قضية اللغة العربية الجزء الثاني

قضية اللغة العربية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

2012 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

في زمان الغفلة

 

منذ أربعة قرون ماضية، كان العالم العربي والإسلامي أرضًا واحدة، تحيي حضارة واحدة، تمدها ثقافة واحدة، من أقصى المغرب إلى حدود الصين، ومن أطراف تركية إلى دار الخلافة في أغوار أفريقية وآسية. أمة واحدة وارثة لأسلافها، ولكن الورثة كانوا في غفلة، استناموا إلى ميراثهم الجليل الضخم، فهمدوا همود الجمرة تحت الرماد.
 
وفي زمان غفلتهم واستنامتهم، دبت الحياة دبيبها في ناحية أخرى على أطراف دولتهم.. حركة حياة لم يلقوا إليها بالا في أول الأمر، مع أن الله تعالى كان قد أنذرهم قبل ذلك بقليل، فسلّط الهمج البرابرة على طرف من الأطراف؛ دولتهم في الأندلس، بعد أن عمروها ثمانية قرون، فأبادوا ملكهم واستباحوا حضارتهم ونهبوا ما في أيديهم من ثروة وعلم وبشر، ودمروا أكثر ما شيدوه من بنيان.. عظة وعبرة لم تجسد مستمعًا ولا مستجيبًا.
 
والآن، هم في غفلة واستنامة، كان قدر الله سبحانه يعد لهم بعد المغل "المغول" والتتر الذين انصبوا عليهم من الشمال الشرقي.. مغل العصور الحديثة وتترها من الشمال الغربي ليرسلوا عليهم.. لن يكونوا مغلا جهلة كأهل الشمال الشرقي، بل مغلا مدربين قد استفاقوا من جهالة ظلوا غارقين في مستنقعها اثني عشر قرنًا "هي القرون الوسطى، كما يسمونها"، بعد أن أيقظتهم حضارة العالم الإسلامي وأمدتهم بما يحييهم، وبعد أن وضع لهم نيكولو مكيافيلي دستورهم الأخلاقي السياسي، الذي لا تزال تسرى شروره في شرايين الحضارة الأوروبية الحديثة إلى هذا اليوم.
 
بدأ زحف المغل "المغول" المحدثين على دولة الخلافة الإسلامية بحذر شديد، وبدأ تطويق العالم العربي الإسلامي من سواحل البحار البعيدة في إفريقية وآسية والهند وجزيرة العرب.. ثم بدأ التغلغل في حواشي الأرض اليابسة من أطراف العالم الإسلامي. ومرت السنون، وشيًا فشيئًا نفذت سطوة المغل المحدثين في كيان دولة الخلافة، وبدأت دولة الخلافة تفقد سلطانها على نفسها، وأحس العالم الإسلامي بالنكبة إحساس التوجس المبهم، وخامر الآذان دوى خفى ينبعث من تقوض أركان دولة الخلافة.. وخالط الفزع الغفوة وبدأ التحدي الأكبر واضحا من ناحية، مبهمًا من الناحية الأخرى.
 
لن أقص تفاصيل تاريخ غريب مخيف، ولكني أشير إلى جزء يسير من حركة أمة فزعت من خطر، فأخذت تمسح النوم عن عيونها بأيد فيها فتور النعاس الغالب. حاولت أن تهب من رقدتها لتنفض عن نفسها غبار القرون، فماذا فعلت ولم أخفقت؟
 
كان لدوى الأركان المتقوضة في مركز دولة الخلافة ذبذبة تغلغلت في قلب العالم العربي الإسلامي حتى بلغت أطرافه البعيدة، وبالتوجس المحض من الخطر المرهوب المحجوب، بدأت أمة كاملة مترامية الأطراف تحاول أن تواجه تحديًا عن عدو مبهم، بدأ يقوض أركان دولتها، وبرد الفعل الفطري، تحركت طائفة قليلة مبعثرة في أرجاء عالم متراحب.. تحركت تدافع عن بقائها بلا تدبير سابق، ولا هدف واضح، وما هو إلا التوجس الغامض من شر خطر داهم مستطير، ولكنه محجوب لا يعرف ما هو على التحقيق.
 
كان أول ما انبعث هؤلاء الأفراد القلائل بفطرتهم للدفاع عنه هو اللغة والدين، وهما أساس ثقافة الأمة، ثم سائر العلوم التي هي أصول الحضارة التي ورثتها، وعاشت بها وفيها قرونا طويلة. كان الطريق الذي هدتهم إليه الفطرة، هو بعث الأصول التي قامت عليها الثقافة والحضارة، بالرجوع إلى منابعها الصافية الأولى، بعد أن غمرها النسيان والغفلة بأتربة سقت عليها قرونا حتى طمرتها، وسلبتها بريقها ونضرتها.
 
لا أستطيع هنا أن أسرد كل ما حدث عند هذا التوجس في كل ناحية من نواحي هذا العالم الضخم المتراحب، ولذلك رأيت أن أختار خمسة رجال عظام، لا أكثر، أحسوا بذبذبة النكبة، فانتفضوا لها وكان لهم في بقعة من قلب العالم العربي طريق واضح في البعث والإحياء، دلت عليه كتبهم وأعمالهم دلالة واضحة. لن أستوعب تاريخهم أو آثار كتبهم وأعمالهم، وإنما هي الإشارة والتنبيه لا غير، إلى هذا الإحساس الغامض بالنكبة، وطريقهم الذي سلكوه لدفعها عن بلادهم وأمتهم، بلا تبين واضح للعدو أو للهدف.

 


 

المصدر:

  1. محمود محمد شاكر، جمهورة المقالات، ص1196
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#محمود-شاكر #اللغة-العربية
اقرأ أيضا
التفريط الديني والتهكم بالمتدينين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التفريط الديني والتهكم بالمتدينين


كيف يتخلص الإنسان كليا من ضغط التأنيب الداخلي الحقيقة أن السخرية بالمتدينين من أهم الوسائل التي توفر للإنسان الراحلة الكلية من هذه الضغوط وضع الصورة المطلوبة في قالب هزلي يبدد نفوذها على النفس البشرية ولذلك نبه القرآن إلى هذه العلاقة بين التفريط والسخرية

بقلم: إبراهيم السكران
578
الطعن في كثرة أحاديث أبي هريرة | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

الطعن في كثرة أحاديث أبي هريرة


من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لسهام النقد والطعن سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه ولا تجد منكرا للسنة إلا وهو يطعن في أبي هريرة رضي الله عنه نظرا لكثرة الأحاديث التي رواها وتفرغه لرواية السنة النبوية وهذا مما يغيظهم ويبدو أن المستشرقين تلقفوا هذه السهام وزادوها حدة وتبعهم من تبعهم من أهل الأهواء أمثال محمود أبو رية وفي هذا المقال يرد الكاتب محمد أبو شهبة على الأباطيل التي أثارها فيما يخص كثرة روايات أبي هريرة

بقلم: محمد أبو شهبة
2556
أساطير العهد القديم | مرابط
فكر مقالات

أساطير العهد القديم


يشتمل هذا المقال على مجموعة من الأخبار عن عدد بنى إسرائيل حين دخلوا مصر وحين خرجوا منها ويقف المؤلف على قدر من التزوير والتلفيق الموجود في التوراة هنا سنرى أساطير العهد القديم كما وردت في الكتاب وكيف تخالف أخبارهم بدائه العقول

بقلم: محمد الغزالي
1282
شبهة: إذا كان إبليس من الملائكة فكيف عصى الله | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: إذا كان إبليس من الملائكة فكيف عصى الله


تقول الشبهة: يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله 66: 6 ومع ذلك فقد عصى إبليس الذي كان من الملائكة كما في الآية 2: 34 فأيهما صحيح وفي المقال الذي بين يدينا يقف بنا الكاتب محمد عمارة على تفاصيل وجوانب هذه الشبهة ويوضح الأخطاء الموجودة فيها ويرد عليها

بقلم: محمد عمارة
2384
الإمبريالية والإنسان الاقتصادي الجسماني | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإمبريالية والإنسان الاقتصادي الجسماني


تقوم الإمبريالية النفسية من خلال الإعلام بترويج صورة الإنسان الاقتصادي الجسماني وهذا يتضح بجلاء في الإعلانات التليفزيونية هدف الإعلان التليفزيوني اقتصادي استهلاكي بيع سلعة ما ولكنه يوظف الجنس للترويج لهذه السلعة أي أن الإمبريالية النفسية لا ترى الإنسان إلا من خلال هذين البعدين الاقتصادي والجنسي

بقلم: عبد الوهاب المسيري
560
نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها | مرابط
اقتباسات وقطوف

نريد أن نعيد المرأة إلى خدرها


نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين والصالحات من المؤمنات: الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة واللائي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصون إلى العمل الجدي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون إلى حجابها الذي أمر الله به ورسوله طوعا أو كرها.

بقلم: أحمد شاكر
293