خرافة تحديد النسل

خرافة تحديد النسل | مرابط

الكاتب: محمد الغزالي

639 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الانفجار السكاني وإمكانات التحكم

قرأت مقالًا عن " الانفجار السكانى وإمكانات التحكم " نشرته صحيفة الأهرام يوم الجمعة 2 / 1 / 1970 ولا أكون مغاليًا إذا وصفت هذا المقال بأنه صائب الفكرة عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة بالاحترام.

ولقد لفت عددًا من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى هذا المقال لأنه يصور فى نظرى عودة أفكار سبق أن كتبتها ووقفت عندها، ورأى جمهور المسلمين أنها التعبير الحق عن أحكام دينهم ونهج حياتهم، وإن كان البعض قد مارى فيها مراء يعلم الله بواعثه!

والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول: إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف الاقتصادى، أو رد هذه الزيادة إلى عوامل أخرى مثل غلبة الغريزة الجنسية، أو وجود الأديان المحبذة للتناسل، أو عدم المبالاة بالرقى.. يدخل فى باب التضليل العلمى!

وقد استخلص هذه النتيجة الصادقة من جملة ملاحظات علمية واجتماعية جديرة بالتأييد الحار.

 

صيحات التشاؤم

ويعجبنى أنه استهجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالها بين الحين والحين نفر من مقلدى الأساليب الأمريكانية فى الإحصاء الجزئى والحكم العام، وهى أساليب تخدم سياسة معينة من البيانات والبلاغات التى يتبرع بها نفر من نجوم الرأى الأمريكيين يزعمون فيها أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو كارثة " اللاعودة ".

بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه، تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث ـ الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة ـ لم تكبح جماح شهواتها الجنسية، ولم تستجب لدعوة المندوب الأمريكى إلى " تخطيط " أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية..

بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى الولايات المتحدة أن ينادوا جهرًا بضرورة استخدام القسر فى الحد من هذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر (!) بالقدر الذى يمنع دفع المراتب الأعلى إلى الخلف!

ولما كانت نسبة الأولاد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة نشأت للأسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم.

والحل؟

 

تخفيف عدد السكان

إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب لا تجد الأكل، وترك الأمراض تفتك بهذه الأجيال الوافدة فإن إقحام طوفان من الأطفال الجياع على اقتصاد مضطرب يهدد بكارثة!

لكن كيف يوصف هذا التصرف؟

إنه تصرف " إنسانى " عادى (!) لأنه يساعد الطبيعة على انتخاب الأصلح وإبقاء الأقوى!

بل إن هذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر الإنسانى، ألم يقل أفلاطون فى جمهوريته الفاضلة أنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضرورى؟ ونحن قد وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن العدد الضرورى.

ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على الأمور، فيقول الدكتور " هوايت ستيفنز " أحد خبراء علم الاجتماع: إن يوم القيامة سيوافق 13 / 11 / 2026 لأن المجاعة العالمية فى هذا اليوم ستقضى على الجميع، هكذا يقول الدكتور الألمعى بعد حساب وفق قواعد علم الاجتماع لا قواعد علم التنجيم!

وبناء على هذا الهوس الإحصائى يدعو الأمريكيون إلى التعقيم الإجبارى وإلى فرض نظام صارم لتحديد النسل، وإلى دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض عدد الأولاد بين العرب والزنوج والهنود وأشباههم وهم سواد العالم الثالث.

 

أمريكا والعالم الثالث

ويلاحظ الأستاذ كمال السيد ـ كاتب المقال ـ أمورًا ذات بال منها أن الولايات المتحدة تنفق 70 ألف مليون دولار على معدات القتال وأن شركاتها المحتكرة تعامل شعوب العالم الثالث بنهم مستغرب لا مكان معه للرحمة بهؤلاء الجياع المساكين.

ويقول " وهناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواها ":

أن خمسة من سكانها يموتون جوعًا كل دقيقة فى حين أن الشركات الأمريكية العاملة بها تكسب خمسة آلاف دولار كل دقيقة أى ألف دولار من كل ميت..!

ومع شعورنا بأن الكاتب يسارى النزعة إلا أننا نعرف أن المساعدات الأمريكية مغشوشة النية سيئة الهدف فقد توزع على الأطفال مقادير من الألبان والجبن، ولكنها تفرض على بيئتهم قيود الفقر الأبدى إلى هذا النوع من المساعدات.

وبرامج النقطة الرابعة توزع المواد الاستهلاكية وحسب على الأمم المتخلفة وتمتنع امتناعًا غريبًا عن تصنيع البيئة وإعانتها على أن تخدم نفسها بنفسها، وتستغل مواردها الوطنية بقدراتها الخاصة!

كأن شعوب هذا العالم الثالث ـ كما تسمى ـ ينبغى أن تظل مشلولة المواهب مكشوفة العجز، لا تستطيع الانتفاع بما لديها من خبرات، وعليها ـ بعد ـ أن تسمع الحكم بأن التعقيم الإجبارى واجب، وأن تحديد النسل فريضة وإلا قامت القيامة بعد كذا من السنين!

ويتلقى هذا الكلام بعض قصار العقل فيطيرون به هنا وهناك ينذروننا بالويل والثبور وعظائم الأمور فإذا حاولنا التفاهم معهم قالوا: إنكم رجعيون تائهون عن مقررات علم الاجتماع، وأخطار يوم القيامة الذى سيجىء حتمًا من زيادة السكان!

 

جذور المشكلة في العالم الثالث

ولنتناول الآن صميم المشكلة. هل حقًا أن بلاد العالم الثالث لا تكفى حاجات أهلها وبالتالى لا تتسع لمزيد من الأفواه التى تطلب القوت والأجساد التى تطلب الكسوة؟

تلك هى الأكذوبة الكبرى التى يضخم الاستعمار صداها ويزعج الدنيا طنينها!

إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه، بيد أن هذه الخيرات تتطلب العقول البصيرة والأيدى القديرة.

ولو رزقت هذه الأقطار المنكودة إنسانية نزيهة تستهدف إيقاظ الملكات الغافية والحواس المخدرة، وتطارد الخمول والوهن وتجند القدرات والخيرات، وتمنع التظالم والترف، وتضرب سياجًا منيعًا حول مصالح الشعوب يرد عنها غوائل الاستعمار بجميع أنواعه لكانت هذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدها أقطار الغرب عليه..

ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين، ومقلدوهم من الصياحين الذين يهرفون بما لا يعرفون.

الفقر فقر أخلاق ومواهب لا فقر أرزاق وإمكانيات!

ـ لماذا يكون المولود القادم أكالًا لا شغالًا، مستهلكًا لا منتجًا، عبئًا على الحياة لا عونًا على الحياة؟

ـ لماذا تهون الإنسانية فى شأن هذه الأجيال الوافدة فيكون وجوده مبعث قلق لا مثال استبشار.

إن الجهود المادية والمعنوية التى يبذلها المتشائمون لقتل هذه الأنفس أو للحيلولة دون وجودها لو بذلت فى تصحيح الأخطاء الاجتماعية وتقويم الانحرافات العقلية لكانت أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية!

ولكن الاستعمار الأنانى الشره يريد التهام كل شىء لنفسه وحده، بل الأنكى من ذلك أنه يعترض طريق كل نهضة تصحح الأوضاع كى تبقى الأمور كما هى ويبقى منطقه السقيم فى علاج الأمور.

على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية ولا أبدية فقد كان الأوربيون والأمريكيون أسوأ حالًا منذ قرون تعد على الأصابع، وكانت الخرافة تفتك بعقولهم فتك الأدران والعلل بأجسامهم، فإذا صعدوا فى سلم الترقى وهبط غيرهم بعد رفعة أو بدأ لأول مرة يخطو على درب المدنية فلا معنى للاحتيال عليه والتشفى منه.

" كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "

والأمر لا يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فهناك مكان ينبت العز ـ كما يقول المتنبى ـ ومكان ينبت الذل. وهناك آخر يوقظ العقل أو ينيمه.

والمعتوهون الذين يصرخون جزعين: قفوا نسل الأرانب حتى لا تقول الساعة، أو حتى ترقى الأمة.. لا يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما بقيت ظروف النفسية والفكرية جامدة على أوضاعها الحالية.

ونعود مع كاتب الأهرام لنبصر الواقع حيث يقول:

" إن موارد العالم خصوصًا موارد البلاد المتخلفة ما زالت تفوق كثيرًا زيادة أعداد السكان، فالفائض الاقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج بدلًا من أن يذهب إلى جيوب المرابين والوسطاء وملاك الأرض أو يتبدد فى وجوه السرف المختلفة..

" وهذا الفائض هو ما يعرفه الاقتصاديون بأنه الفرق بين الإنتاج فى ظروفه الطبيعية وبين ما يعد استهلاكًا ضروريًا للجماعة المنتجة، ويقدر هذا الفرق بنحو 20 % من الإنتاج القومى، وهو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ 8 %، وهذه الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية ".

الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة، أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور " بول باران ": " إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس ـ لم يسمع بضخامتها من قبل ـ أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان "!

ثم أنهى الكاتب كلمته قائلًا: " إنه لا حل لمشكلات التخلف ومن بينها ضغط السكان على الموارد إلا بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتها، ومضاعفة اعتمادها على نفسها.. ثم على القدر الميسور من المعونات الأجنبية المنزهة ".

لقد قررت هذه الأحكام تقريبًا فى كتابى " من هنا نعلم " المطبوع من ربع قرن، ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت هذه الأيام ما يزيد الحق وضوحًا..

وما يبدد ضبابًا كثيرًا نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال الألسنة، وإنى ـ إذ أؤكد المعانى الآنفة ـ أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم الإسلام أساءوا إلى حقائقه مرارًا وهزموه فى مواطن كثيرة..

 


 

المصدر:

محمد الغزالي، قذائف الحق، ص266

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحديد-النسل #قذائف-الحق #الغزالي
اقرأ أيضا
العلاج بالطاقة جاهلية جديدة | مرابط
فكر

العلاج بالطاقة جاهلية جديدة


حاول جهال عصرنا التلبيس على الناس وإضفاء صفات شرعية على العلاج بالطاقة من خلال إطلاق مصطلحات إسلامية مثل: نور الله والبركة حتى جعلوا هذه الطقوس الوثنية لتساعد الناس -زعما- في حفظ القرآن من خلال التنفس العميق وهو عقيدة هندوسية معرفة تقوم على إدخال البرانا إلى داخل الجسم الباطن للتناغم مع الطاقة الكونية.

بقلم: قاسم اكحيلات
409
فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة | مرابط
تعزيز اليقين تفريغات

فهم الصحابة للنصوص على الحقيقة


إن السلف الصالح لم يكونوا بحاجة إلى أن يشرحوا ما هو واضح لديهم وضوح الشمس في رابعة النهار والمثال السابق يشبه تماما ما لو قال قائل: أعطونا مثالا واحدا على أن أحد الصحابة قال: هذا فاعل وهذا مفعول به وهذا مفعول للتمييز وهذا للحال.. إلى آخر ما هنالك من مصطلحات وضعت بعد الصحابة

بقلم: الألباني
552
تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية | مرابط
تاريخ

تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية


شكلت المكائد الأوروبية للنيل من المسلمين والتنكيل بهم وتهجيرهم من الأندلس بداية موجة صليبية ثانية بعد الموجة الصليبية الأولى التي شنتها على بلاد الشام ومصر القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين فحقد الإسبان والبابوية على المسلمين والرغبة في الانتقام منهم في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م جعلهم يؤسسون ما سمي في الأدبيات التاريخية بمحاكم التفتيش التي حاولوا نقل تجربتها من مدن الأندلس إلى شواطئ شمال إفريقيا المسلمة في المراحل اللاحقة فما هي محاكم التفتيش

بقلم: علي محمد الصلابي
2275
تصنيف الرجولة | مرابط
مقالات

تصنيف الرجولة


الرجولة عندهم أن تكون قوامتك شراكة وليست قيادة لأن القيادة معناها سائق وركاب رئيس ومرؤوس قائد وأتباع وهذا كله بالنسبة لهذا النوع من النساء ليس من الرجولة الحقيقية بل هي ذكورية متسلطة تريد أن تستولي على الدركسيون بمفردها وعدم اعتبار الشراكة بحال!

بقلم: محمد سعد الأزهري
197
ماذا لو | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

ماذا لو


عندما نسمع الآيات التي تتكلم عن القدر والأحاديث مثل واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فلنعلم أنها تذكرنا بحقيقة أن هذه الأقدار إنما قدرها الله الذي نعلم عن علمه وحكمته ولطفه ورحمته وعدله فلنسلم له أنفسنا بطمأنينة

بقلم: إياد قنيبي
2209
وسلسلت الشياطين: لماذا لم ينقطع الشر؟ | مرابط
أباطيل وشبهات فكر

وسلسلت الشياطين: لماذا لم ينقطع الشر؟


إن شياطين الإنس الذين أفرغوا رمضان من مضمونه ومعناه الديني قد نجحوا -بالفعل- في تحويله إلى مجرد فلكلور شعبي.. فأصبح رمضان يعني العزومات والحلويات والمسلسلات وبرامج المقالب والترويع رمضان يعني الفوازير واللقاءات التليفزيونية التي لا يستفيد منها المشاهد أي شيء سوى معرفة بعض التفاصيل الخاصة عن حياة الممثلين والفنانين رمضان يعني الفوانيس والأنوار والزينة والسهرات الرمضانية والخيام الترفيهية والحفلات المختلطة وغير ذلك من المظاهر الاحتفالية.. كل هذا في مجمله يشكل فلكلورا شعبيا

بقلم: محمود خطاب
473