في القرآن كفاية الجزء الثاني

في القرآن كفاية الجزء الثاني | مرابط

الدلالة العقلية:

 

لدينا هنا ثلاثة مسارات عقلية تدل بالضرورة على كون السنة وحي محتج به، وأنه لا يصح الاستغناء عنها بذريعة كفاية القرآن وحده:

 

المسار الأول:

 

عدم إمكانية إقامة الدين قطعًا دون اعتبار سنة النبي صلى الله عليه وسلم:
 
ويمثل هذا الاحتجاج العقلي أحد الاحتجاجات العلمية المبكرة المستعملة في دفع شبهة مدعي الاكتفاء بالنص القرآني، حيث جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنه في مخاطبة رجلٍ وقع في ذات هذا الإشكال، فقال له: (إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله تعالى الظهرَ أربعًا لا تجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدّد عليه الصلاة والزكاة ونحوهما، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسرًا؟ إن كتاب الله أحكم ذلك، وإن السنة تفسر ذلك).
 
وهو احتجاج بيّن ظاهر، يوضح أن من ينكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم سيكون عاجزًا عن إثبات الدليل على مسردٍ طويل جدًا من الأحكام الشرعية القطعية، والتي لا يختلف عليها مسلم، غير أن بيانها قد جاء في السنة.
 
وربما يقول قائل هنا: إن هذه الأمور من قبيل المتواتر العملي عند الأمة فيجب الأخذ بها.
 
فالجواب: أن هذا الاعتراض في الحقيقة نقضٌ لكلام مدعيه، لأنه نسي أن دعواه هنا تقوم على حصر الحجية في القرآن وحده، فإذا احتج بالمتواتر العملي فقد تجاوز الاحتجاج بالقرآن، وإذا خرج عنه فقد أقر على نفسه بأن دعواه باطلة.
 
ثم يقال له بعد ذلك: هذا المتواتر العملي على ماذا اتكأ في بنائه؟ ولن يجد هذا المدعي إلا أن يقول: هو شيء تُلقِّي من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الدين لا يتلقى من غير سبيله، فيقال: فالمتلقى عنه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون شيءٌ من كلام الله وهو ما نقله للأمة من القرآن، أو من كلامه وهو من سنته، وما دامت هذه الأحكام العملية المتواترة للأمة غير موجودة في القرآن فيلزم أن تكون من السنة، فحصل المطلوب.

 

المسار الثاني:

 

أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي خير معين على فهم كتاب الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم البشر بكلام الله تعالى، ومن أدواره صلى الله عليه وسلم بيان معاني القرآن، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، قال الإمام أحمد رحمه الله في أصول السنة: (والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن). وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: (الرجل إلى الحديث أحوج منه إلى الأكل والشرب، وقال: الحديث تفسير القرآن).
 
ومن جميل الآثار المنقولة المؤكدة لهذا المعنى ما جاء عن أيوب السختياني أن رجلًا قال لمطرف بن الشخير –وهو من كبار التابعين– لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: (والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منَّا).
 
فالمتبع للسنة الآخذ بها أولى أن يكون مصيبًا لمراد الله تعالى من كتابه، إذ قد جاء الأمر من بابه، وطلبه من أعلم الناس به.

 

المسار الثالث:

 

أن إنكار السنة النبوية يلزم منه لزومًا قطعيًا الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، بل والطعن في القرآن، وذلك من ثلاث أوجه:
 

الوجه الأول


الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم تناول بالذكر أمورًا ليست في القرآن، فقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه تحدث عن مغيبات ماضية ومستقبلية وآنيّة، كما سنَّ الكثير من التشريعات والأحكام، ويلزم من قال بكفاية القرآن وحده أن يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قد تحدث فيها بكلام كثير جدًا وليس له مستند في القرآن، فعلى أي شيء يحمل كلامه عليه الصلاة والسلام في هذه الأمور ما دام أن قوله فيها ليس بحجة؟

وتأكيدً لهذه المسألة، نستعرض مثلًا واحدًا فقط مما هو داخل في هذا الشأن مما جاءت الإشارة إليه في القرآن لئلا ينازعنا الخصم في وقوعه قطعًا، وهو ما تواتر من شأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس في صلواتهم في أول الأمر حتى أمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة، فقال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه لبيت المقدس بأي شيء كان، وليس في القرآن أمرٌ باستقبال قبلةٍ سابقة على الكعبة لتجيء هذه الآيات القرآنية ناسخة له؟

وهذا يدل على نحو صريح بأن ما جاء في سنته صلى الله عليه وسلم من تشريعات يجب الأخذ بها كالقرآن لأنها من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أطاعه فقد أطاع الله.

 

الوجه الثاني

الوجه الثاني: لو كانت السنة غير واجبة الاتباع، بل وضال من يتبعها، لوجب أن نجد في القران ما يوضح هذا الأمر المهم حتى يعرف الناس دينهم، لكننا لم نجد شيئًا من ذلك في القرآن، بل وجدنا فيه ما يخالف ذلك من الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان فضل ذلك وبركته، وما يترتب عليه من الخير في الدنيا والآخرة، وما يلحق التارك له من الوعيد الشديد، وعلى هذا سار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين نقلوا لنا هذا الدين فاعتمدوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في التشريع، واتفق عليه المسلمون من بعدهم، فالقول بأن السنة ليست بحجة يعني أن الشريعة كانت ملبسة على الناس ولم تبين لهم الحق، بل وضللتهم عنه.
 

الوجه الثالث

الوجه الثالث: من اللوازم الخطرة التي تكشف بشاعة هذه المقولة وشناعتها، أنها في الحقيقة لا تخرج إخراج النبي صلى الله عليه وسلم نفسه من دائرة المخاطب بها، بمعنى أن صاحبها لو كان في زمن النبوة وكافحه النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر مما ليس في القرآن نصًا، للزم صاحبها أن يقول: يا رسول الله، حسبنا كتاب الله! وكفى بهذا المشهد قبحًا وضلالًا. إذ هو مع ما يتضمنه من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومبادرته إلى العصيان، يتضمن تناقضًا كبيرًا، إذ كيف يصح أن يردّ أمرَ من يعترف له بالرسالة، وقد سبق بيان أن لازم رد أمره هو طعن في رسالته ونبوته، فاعتراف هذا المدعي برسالة النبي صلى الله عليه وسلم دعوى تكذبها هذه الممارسة.  
 
وهذه اللوازم الشنيعة لا يمكن أن ينفك عنها من ينكر حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد أن إنكار السنة يكون مدخلًا لكثير منهم إلى إنكار بعض أحكام القرآن أو ترك الإسلام بالكلية، لأن هذا القول في حقيقته منافٍ للقرآن، ويلزم منه الطعن في شريعة الإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهو ما يغذي النفاق والتمرد على الدين بالكلية.
 

تبيانا لكل شيء

 

بقي الكلام على إشكال الاستدلال بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وقوله سبحانه:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، على أنها تحصر الحجية في القرآن وحده دون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يمكنالاكتفاء به عن السنة، لأنه جاء تبيانًا لكل شيء.
 
والجواب: أن ما سبق ذكره من دلائل لزوم الاحتجاج بالسنة النبوية معانٍ محكمة، وهو ما يوجب السعي في جمع دلائل الشريعة بعضها إلى بعض، لا أن يُضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، ولذا فالمتعين هنا فهم مراد الله تعالى من كون القرآن تبيانًا لكل شيء، وبإدراكه ينحل إشكال هذا الوهم الفاسد، فالآية الكريمة إنما جاءت بعموم أريد به الخصوص، فهي تقصد أن القرآن جاء تبيانًا للأمور التي يحتاجها المسلم في دينه، وهذا بدهي لأي ناظر في القرآن وفي طبيعة القضايا التي جاء بها، ولا يمكن أن يفهم من الآية أن في القرآن ذكرًا لكل شيء مما يتعلق بعلوم الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء مثلًا، فهذا فهم باطل بداهة، فهذا مراد الله من كون القرآن تبيانًا لكل شيء أو تبيانًا لما يحتاجه المسلم من شأن دينه.
 
ثم إن بيان القرآن للأمور الدينية أوسع دائرة مما يتوهمه من يريد حصر الحجية فيه دون غيره، فالقرآن قد يدل على الأحكام الشرعية إما بالنص المباشر عليها، أو بالدلالة عليها من خلال ما أقامه من دلائل معتبرة كالسنة، فاتباع السنة في الحقيقة هو اتباع للقرآن كما سبق، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله، فهذه من طرائق تبيان القرآن للأحكام، بالإشارة إلى ما يبينها من الأدلة المعتبرة، ومنها سنته صلى الله عليه وسلم.
 
أما قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) فيمكن استبانة معناها من خلال ملاحظة سياقها، حيث جاءت في سياق قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فالسياق يكشف أن الكتاب هنا ليس القرآن، وإنما هو اللوح المحفوظ كما نص عليه عدد كبير من أهل التفسير. وبتقدير أن يكون المقصود به القرآن كما قاله بعض أهل التفسير، فيؤول معناها إلى المعنى المذكور للآية السابقة، بأن في القرآن بيانًا لكل شيء من أمور الدين، ولم يترك شيئًا لم يفصله بدلالة ظاهرة أو بمجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم.
 
والخلاصة التي لا ينبغي لمسلم أن يتنازع فيها، أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي وحي مُنَزَّل، ولأجل ذلك كانت حجة شرعية معتبرة، وقد انعقد إجماع أهل الإسلام كافةً على هذا، فمن خالف في هذا ورده فهو المتوعد بمثل قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص21
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم


مقتطفات متفرقة عن أربعة من العلماء يظهر فيها قدر العلم عندهم وحقيقته التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فليس العلم أبدا هو كثرة الرواية أو كثرة الحفظ ولا يكون العلم علما إلا إذا أثمر طاعة وانقيادا إلى الله عز وجل وهربا من الهوى والبدعة وأصحابهما

بقلم: مجموعة علماء
1604
أصول الانحراف الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج2


إن من مقاصد الوحي وضوح طرق الضلال أن تكون واضحة أمامنا وفي سورة الأنعام بعد شوط طويل من الشرح والتوضيح والتبيين للآيات البينات ذكر ربنا سبحانه وتعالى محاولة خبيثة من أهل الباطل لإضلال النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه ومحاولة لدس الحقد والضغينة بين المسلمين

بقلم: أحمد عبد المنعم
641
الحكمة من خلق الخلق ج1 | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الخلق ج1


تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني يقف فيها على سؤال بديهي وربما لا يخطر لكثير من الناس رغم حاجتهم الشديدة إليه ألا وهو: لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن فمعرفة هذا الجواب وإدراك الغاية والحكمة من الخلق ربما يبدل الكثير من التصورات الخاطئة عند الناس ويعينهم على العودة إلى طريق الرشاد

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
579
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1451
لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام | مرابط
مقالات

لا تعرف الإنسانية حضارة قاومت الرق كالإسلام


إن النصوص الصحيحة المأثورة عن الدين الإسلامي في القرآن وكتب السنة النبوية المشهورة بصحة رواتها إذا أردنا أن نقتصر منها على المعاني الإنسانية الخاصة بالرقيق فإنها وحدها تبلغ كتابا وإذا حاولنا أن ننقل الوقائع التاريخية عن عظماء المسلمين وأئمتهم وأخبارهم في تطبيق هذه النصوص والمبادئ والأحكام بالعمل لكان من ذلك مجلدات كئيرة.

بقلم: محمد الخضر حسين
645
ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية | مرابط
فكر مقالات

ينابيع النزعة الدينية في النفس البشرية


ما هذه إذن تلك القوة الغلابة التي لا تزيدها المقاومة إلا عنفا واشتعالا والتي تقهر في النهاية أنصارها وأعداءها على السواء أليست هي قوة الفطرة التي إن تورق وتثمر كلما عاودها الربيع فبلل ثراها وسقى أصولها بلى وإن هذا الربيع قد تكفي منه قطرة وربما تبلور في نظرة فما هي إلا طرفة من تأمل الفكر أو لحظة من يقظة الوجدان أو أزمة من صدمات العزم فإذا أنت تسبح بخيالك في عالم الغيب الذي منه خرجت أو في عالم الغيب الذي إليه تصير

بقلم: محمد عبد الله دراز
2261