قواعد السلف في مؤلفاتهم

قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط

الكاتب: محمود شاكر

228 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

أحبُّ أن يعلم من لم يكن يعلم، أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم، منذ ألفوا كتبهم، وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم، ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها، وبَرئِوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحًا أو ضعيفًا أو زائدًا أو ناقصًا أو موضوعا مكذوبا؛ لأنهم كانو يعلمون حال الرُّواة ومنازلهم من الصدق والكذب، ومن الورَع والاستخفاف، ومن الأمانة والهوى.

وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سجلا لما قد قيل في زَمانهم وما قبل زمانهم، وما كان يقوله قومٌ، وما كان يقوله آخرون، مهما تعارض القولان أو اختلفا أو تناقضا. وتركوا للعلماء تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب، على أساسهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذين رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها.

هذا الطبري مثلا (توفي سنة ٣١٠) يقول في فاتحة كتابه في التاريخ: "فما يكن في كتابى هذا من خبر ذكرناهُ عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحًا، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدَّى إلينا".

ومن عرف كتابه وكتب القوم، علم يقينًا صدق ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصحُّ أبدًا، وبالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، ولا يعرض لهما. بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حال هذين الخبرين، فعندئذ يميز لك ما هو صحيح عنده وما هو باطلٌ من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدّى إلى الناس ما أدَّى إليه. وكان الناسُ على عهدهم أهل دين وتقوى، لا يستحل امرؤ منهم -إلا من ضلَّ- أن يحتج في دين الله، ولا في تاريخ الناس والحكم عليهم، بخبر لا يدري أصدق قائله فيما روى أم كذب.

ثم جاء من بعدهم قوم خلطوا عامة الأخبار بلا إسناد إلى رواتها، فاجتمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، والصادق والمكذوب. ولكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شر هذا الخلط المضل، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن والمثالب بلا بينة ولا حجة. فلما جاء زماننا هذا، بَشِع الأمر وقبُح. فإن الناس قد هجروا أدب دينهم، ومروءة أسلافهم، وعلم كتبهم، واقتحموا بالجهالة على الظنون المردية، واستخفهم الهوى حتى أخذوا الباطل وعارضوا به الحق بلا تمحيص ولا رواية ولا فهم.

وشابهوا زمن هذه الحضارة الغالبة عليهم؛ فاجترؤا وتهوروا واستغلظوا معاني وألفاظًا يتقاذفونها في ألسنتهم وكتُبهم، وقد نفى الشيطان من قلوبهم كلّ معاني الوَرَع ومخافة العذاب يوم القيامة، حتى قذفوا بالغيب من مكانٍ بعيدٍ، واجترأوا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأوهامهم وأهوائهم فأفحشوا القالة فيهم وفيمن تبعهمِ، بلا معرفة ولا تخوّفٍ، وربّ العالمين ينذرهم فيما يتلون من كتابه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب: ٥٨].

أفتراهم يحسبون أنَّ الله حرّم عليهم أعراض عبادِه الأحياءِ، وأباحَ لهم أعراض عباده الموتَى، بعد أن أفضوا إلى ربهم بأعمالهم وغيبهم وما قدَّموا من حسنات وسيئات؟! ألا فليعلموا أن الميت أولى بأن تكفَّ عنه ألسنة المفترين مِنَ الحيّ، فإنه لا يدفع عن نفسه، وليتقوا عذاب ربهم، فإنّ الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه، يدفع عنه ربُّ العالمين الذي أحصى كل شيء خلَقه ثم يحكم بينهم بالعدل وهو العليم القدير.


المصدر:
جمهرة مقالات محمود شاكر

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#جمهرة-المقالات #محمود-شاكر
اقرأ أيضا
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
719
أصول أربعة عند الصحابة | مرابط
فكر

أصول أربعة عند الصحابة


وهذه الأربعة هي أخص ما ينبغي أن يحيا في شباب أمة الإسلام فأكثرهم غرته الحياة الدنيا وألهته وشغلته عن طلب العلم بدينه والاستقامة عليه وإرادة الله والدار الآخرة. وكثير منهم لا يطلب الهدى في دينه وعمله من القرآن والسنة أصلا وإذا بلغه حكم عنهما اعترض وجادل فيه وألقى الشبهات والإشكالات عليه فلا يسلم له ولا يحكمه على نفسه.

بقلم: حسين عبد الرازق
403
من خصائص القرآن البيانية | مرابط
اقتباسات وقطوف

من خصائص القرآن البيانية


فإذا أنت لم يلهك جمال العطاء عما تحته من الكنز الدفين ولم تحجبك بهجة الأستار عما وراءها من السر المصون بل فليت القشرة عن لبها وكشفت الصدفة عن درها فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي تجلى لك ما هو أبهى وأبهر ولقيك منه ما هو أروع وأبدع

بقلم: محمد عبد الله دراز
888
التسلح سباق نحو الهاوية | مرابط
فكر مقالات

التسلح سباق نحو الهاوية


إن ما نراه في تاريخنا الحديث من سباق محموم نحو التسلح -كما وكيفا- فمن حيث الكم نرى المليارات التي تنفق سنويا لشراء الأسلحة وتكديسها بما يشير لما نحن مقبلون عليه من مستقبل دام أما من ناحية الكيف فنرى التطور المذهل في تقنية الأسلحة بما يجعلها أشد فتكا وتدميرا بصورة مرعبة وتفوق التصور على غرار انتشار ما عرف بأسلحة الدمار الشامل وعلى الرغم من أنها محرمة دوليا ويعتبر مستخدمها ضد مدنيين مجرم حرب فإنها أصبحت واسعة الانتشار بأنواعها الثلاثة: الأسلحة النووية والأسلحة الجرثومية والأسلحة الكيميائية

بقلم: راغب السرجاني
1477
الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

الأسس الفكرية لليبرالية: العقلانية


تعني العقلانية: استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية وقد تم استقلاله نتيجة تحريره من الاعتماد على السلطة اللاهوتية الطاغية كما يزعم رواد الليبرالية وفي هذا المقال استعراض للأساس العقلاني الذي تستند عليه الليبرالية

بقلم: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي
2604
تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام | مرابط
مقالات

تأويلات الرازي.. وموقف الإمام الشافعي من علم الكلام


من شؤم علم الكلام على أصحابه أنه يوقعهم في الحرج والحيرة حين يعرضون لبيان موقف أئمة أهل السنة من علم الكلام وذلك أنهم إن وافقوهم في القدح في علم الكلام وأنه منهج مبتدع في الدين فقد ناقضوا منهجهم وأبطلوه وإن خالفوا أئمة أهل السنة فقد أظهروا المباينة بينهم وبين من ثبتت إمامتهم عند عموم المسلمين وأنهم قد شذوا عنهم وانحرفوا عن منهجهم ويكون المخرج الذي يسلكونه لتجنب الوقوع في هذين الخيارين أن يتأولوا تحذير الأئمة من علم الكلام على غير وجهه.

بقلم: عبد الله القرني
258