قصور العقول عن إدراك مسألة القدر

قصور العقول عن إدراك مسألة القدر | مرابط

الكاتب: عبد العزيز الطريفي

304 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

وقصور عقول البشر سبب لإنكار كثير مما لا تدركه من أحكام الله وأٌداره؛ فالله خلق عقل الإنسان، وجعله كالوعاء، يحوي به، وجعل الأوعية مختلفة، لم يجعل للأوعية طاقة باستيعاب كل شيء، فإن منها ما لا يصلح لها، ومنها ما يمكن أن يحتوي منه بقدر، وما زاد فاض.

وأصل الضلال: اغترار الإنسان بعقله، وطلبه أن يحوي كل شيء به، وبعض المعلومات بالنسبة للعقل كالمحيطات بالنسبة للأواني، لو سكبت عليه، طوته وضاع فيها وتحيّر.

ومما يدخل في ذلك: مسألة القدر، وهي مسألة لا يقدر العقل على الإحاطة بها، حتى لو عرضت عليه من أولها إلى آخرها حكمةً وعلةً، حتى يجعل الله له عقلا يختلف عن عقله الذي هو عليه؛ فكما أنه لا يمكنه عد الرمل والنجوم بالحساب، ولا تأمّل شمس الظهيرة بالبصر، ولا تحسس النار بالجسد، وكذلك لا يحيط بمسألة القدر بالعقل والفكر، وقد جاء عن جعفر بن محمد، وأبي حنيفة: أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس؛ كلما ازداد نظرا ازداد تحيرًا

ومن دخل فيه ولو أطال التأمل والتفكر، فلن يصل إلى شيء لم يرده الله؛ لأن الله أخفاه، ولا مجال للوصول إلى شيء من ذلك إلا بالقدر الذي يأذن الله فيه؛ وقال تعالى "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" فالواجب معه التسليم والانقياد.

ومن الإيمان بالله وتعظيمه: التسليم لما أخفاه، وعدم البحث عنه؛ فإنه لا يبحث إلا عما يمكن الوقوف عليه، والله أخبر عن عدم إمكان ذلك؛ فالتوقف إيمان وتسليم بخبره، والبحث والتنقيب شك أو تكذيب به

وفي ذلك يقول ابن عمر: شيء أراد الله عز وجل ألا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم

ولذا كان غير واحد من الصحابة والتابعين يسمى القدر "سر الله"، كما روي عن علي بن أبي طالب؛ قال: سر الله فلا تَكَلّفه.. ونحوه جاء عن طاوس ويحيى بن معاذ وروي مرفوعا ولا يصح؛ من حديث ابن عمر وأنس وعائشة وهكذا سماه غير واحد من الأئمة كالآجري، وابن عبد البر وغيرهما.

وكثير ممن يعجز عقله عن تأمل المسائل، ويتحيّر عن فهمها لا يبيئ الظن بعقله، وإنما يتهم المسألة بعدم انضباطها فيجحدها، أو يخرج بنتيجة خاطئة ليخرج من ضعف العقل واتهامه إلى الاغترار به.

وأما أهل الإيمان ورجاحة العقل، فيعرفون نقص العقل وكمال النقل؛ فيتوقفون عند ما ثبت به النص، وعجز عنه العقل، ويسلمون إيمانا بربهم وتسليما له.

والتسليم والتوقف هو أمر الله لعباده في المسائل التي لا يدركونها، ولا يمكنهم الإحاطة بها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينتهِ) وفي رواية (فليقل: آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه)

وفي الحديث أن رسول الله لم يمنعه من بحث خلق المخلوقات، ولكن منعه من بحث خلق الرب سبحانه؛ وذلك لأن المخلوقات تتشابه، وفالإيمان بخلق شيء يقويه خلق غيره من الكون، فلكل مخلوق مثال يشابهه أو يقارنه

ولكن لما كان الرب هو الخالق؛ ولا خالق سواه، فلا خالق له؛ ولهذا فقد أمره بالاستعاذة من الشيطان، وبالانتهاء عن مجرد التفكير في ذلك؛ لأن غاية العقل والإيمان بالأقيسة العقلية فقط، والله لا مثال له، ولا يشابهه شيء، ولا يتمكن العقل من إيجاد نتيجة متدرجة منتظمة لمن لا مثال له؛ لأن عقله سيتحير، وواجبه التوقف والتسليم والإيمان بالله.


المصدر:
عبد العزيز الطريفي، الخراسانية في شرح عقيدة الرازيين

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #العقل #النقل
اقرأ أيضا
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الخامس ج1


من الكلمات الجميلة جدا يقول صلى الله عليه وسلم: وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك تواضعا لك وتعظيما لك وتكريما وتبجيلا لك تقف لك الملائكة في الطريق هكذا لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علما انظر إلى عظم الأمر تغيرات كونية هائلة تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط بل تتواضع لك وتبجلك وتعظمك

بقلم: د راغب السرجاني
834
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج4


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
559
شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون


تقول الشبهة: جاء في القرآن أن كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى فكيف يستوي ذلك مع ما نجده في حال الإنسان حيث نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر والمقال الذي بين يدينا يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويوضح الخطأ فيها

بقلم: محمد عمارة
1589
أحاديث مشكلة في الحجاب ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

أحاديث مشكلة في الحجاب ج1


لا يخلو باب من أبواب أصول الدين ولا فروعه من آيات أو أحاديث مشتبهة تخالف في ظاهرها المحكمات البينات فإن جاز ذلك في الأصول فإنه في أبواب الفروع من باب أولى وفي أبواب حجاب المرأة ولباسها يورد بعض الكتاب أحاديث تخالف المحكم البين منها الصحيح ومنها الضعيف ومنها ما لو وضع في موضعه ولم يلغ به العام لاستقام للناظر الحكم ولكن استعمل كثير من الأحاديث الظنية في نقض القطعية والأحاديث المشتبهة في نقض المحكمة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
729
من خصائص القرآن البيانية | مرابط
اقتباسات وقطوف

من خصائص القرآن البيانية


فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون بل فليت القشرة عن لبها وكشفت الصدفة عن درها فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي تجلى لك ما هو أبهى وأبهر ولقيك منه ما هو أروع وأبدع

بقلم: محمد عبد الله دراز
967
فضل تعلم اللغة العربية | مرابط
تفريغات لسانيات

فضل تعلم اللغة العربية


الناس يرتفعون لفهمهم كلام الله جل في علاه ومراد الله في كتابه وهذا لا يكون إلا باللغة العربية ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان يضرب بالدرة على ذلك ويقول: تعلموا العربية فإنها لغة القرآن ونحن أعاجم لسنا بعرب فكثير من كلمات المصنفين لا نستطيع أن نعرف معانيها إلا بالرجوع إلى المعاجم اللغوية فاللغة العربية لها أهمية قصوى لأنها من علوم الآلة التي بها استقامة اللسان واستقامة اللسان ممدحة في الشرع وكذلك العقل عن الله جل في علاه وفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقلم: محمد حسن عبد الغفار
451