ستتعب إن قاومت هذه الحقيقة ومهما غالبتها ستبقى هي الحقيقة.. ليست الدنيا دار جزاء..
فلو كانت دار جزاء لما قُتل أنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام، ولما عُذّب عدد من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى الموت كياسر وسمية، دون أن يروا قائمة تقوم للإسلام، ولما حصل لأهل الأخدود ما حصل.
حقيقة البلاء
لذا فعندما تتفكر في فوائد البلاء فلا تحصر نظرتك في الدنيوية منها.. فالنفس تبحث دومًا عن ثمرة عاجلة "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ"
وإن لم يأت الفرج المترقب حتى الممات فإن القصة لم تنته "وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"
وقد خطّأ الله تعالى النظرة القاصرة التي تعتبر إغداق النعم في الدنيا إكراما من الله للإنسان والابتلاء إهانة "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ" فإنما حقيقة الإكرام والإهانة في الآخرة، وأما الدنيا فدار بلاء.
قصة يوسف
في قصة يوسف عليه السلام، بعد أن بيّن الله تعالى أنه مكّن له في الأرض جزاء إحسانه قال تعالى "وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" .. خير من نقله من ظلمة السجن إلى كرسي الحكم، فحتى إن جوزيت خيرًا في الدنيا فعلق قلبك بأجر الآخرة الأعظم.
بيعة العقبة
في بيعة العقبة الثانية أخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الأنصار التزاما بالتضحية بكل شيء.. التزاما يعرضهم لابتلاءات في الأنفس والأموال والأولاد.. فما المقابل الذي وعدهم به إن قبلوا؟: "ولكم الجنة".. فالجزاء أخروي.. صحيح أن نصوصًا أخرى وعدت بجزاء دنيوي كذلك (كالآية 55 من سورة النور).. لكن هذا الجزاء على مستوى جماعة المؤمنين أما الأفراد فإن كثيرين منهم ماتوا ولم يستمتعوا به..
الطمأنينة والاستبشار
ويبقى نوع من النعيم يمنحه الله لكل مؤمن عاجلًا في هذه الدنيا زادًا يعينه على سلوك الطريق بمشتقاته: وهو طمأنينة النفس والاستبشار "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"
الدنيا ليست دار جزاء
إذا لم يستقر هذا المفهوم في نفس المسلم: أنه (ليست الدنيا دار جزاء)، فإنه ستسوء منه الظنون عندما يقارن وضعه الدنيوي بأوضاع من لا يؤمنون بالله تعالى.. لذا فقد نهانا الله عن إجراء هذه المقارنات الدنيوية "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" ..
فارفع رأسك إلى السماء أيها المؤمن وتعرض لنفحات الجنة ولا تنزل ببصرك إلى ما فيه هؤلاء، فإنما هو فتنة لهم واستدراج.. قال عليه الصلاة والسلام "أولئك قوم عُجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" (البخاري)
ومما ورد عن الحسن البصري رحمه الله "من لم يتعزّ بعزاء الآخرة تقطعت نفسه على الدنيا حسرات" .. نعم! سيتحسر على كل متاع دنيوي يفوته، خاصة إذا قارن نفسه بغيره.. أما المؤمن فيوقن بأن ما يفوته في الدنيا قد ادخر له أضعافه في الآخرة "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا" .. وبأن توفية الأجور لا تكون إلا يوم القيامة "وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
المصدر:
- د. إياد قنيبي، حسن الظن بالله، ص145