فلسفة الصوم

فلسفة الصوم | مرابط

الكاتب: محمد الغزالي

1614 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الصيام في واقعنا المادي

الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جوِّ الحضارة المادية التي تسود العالم؛ إنَّها حضارة تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثمَّ فهي تكره عبادةً تُقيِّد الشهوات ولو إلى حين، وتؤدِّب هذا البدن المدلَّل، وتلزمه مثلًا أعلى.

إنَّ الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل، ورفع مستوى المعيشة، ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى!

وتسارع إلى تبرئة الدين من حبِّ الفقر، وخصومة الجسم، فالغنى سرُّ العافية، والجسم القوي نعم العون على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يتعامل الناس مع أجسامهم على أسلوب معقول يحترم الحقائق وحدها؟
 

علماء التعذية

يقول علماء التغذية: إنَّ للطعام وظيفتين، الأولى: إمداد الجسم بالحرارة التي تعينه على الحركة والتقلُّب على ظهر الأرض، والأخرى: تجديد ما يستهلك من خلاياه، وإقداره على النموِّ في مراحل الطفولة والشباب.

حسنًا، هل نأكل لسدِّ هاتين الحاجتين وحسب، إنَّ أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا وكذا من (السُّعر الحراري) كي يعيش، والواقع أنَّه إذا كان المطلوب مائة سُعر، فإنَّ الآكل لا يتناول أقل من 300 سعر، وقد يبلغ الألف!!
 
الطعام وقود، لابدَّ منه للآلة البشرية، والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحي واضح. فخزان السيارة مصنوع من الصلب؛ ليسع مقدارًا معينًا من النفط يستحيل أن يزيد عليه، أما المعدة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يسع أضعاف ما يحتاج المرء إليه.

 

الرغبة القاتلة:

وخزان السيارة يمدُّها بالوقود إلى آخر قطرة فيه إلى أن يجيء مدد آخر.
أمَّا المعدة فهي تسدُّ الحاجة ثم يتحوَّل الزائد إلى شحوم تبطن الجوف، وتُضاعف الوزن، وذاك ما تعجِز السيارة عنه، إنَّها لا تقدر على أخذ (فائض)، ولو افترضنا فإنها لا تقدر على تحويله إلى لدائن تضاف إلى الهيكل النحيف، فيكبر، أو إلى الإطارات الأربعة فتسمن!!
 
الإنسان كائن عجيب، يتطلَّع أبدًا إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجًا أن تكون بدانة في جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماء في جسد طفل فقير، أو وقودًا في جسد عامل يجب أن يتحرك ويعرق!!

كان لي صديق يكثر من التدخين، نظرت له يومًا في أسف، ثم سمعني وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال -رحمه الله، فقد أدركته الوفاة– (اللهم لا تستجب ولا تحرمني من لذة "السيجارة").

ولم أكن أعرف أن للتدخين عند أصحابه هذه اللذة، فسكتُّ، وقد عقدت لساني دهشة.
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف ما يضرُّه، ويقبل عليه برغبة... إنها الرغبة القاتلة!!
على أن النفس التي تشتهي ما يؤذى يمكن أن تتأدَّب، وتقف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديمًا:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها
وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقنعُ

 

عندما نصوم حقًّا:

وهنا يجيء أدب الصيام: إنَّه يردُّ النفس إلى القليل الكافي، ويصدُّها عن الكثير المؤذى! ذاك يوم نصوم حقًّا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس!!
لعلَّ أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما.

كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنَّ شيئًا لم يحدث...
ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبتُّ في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح : 5 ، 6].
 
إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!
وأعتقد أن من أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر.
يضع الواحد منهم تمرات في جيبه، وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإنَّ العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلَّا توقَّفوا.

 

شريعة الصوم فوق هذا

وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة، تقشعرُّ منها البلاد، ويجفُّ الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين، أو يصومون كارهين، وملء أفئدتهم السخط والضيق. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله! إنها تحملٌ للمرء منه مندوحة- لو شاء- ولكنه يُخرس صياح بطنه، ويُرجئ إجابة رغبته، مدَّخِرًا أجر صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب.. {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103].
 
وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)))!
إن كلمتي (إيمانًا واحتسابًا) تعنيان جهدًا لا يُستعجل أجره، ولا يُطلب اليوم ثمنه؛ لأنَّ باذله قرَّر حين بذله أن يُجعل ضمن مدخراته عند ربه.. نازلًا عند قوله: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ : 39]!!

وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون للشهر حرمة، ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعامًا أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟
 
إنهم سوف يجدون أصحاب المدَّخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف : 50 ، 51].

 


 

المصدر:

كتاب (من مقالات الشيخ الغزالي)، جمع: عبد الحميد حسانين حسن، دار نهضة مصر- القاهرة. (1/102).

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصوم
اقرأ أيضا
مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط
فكر مقالات الديمقراطية

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1


من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقا إسلاميا شرعيا وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم

بقلم: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي
1217
قصة الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تاريخ

قصة الحروب الصليبية الجزء الثاني


الحروب الصليبية هي سلسلة الحروب التي شنها المسيحيون الأوربيون على الشرق الأوسط للاستيلاء على بيت المقدس ومنذ أن انتصرت القوات الإسلامية على القوات البيزنطية في معركتي اليرموك وأجنادين في عام 13 هجريا منذ ذلك الوقت والإسلام يهاجم الصليبيين ويفتح أراضيهم وظل الصليبيون يترقبون الفرصة والزمن المناسب للأخذ بالثأر ورد الفعل وهكذا كانت أحسن الفرص للانتهاز في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي والمقال الذي بين يدينا يقف بنا على أهم مراحل الحروب الصليبية وأبرز أحداثها ونتائجها

بقلم: موقع قصة الإسلام
2156
من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2 | مرابط
تفريغات

من علامات الساعة: ضياع أمانة الدين ج2


إن الأمانة اسم عام لكل تكليف كلفناه ربنا تبارك وتعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قول الله عز وجل:إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاالأحزاب:72 فالأمانة هي كلمة: لا إله إلا الله بتكاليفها هذه هي التي أشفقت السماوات والأرض والجبال عن حملها ومن علامات الساعة ضياع الأمانة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيه عن ضياع الأمانة في زمننا

بقلم: أبو إسحق الحويني
964
رؤية السلف لصفات الله عز وجل | مرابط
اقتباسات وقطوف

رؤية السلف لصفات الله عز وجل


ومن أهم المعاني التي كان يستحضرها السلف عند تصور صفات الله استحضار التعظيم الإلهي بمعنى أنهم يتذكرون دائما وجوب تعظيم الله وإجلاله سبحانه وهذا المعنى أثر في طريقة بحثهم وفي طريقة تعبيرهم عن مقام الله وأسمائه وصفاته

بقلم: سلطان العميري
893
طبيعة التصرفات النبوية | مرابط
تعزيز اليقين

طبيعة التصرفات النبوية


الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته أنها حجة وأنها تشكل بمجموعها مفهوم السنة النبوية وأنها منبع يصدر عنه في تقرير الأحكام وبيان التشريعات وقد نبه الإمام ابن عبد البر إلى طبيعة الإطلاق في الإطلاقات الشرعية الآمرة بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع أمره فقال: وقد أمر الله جل وعز بطاعته واتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء كما أمرنا باتباع كتاب الله

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
627
الشعر الجاهلي واللهجات ج1 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللهجات ج1


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يناقش موضوع الشعر الجاهلي واللهجات وما قاله طه حسين بخصوص ذلك ثم الرد عليه

بقلم: محمد الخضر حسين
844