فلسفة الصوم

فلسفة الصوم | مرابط

الكاتب: محمد الغزالي

1538 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الصيام في واقعنا المادي

الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جوِّ الحضارة المادية التي تسود العالم؛ إنَّها حضارة تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثمَّ فهي تكره عبادةً تُقيِّد الشهوات ولو إلى حين، وتؤدِّب هذا البدن المدلَّل، وتلزمه مثلًا أعلى.

إنَّ الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل، ورفع مستوى المعيشة، ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى!

وتسارع إلى تبرئة الدين من حبِّ الفقر، وخصومة الجسم، فالغنى سرُّ العافية، والجسم القوي نعم العون على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يتعامل الناس مع أجسامهم على أسلوب معقول يحترم الحقائق وحدها؟
 

علماء التعذية

يقول علماء التغذية: إنَّ للطعام وظيفتين، الأولى: إمداد الجسم بالحرارة التي تعينه على الحركة والتقلُّب على ظهر الأرض، والأخرى: تجديد ما يستهلك من خلاياه، وإقداره على النموِّ في مراحل الطفولة والشباب.

حسنًا، هل نأكل لسدِّ هاتين الحاجتين وحسب، إنَّ أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا وكذا من (السُّعر الحراري) كي يعيش، والواقع أنَّه إذا كان المطلوب مائة سُعر، فإنَّ الآكل لا يتناول أقل من 300 سعر، وقد يبلغ الألف!!
 
الطعام وقود، لابدَّ منه للآلة البشرية، والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحي واضح. فخزان السيارة مصنوع من الصلب؛ ليسع مقدارًا معينًا من النفط يستحيل أن يزيد عليه، أما المعدة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يسع أضعاف ما يحتاج المرء إليه.

 

الرغبة القاتلة:

وخزان السيارة يمدُّها بالوقود إلى آخر قطرة فيه إلى أن يجيء مدد آخر.
أمَّا المعدة فهي تسدُّ الحاجة ثم يتحوَّل الزائد إلى شحوم تبطن الجوف، وتُضاعف الوزن، وذاك ما تعجِز السيارة عنه، إنَّها لا تقدر على أخذ (فائض)، ولو افترضنا فإنها لا تقدر على تحويله إلى لدائن تضاف إلى الهيكل النحيف، فيكبر، أو إلى الإطارات الأربعة فتسمن!!
 
الإنسان كائن عجيب، يتطلَّع أبدًا إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجًا أن تكون بدانة في جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماء في جسد طفل فقير، أو وقودًا في جسد عامل يجب أن يتحرك ويعرق!!

كان لي صديق يكثر من التدخين، نظرت له يومًا في أسف، ثم سمعني وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال -رحمه الله، فقد أدركته الوفاة– (اللهم لا تستجب ولا تحرمني من لذة "السيجارة").

ولم أكن أعرف أن للتدخين عند أصحابه هذه اللذة، فسكتُّ، وقد عقدت لساني دهشة.
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف ما يضرُّه، ويقبل عليه برغبة... إنها الرغبة القاتلة!!
على أن النفس التي تشتهي ما يؤذى يمكن أن تتأدَّب، وتقف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديمًا:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقنعُ

 

عندما نصوم حقًّا:

وهنا يجيء أدب الصيام: إنَّه يردُّ النفس إلى القليل الكافي، ويصدُّها عن الكثير المؤذى! ذاك يوم نصوم حقًّا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس!!
لعلَّ أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما.

كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنَّ شيئًا لم يحدث...
ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبتُّ في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح : 5 ، 6].
 
إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!
وأعتقد أن من أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر.
يضع الواحد منهم تمرات في جيبه، وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإنَّ العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلَّا توقَّفوا.

 

شريعة الصوم فوق هذا

وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة، تقشعرُّ منها البلاد، ويجفُّ الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين، أو يصومون كارهين، وملء أفئدتهم السخط والضيق. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله! إنها تحملٌ للمرء منه مندوحة- لو شاء- ولكنه يُخرس صياح بطنه، ويُرجئ إجابة رغبته، مدَّخِرًا أجر صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب.. {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103].
 
وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)))!
إن كلمتي (إيمانًا واحتسابًا) تعنيان جهدًا لا يُستعجل أجره، ولا يُطلب اليوم ثمنه؛ لأنَّ باذله قرَّر حين بذله أن يُجعل ضمن مدخراته عند ربه.. نازلًا عند قوله: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ : 39]!!

وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون للشهر حرمة، ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعامًا أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟
 
إنهم سوف يجدون أصحاب المدَّخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف : 50 ، 51].

 


 

المصدر:

كتاب (من مقالات الشيخ الغزالي)، جمع: عبد الحميد حسانين حسن، دار نهضة مصر- القاهرة. (1/102).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصوم
اقرأ أيضا
شبهات حول المرأة الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

شبهات حول المرأة الجزء الثاني


يمكن القول بأن الجاهلية جمعت شبهاتها حول الشريعة في المرأة وقد انعكست الطبيعة العاطفية لهذه القضية على هذه الشبهات مما ساهم في طرحها على سرعة التفاعل معها وخصوصا عندما تكون الأحكام الشرعية في الأساس غير مرهونة بمعرفة العلة العقلية منها ومن هنا كانت مواجهة شبهات الكافرين والمنافقين حول المرأة في حقيقتها مواجهة لأبعاد أساسية في قضية الشبهات الجاهلية حول الشريعة الإسلامية وليست مجرد شبهة واحدة كغيرها من الشبهات

بقلم: رفاعي جمعة
1808
مأساة أحد والعبقرية النبوية في التعامل معها | مرابط
اقتباسات وقطوف

مأساة أحد والعبقرية النبوية في التعامل معها


كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين فقد ذهبت ريحهم وزالت هيبتهم عن النفوس وزادت المتاعب الداخلية والخارجية على المؤمنين وأحاطت الأخطار بالمدينة من كل جانب وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء السافر وهمت كل طائفة منهم أن تنال من المؤمنين بل طمعت في أن تقضي عليهم وتستأصل شأفتهم

بقلم: صفي الرحمن المباركفوري
453
المؤمن كله طيب | مرابط
اقتباسات وقطوف

المؤمن كله طيب


مقتطفات من كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم للإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب رحمه الله وهو من أشهر وأبرز المؤلفات الجامعة لأصول وكليات الدين الحديث العاشر إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا

بقلم: ابن رجب الحنبلي
687
بيج بن الإسلامية | مرابط
اقتباسات وقطوف

بيج بن الإسلامية


يبدو أن التحديثات التي تشهدها مكة على يد السلطة السعودية لا تثمر تطورا وتقدما عمرانيا وحضاريا إلا على الطراز الغربي وهو ما يعني مزاحمة الجانب الروحاني الذي اختصت به مكة منذ قديم الزمان ومزاحمة الروحانيات التي تجتاح الحجاج في تلك البقعة الطاهرة وهذا مقتطف هام من كتاب من مكة إلا لاس فيجاس يعبر فيه المؤلف عن هذا التقدم وما أحدثه

بقلم: د علي عبد الرءوف
1985
هكذا يفعلون بتاريخنا | مرابط
فكر

هكذا يفعلون بتاريخنا


أدرك أعداء الإسلام أن الجيل المسلم يحب أن يكون له جذور يعتز بها ويحن إلى أمجادها لذا لم يكتفوا بتشويه القدوات المعاصرة بل عادوا إلى التاريخ فتعاملوا معه ب: 1 الحرق 2 التجهيل 3 التشويه حرق المكتبات وتجهيل النشء بالماضي وتشويه ما يعرفونه عنه

بقلم: د إياد قنيبي
2155
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1339