل المشروع الاستعماري مكلفا بالنسبة لهم. ثم قامت الثورة الاشتراكية وأخذ الاستعمار ال...

بقلم: عبد الوهاب المسيري
566
الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

الداروينية: بين الإجماع العلمي والإجماع الشرعي


من يعترضون على انتقاد الداروينية أو نظرية التطور لانه لا يجوز مخالفة الإجماع العلمي ويقارنون بينه وبين الإجماع الشرعي الذي لا تجوز مخالفته يقعون في العديد من المغالطات وباختصار يمكن الجواب عليهم من وجوه.. يوضحها الدكتور هشام عزمي في هذا المقال الموجز.

بقلم: هشام عزمي
560
ليست الدنيا دار جزاء | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

ليست الدنيا دار جزاء


ستتعب إن قاومت هذه الحقيقة ومهما غالبتها ستبقى هي الحقيقة ليست الدنيا دار جزاء فلو كانت دار جزاء لما قتل أنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام ولما عذب عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى الموت كياسر وسمية دون أن يروا قائمة تقوم للإسلام ولما حصل لأهل الأخدود ما حصل

بقلم: د إياد قنيبي
2319
ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح | مرابط
اقتباسات وقطوف

ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح


ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في...

بقلم: ابن القيم
760