قصور العقول عن إدراك مسألة القدر

قصور العقول عن إدراك مسألة القدر | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

241 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأٌداره؛ فالله خلق عقل الإنسان، وجعله كالوعاء، يحوي به، وجعل الأوعية مختلفة، لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء، فإن منها ما لا يصلح لها، ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر، وما زاد فاض.

وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله، وطلبه أن يحوي كل شيء به، وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني، لو سكبت عليه، طوته وضاع فيها وتحيّر.

ومما يدخل في ذلك: مسألة القدر، وهي مسألة لا يقدر العقل على الإحاطة بها، حتى لو عرضت عليه من أولها إلى آخرها حكمةً وعلةً، حتى يجعل الله له عقلا يختلف عن عقله الذي هو عليه؛ فكما أنه لا يمكنه عد الرمل والنجوم بالحساب، ولا تأمّل شمس الظهيرة بالبصر، ولا تحسس النار بالجسد، وكذلك لا يحيط بمسألة القدر بالعقل والفكر، وقد جاء عن جعفر بن محمد، وأبي حنيفة: أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد نظرا ازداد تحيرًا

ومن دخل فيه ولو أطال التأمل والتفكر، فلن يصل إلى شيء لم يرده الله؛ لأن الله أخفاه، ولا مجال للوصول إلى شيء من ذلك إلا بالقدر الذي يأذن الله فيه؛ وقال تعالى "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" فالواجب معه التسليم والانقياد.

ومن الإيمان بالله وتعظيمه: التسليم لما أخفاه، وعدم البحث عنه؛ فإنه لا يبحث إلا عما يمكن الوقوف عليه، والله أخبر عن عدم إمكان ذلك؛ فالتوقف إيمان وتسليم بخبره، والبحث والتنقيب شك أو تكذيب به

وفي ذلك يقول ابن عمر: شيء أراد الله عز وجل ألا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم

ولذا كان غير واحد من الصحابة والتابعين يسمى القدر "سر الله"، كما روي عن علي بن أبي طالب؛ قال: سر الله فلا تَكَلّفه.. ونحوه جاء عن طاوس ويحيى بن معاذ وروي مرفوعا ولا يصح؛ من حديث ابن عمر وأنس وعائشة وهكذا سماه غير واحد من الأئمة كالآجري، وابن عبد البر وغيرهما.

وكثير ممن يعجز عقله عن تأمل المسائل، ويتحيّر عن فهمها لا يبيئ الظن بعقله، وإنما يتهم المسألة بعدم انضباطها فيجحدها، أو يخرج بنتيجة خاطئة ليخرج من ضعف العقل واتهامه إلى الاغترار به.

وأما أهل الإيمان ورجاحة العقل، فيعرفون نقص العقل وكمال النقل؛ فيتوقفون عند ما ثبت به النص، وعجز عنه العقل، ويسلمون إيمانا بربهم وتسليما له.

والتسليم والتوقف هو أمر الله لعباده في المسائل التي لا يدركونها، ولا يمكنهم الإحاطة بها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ) وفي رواية (فليقل: آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه)

وفي الحديث أن رسول الله لم يمنعه من بحث خلق المخلوقات، ولكن منعه من بحث خلق الرب سبحانه؛ وذلك لأن المخلوقات تتشابه، وفالإيمان بخلق شيء يقويه خلق غيره من الكون، فلكل مخلوق مثال يشابهه أو يقارنه

ولكن لما كان الرب هو الخالق؛ ولا خالق سواه، فلا خالق له؛ ولهذا فقد أمره بالاستعاذة من الشيطان، وبالانتهاء عن مجرد التفكير في ذلك؛ لأن غاية العقل والإيمان بالأقيسة العقلية فقط، والله لا مثال له، ولا يشابهه شيء، ولا يتمكن العقل من إيجاد نتيجة متدرجة منتظمة لمن لا مثال له؛ لأن عقله سيتحير، وواجبه التوقف والتسليم والإيمان بالله.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #العقل #النقل
اقرأ أيضا
المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة | مرابط
تاريخ فكر مقالات

المراحل التي مرت بها الشيعة الرافضة


الرافضة من أشهر فرق الشيعة ومن أكثرهم غلوا وتطرفا من بين الفرق الأخرى التي تنتسب زورا إلى الإسلام والمقال الذي بين يدينا يوضح لنا الظروف والمراحل التي مرت بها هذه الفرقة وكيف كان بداية أمرها وكيف وصل بها الحال إلى هذه التسمية الجديدة وهذا الفراق بينها وبين الفرق الإسلامية

بقلم: د علي محمد الصلابي
2920
مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين تفريغات مناقشات

مخالفة المرجئة لمنهج السلف: إخراج العمل عن الإيمان


ومنهج أهل السنة والجماعة في قضايا الإيمان والتوحيد أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وهذا خلافا للمرجئة فالإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان والإيمان قول وعمل القول باللسان فإذن قول القلب وعمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح الإيمان حقيقة مركبة من هذه الأشياء الأربعة وفي هذا المقال بيان لحقيقة الإيمان وخلاف المرجئة فيه

بقلم: محمد صالح المنجد
1214
ليس هناك دليل قطعي | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

ليس هناك دليل قطعي


من المقولات الغريبة في المشهد الفقهي المعاصر المطالبة في مسائل الشريعة بالأدلة القطعية دون الأدلة الظنية فإذا ما حكيت إيجاب مسألة أو تحريمها قال لك بعضهم: هل فيها دليل قطعي وكأن الأحكام الشرعية لا تنبني إلا على القطعيات وأن ما لم يكن بهذه المثابة من الأدلة مطرح الدلالة لا يؤخذ به

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2478
الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة | مرابط
فكر مقالات الإلحاد

الإلحاد وسؤال الإرادة الحرة


من الملاحظات التي يمكن رصدها في كثير من الكتابات الإلحادية الحديثة أنها تتبنى رؤية جبرية مغالية في تفسير وقوع الأفعال الإنسانية ففكرة الإرادة الحرة وهم والإنسان في حقيقته مجبور على أفعاله وإن أحس أنه مختار لها أو كما عبر بعض الجبرية في الكتابة التراثية: الإنسان مجبور في صورة مختار

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
3050
الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء | مرابط
مناظرات اقتباسات وقطوف

الاحتجاج بزلل العلماء والفقهاء


لا ينبغي أن يقف المسلم عند زلة العالم ويحتج بها أو يعتقد فيها رخصة له ليفعل المثل أو يواجه النص الصحيح الثابت بها فهذا ما لا يقبله عقل بالطبع وكل العلماء وكل أهل العلم لهم زلاتهم ولو وقف الواحد منا عند كل ذلة لأنشأ لنفسه دينا جديدا بعيدا عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2065
تعدد طرق الضلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعدد طرق الضلال


الشبهات هي شبهات عظيمة في ذاتها وشبهات هي يسيرة في ذاتها ولكنها عظيمة في قلب الإنسان لقلة معرفته بالحق فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان طريقا مختصرا بينا يميز به الإنسان الخير من الشر ويجعل هذا الطريق هو طريق الفيصل بين الطرق كلها وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أن الصراط صراط واحد وأما السبل فهي متعددة لأن طريق الحق هو طريق واحد كحال العافية فالعافية واحدة وأما الأمراض فمتعددة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
364