الحكمة من خلق الخلق ج1

الحكمة من خلق الخلق ج1 | مرابط

الكاتب: محمد ناصر الدين الألباني

484 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" [آل عمران:102].

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1].

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: فكلمتي الآن جواب عن سؤال لم يعتد الناس أن يطرحوه، وهم في الواقع في حاجة إلى أن يذكروا بجوابه، ألا وهو:

لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن؟

الجواب في القرآن الكريم، وبطبيعة الواقع لا أقدم إليكم شيئًا مجهولًا في ظن لدى كافة المسلمين، وإنما هي:

أولًا: الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
وثانيًا: أريد أن أربط بهذا التذكير أمرًا قد يكون كثير من الناس عنه غافلين.

فجواب ذاك السؤال في قوله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" [الذاريات:56-58] إذًا: هذه الآية تعطينا الغاية والحكمة التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنس والجن، ومن باب أولى الملائكة الذين وصفهم ربهم عز وجل في القرآن الكريم بقوله: "لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم:6] هذه الحكمة هي: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، خلق الجن والإنس ليعبدوه وحده لا شريك له.


العبادة والرزق

ثم ذكر الله عز وجل بعد الحكمة التي بينها قوله تبارك وتعالى: "مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" [الذاريات:57-58].

لماذا ذكر ربنا عز وجل: "مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ" [الذاريات:57]؟

أي: لكي لا يهتم المسلم برزقه اهتمامه بعبادة ربه، أي: يجب عليه أن يهتم بما من أجله خلق، وليس أن يهتم بالرزق؛ لأن الرزق قد تكفله الله عز وجل لعباده وقدره منذ أن كان جنينًا في بطن أمه، كما تعلمون من الأحاديث الصحيحة، التي جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أن الله تبارك وتعالى يرسل ملكًا إلى الجنين وهو في بطن أمه، فينفخ فيه الروح بعد أن جاوز الأربعة الأشهر، ويسأل ربه عن عمره، وعن رزقه، وعن أجله، وعن سعادته أو شقاوته، كل هذا قد سجل، كما جاء في قوله تبارك وتعالى على قولٍ من أقوال المفسرين في قوله عز وجل: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ" [الذاريات:22].

 

فالله عز وجل قد قدر الرزق منذ القديم، ولذلك فلا ينبغي للمسلم أن يهتم برزقه -وأرجو الانتباه!- لا أقول: ألا يهتم بالسعي وراء رزقه، لا. وإنما أعني وأصرح فأقول: لا ينبغي أن يهتم المسلم بتحصيل رزقه بقدر ما يهتم بعبادة ربه تبارك وتعالى؛ لأن الرزق مقطوعٌ مضمون، وإن كان هذا الكلام لا نعني به ألا يسعى المسلم وراء رزقه، لكن إنما نعني ألا يجعل الغاية من حياته هو أن يسعى وراء رزقه؛ لأن الغاية -كما علمتم- إنما هي عبادة الله وحده لا شريك.

 

ولكي لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ -حينما نلفت النظر إلى الاهتمام بتحقيق الغاية الشرعية التي من أجلها خلق الله عز وجل الإنس والجن- لكي لا يتبادر إلى ذهن أحدٍ أننا نأمر بما يظنه بعض الناس أنه توكل على الله حينما لا يسعى وراء الرزق، فأقول: ليس الإعراض عن السعي وراء الرزق توكلًا على الله تبارك وتعالى؛ وإنما هو تواكل واعتمادٌ على العبد أو على العبيد الذين لا ينبغي أن يعتمد المسلم في تحصيله لرزقه على غير ربه تبارك وتعالى؛ ذلك لأن السعي وراء الرزق بالحد المطلوب شرعًا، وبقدر ألا يبالغ في طلب الرزق، ومن المبالغة في طلب الرزق ما سأدندن حوله، وهو أن يطلب الرزق من أي طريقٍ كان، لا يهمه أجاءه الرزق بسببٍ حرامٍ أو حلالٍ، فالذي نريده أن السعي وراء تحصيل الرزق بالوسائل المشروعة، وبالقدر المشروع الذي لا يجعله غايته من حياته كما ألمحت إلى ذلك آنفًا، هذا السعي وراء الرزق يعتبره الشارع الحكيم من الجهاد في سبيل الله عز وجل.

 

فقد جاء في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسًا يومًا وحوله أصحابه، حينما مر رجلٌ شابٌ جلدٌ قويٌ عليه آثار النشاط والشباب، فقال أحد الحاضرين: لو كان هذا في سبيل الله) أي: لو كانت هذه الفتوة وهذا الشباب والقوة في سبيل الله عز وجل، يتمنى أحد الحاضرين أن يكون هذا الشاب المار بهذه القوة والفتوة يجاهد في سبيل الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم ملفتًا نظر من حوله أولًا، ثم من سيبلغهم هذا الحديث ثانيًا، إلى أن السعي وراء الرزق -كما قلت آنفًا- هو من الجهاد في سبيل الله عز وجل، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم مجيبًا ذلك الصحابي الذي تمنى أن يكون شباب ذلك الرجل المار وقوته في سبيل الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان هذا خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أهله وأولاده الصغار فهو في سبيل الله).

 

إذًا: السعي وراء الرزق هو من الأمور المرغوب فيها، والتي حظ الشارع الحكيم عليها، ولكن على اعتبار أنها وسيلة وليست غاية المسلم في هذه الحياة، إنما غايته أن يعبد الله عز وجل وحده لا شريك له، وسعيه وراء الرزق ليتمتع بالقدرة والقوة على القيام بما فرض الله عز وجل عليه من الجهاد، ليس فقط في قتال الأعداء الذين حرمنا -مع الأسف الشديد- في عصرنا هذا من هذا الجهاد، وإنما على الأقل في الجهاد جهاد النفس الأمارة بالسوء، التي تتطلب القيام بكثيرٍ من الفروض والواجبات، ومنها -مثلًا- الصلاة التي هي الركن الثاني بعد الشهادتين في الإسلام.

 

فمن كان هزيلًا، ومن كان مريضًا لا يسعى لتقوية بدنه بما أنعم الله عليه من رزقٍ؛ فقد لا يستطيع أن يقوم بما فرض الله عز وجل من عليه الجهاد النفسي العام، الذي عبر عنه الرسول عليه السلام في الحديث الصحيح حين قال: (المجاهد من جاهد نفسه لله) وفي رواية: (هواه لله عز وجل) هذا الجهاد يتطلب -كما ألمحت آنفًا- إلى أن يكون المسلم قويًا في جسده، كما هو قويٌ في عقيدته وفي معانيه الإيمانية الإسلامية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الألباني #الغاية-من-الخلق
اقرأ أيضا
الفتح الإسلامي | مرابط
تاريخ فكر مقالات

الفتح الإسلامي


الفتح الإسلامي أكبر لغز من ألغاز العبقرية وأروع أحجية من أحاجي النبوغ وأجل مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة وأعصار مديدة ارتقى فيها فن الحرب وتقدم فيها البشر أشواطا في كل ميدان من ميادين الحضارة وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها فبدت لهم هينة ضئيلة بعد أن كانوا يرونها لغزا لا يحل ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كنهها وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر وقبل أن يرى تاريخ البشر حاد...

بقلم: علي الطنطاوي
1161
أنواع الربا | مرابط
تفريغات

أنواع الربا


لكي يكشف عليه الصلاة والسلام أنواع الربا ولكي يضبط الأمر ويحدده قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى فإن اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه مسلم وغيره.

بقلم: محمد صالح المنجد
363
إشكالية المصطلح النسوي | مرابط
اقتباسات وقطوف النسوية

إشكالية المصطلح النسوي


تظهر إشكالية المصطلح النسوي فيما يتعلق برخاوة الدلالة كحال مصطلح الأدوار النمطية والمقصود به طريقة توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة فهناك ضبابية شديدة في استعمالاته ويستعمل بدون ضبط لدلالاته والسبب في ذلك أنه لا يمكن ضبط دلالته بشكل دقيق

بقلم: د خالد عبد العزيز
673
مفهوم العبادة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مفهوم العبادة


وأما العبادة الخاصة وهي العبادة الشرعية وهي التذلل لله سبحانه وتعالى شرعا فهذه خاصة بالمؤمنين بالله سبحانه وتعالى القائمين بأمره ثم إن منها ما هو خاص أخص وخاص فوق ذلك فالخاص الأخص كعبادة الرسل عليهم الصلاة والسلام

بقلم: ابن عثيمين
308
تصاعد قضية التحرش في البلاد المتحضرة | مرابط
فكر تفريغات المرأة

تصاعد قضية التحرش في البلاد المتحضرة


ماذا عن الفتاة في الجامعة أذكر حين دخلت جامعة هيوستن الأميريكية لإتمام الدكتوراه كيف وزع علينا كتيب فيه إحصائيات منها أن واحدة من كل ثلاث طالبات تتعرض للتحرش وما على الطالبة أن تعمله لتتجنب هذا وإن حصل فعلى أي رقم تتصل والأمر يزداد سوءا والنسب تتضاعف عالميا

بقلم: د إياد قنيبي
462
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
610