شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج3

شبهات الحداثيين العرب حول تدوين السنة النبوية والرد عليها ج3 | مرابط

الكاتب: شنوف عبدالهادي

1705 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

المطلب الثالث: الرد على شبهة " الإسناد منافٍ للعقل ومناقض للمنهج القرآني "

 

إن الإسناد عند المحدثين يسعى إلى غاية كلية شريفة؛ وهي حماية حديث النبي صلى الله عليه وسلم من التحريف والوضع، لذلك اعتنى علماؤنا بهذا العلم الذي ميز الله به أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأمروا الناس بتعلمه والحفاظ عليه، قال الأوزاعي: " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ".

ولما كان للإسناد أهمية كبيرة في حفظ السنة النبوية وتدوينها، ألقى الحداثيون العرب عديد الشبهات حول الإسناد للإنقاص من قيمته، في سياق الذم للسنة النبوية عموما ولعلوم الحديث خصوصا، فينكرون على المحدثين تعلقهم الكبير بالأسانيد، والمبالغة في الاعتداد به باعتباره أساسا لصحة الحديث، حتى أطلق أحدهم على المحدثين لقب "عبيد الإسناد".

ومن الشبهات المثارة حول الإسناد شبهة أن الإسناد يشكل خطورة على العقل البشري ويمارس عليه تغييبا، حيث أن هذا الإسناد - بزعمهم - يمكن اختلاقه وتوظيفه، فلا يصعب على من اختلق المتن أن يختلق له سندا، فيكفي أن يقول القائل (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيسارع الناس بتصديقه، ويمتثلون لما يقول دون تفكير أو تمحيص، وهذا لارتباط الناس بالأسانيد واعتمادهم عليها وعدم اعتمادهم على عقولهم[1].

وممن أثار هذه الشبهة من الحداثيين العرب الدكتور أحمد صبحي منصور[2]، في مقال منشور على الأنترنت بعنوان: "الإسناد في الحديث" إذ بدأ مقاله بذكر قصة مشهورة ملخصها: ( أن رجلا أراد أن يثبت لصاحبه غفلة الناس وأنهم كالبقر لا يفقهون شيئا، فصعد ربوة وقال: يا قوم هلموا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا حوله وأقبل يحدثهم: روى فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا بلغ لسان أحدكن أرنبة أنفه دخل الجنة) فأخرج السامعون ألسنتهم إلى أنوفهم وأصبح شكلهم يشبه البقر)

وبعد سرد هذه القصة قال الدكتور صبحي معلقا عليها: " ما الذي جعل عقول أولئك الناس تغيب، إنه التصديق والإيمان بأن ما يقوله هذا الرجل قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقا، وما الذي جعلهم يؤمنون ويصدقون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك الكلام؟ إنه الإسناد، أي أسند أو نسب ذلك الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم عبر العنعنة، أي قال حدثني فلان عن فلان... إلخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. وهذا معنى الاسناد وهذه خطورته على العقل.. اهـ"، ثم يقول: "إن الإسلام الصحيح هو دين العقل، بل إن التعقل أو استعمال العقل هو سبب إنزال القرآن، ولكن الإسناد أوجد خصومة مستحكمة بين المسلمين والتعقل"[3].

 

ويرد على هذه الشبهة بأن الإسناد في الحقيقة لا يغيب العقل ولا يلغيه – كما صرح بذلك الكاتب – بل إن الإسناد دليل مادي عقلي محسوس، ويتضح هذا من أمرين، هما:

أولا: أن أفراد هذه الأسانيد ليسوا أشخاصا مجهولين، بل هم أفراد معروفون ولهم تراجم وافية في كتب التراجم وكتب الجرح والتعديل، يذكر فيها كل التفاصيل التي تتعلق بروايتهم وبحياتهم الشخصية، ومن كان منهم مجهولا فإن حديثه يطرح ولا يقبل.

ثانيا: لم يقل أحد من المحدثين أن أي حديث يرُوى بالإسناد فهو صحيح ومقبول لا محالة، بل إنهم يروون بالإسناد الصحيح وغيره، ولكنهم يمحصون الروايات، فإذا كان رجال السند كلهم ثقات وخلا الحديث من العلل فإن المحدثين يصححون ذلك الحديث ويقبلونه، أما إذا كان رجال الإسناد ضعفاء أو فيهم راو ضعيف فإن المحدثين لا يقبلون ذلك الحديث ويضعفون تلك الرواية، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يرتضيه أي عقل سليم.

كما يُرد عن الأستاذ أحمد صبحي منصور بادعائه أن الإسناد منافٍ للعقل استنادا على هذه القصة؛ فنقول له: نحن لا نثق بهذه القصة لأنها مسندة، كما أن هذا الحديث الوارد في القصة لا يخف أمره على أحد من المحدثين، فلا نجده مثبتا في أي كتاب من كتب السنة، ولو كان يمكن اختلاق الإسناد وتمريره على الناس، لرأينا هذا الحديث مثبتا في كتب السنة المعتمدة، أو نرى رواته موثقين في كتب الرجال[4].

وأثار أحمد صبحي شبهة أخرى حول الإسناد، وأدعى أنه مناقض للمنهج القرآني، إذ يقول في مقاله سابق الذكر: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم يعني تحويل ذلك القول أو الحديث إلى حقيقة دينية يكون المسلم مطالبا بالإيمان بها والعمل وفقا لأحكامها، وهذا لا يتأتى إلّا للقرآن وحده، فالقرآن محفوظ بقدرة الله تعالى، وليس هنالك من وحي أما تلك الأحاديث التراثية فلا أول لها ولا آخر، وهي تتناقض مع بعضها وتناقض القرآن...) ثم يواصل الكتاب كلامه بقوله: ( إن إسناد قول ما للنبي صلى الله عليه وسلم وجعله حقيقة دينية هو اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه فرط في تبليغ الرسالة، وأنه ترك جزءا من الرسالة يتناقله الناس من بعده ويختلفون فيه، إلا أننا نؤمن أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة كاملة وهي القرآن الكريم) والنتيجة التي خلص إليها الكاتب للخروج من هذا المأزق – على حد تعبيره – تكمن في إلغاء ذلك الإسناد، وقطع الصلة بين تلك الأحاديث والنبي صلى الله عليه وسلم رحمة بالإسلام، وتماشيا مع المنطق، والمنهج العقلي والعلمي[5].

 

ويمكن مناقشة هذه الشبهة بقولنا إن عمل المحدثين باعتبار الإسناد دليلا على صحة الحديث يتفق في طبيعته مع المنهج القرآني، ولا يخالفه بأي حال، ويمكن الرد على هذه الشبهة من خلال النقاط التالية:

أولا: لم يقل أحد من المحدثين أن إسناد أي قول للنبي صلى الله عليه وسلم يعني الحكم بصحته، فهم يروون بالإسناد كل نوع من أنواع الحديث؛ الصحيح والحسن والضعيف بل حتى المكذوب، أما الحكم على الحديث المسند الصحيح بأنه حقيقة دينية فليس في ذلك مؤاخذة، فإن الحديث إذا صح سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح حقيقة دينية، لأن الأخذ بالحديث الصحيح هو في حقيقته استجابة للأمر القرآني في قوله تعالى: ﴿ وما ءاتكم الرسول فخذوه ﴾ [سورة الحشر: 7 ].

ثانيا: أن القرآن علّق قبول الأخبار بمعرفة أحوال ناقليها، فأمرنا سبحانه أن نتبين في خبر الفاسق ونتثبت منه، حتى يثبت صدقه، فمفهوم الآية يدل على قبول خبر العدل، ويدل دلالة ظاهرة على اعتبار الاسناد في قبول الأخبار، وهذا الأصل بنى عليه المحدثون نقلهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الخاتمة:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ثم أما بعد: ففي ختام هذا البحث الذي حاولنا فيه الدفاع عن السنة النبوية التي تتعرض لهجمات كبيرة، من بعض أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بلساننا؛ وهم الحداثيون العرب، الذين أثاروا عدة شبه حول تدوين السنة النبوية وما يتعلق به، نقف على جملة من الحقائق والنتائج، أهمها:

1- الحداثة فكر غربي ومشروع أيديولوجي، له أهدافه وأدواته وغايته التي يناضل من أجلها، والحداثيون العرب متأثرون بهذا الفكر، وينطلقون منه لنقد الموروث الإسلامي.

2- وقف الحداثيون العرب موقف المعادي الشديد للسنة النبوية، قصد النيل منها، والحد من حجيتها، وإلغاءها من مصادر التشريع الإسلامي، وجعل العقل مكانها.

3- أثار الحداثيون العرب عدة شبهات حول تدوين السنة النبوية، وفي الحقيقة هي تساؤلات عقلية، يستطيع أي عقل ان يشكك في أي شيء وفي أي وقت، فتساؤل كيف وأين ومن ولعل.. لا يعجز أحد عن نثره.

4- إن الشبهات المثارة حول تأخر تدوين السنة كلها شبهات باطلة، أثارها أول من أثارها المستشرقون، وأعاد نشرها بعض المثقفين العرب المتأثرين بالأفكار الغربية، إلا أن علماؤنا كانوا بالمرصاد لهذه الشبه وفندوها من عدة وجوه.

5- إن شبهة عدم حجية السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدونها هي شبه باطلة، لأنهم حصروا الحجية في الكتابة فقط، وإهمال وسائل التوثيق والحجية الأخرى، وجهل بصور العناية بالسُّنة النبوية في القرنين الأول والثاني، وجهل بوجود الكتابة المبكِّرة للسنة النبوية.

6- إن الادعاء الذي أثاره بعض الحداثيين حول الإسناد بقولهم تارة أنه منافٍ للمنهج القرآني، وقولهم تارة أخرى أنه مناقض للعقل لسهولة اختلاقه، هي تهم داحضة، وكلام لمن لا علم له، فالإسناد هو حقيقة المنهج القرآني الذي دعانا للتثبت في قبول الأخبار.

 

وفي الختام أضع بين أيدي من يقرأ بحثي هذا شيئاً من التوصيات، علها تجد آذاناً صاغية وقلوباً مفتوحة وأنفساً غيورة على هذا الدين العظيم، فأقول:

1- ضرورة قيام المعاهد والكليات الشرعية والمؤسسات الإسلامية بدورها في الحَدِّ من نشر الشبهات الواهية حول السنة النبوية.

2- تكوين الأئمة والدعاة، وتبيين الطرق العلمية للرد على شبهات الحداثيين العرب حول السنة النبوية وحجيتها.

3- تقريب الخطاب الاسلامي المعتدل للمثقفين العرب، خاصة المتأثرين بالفلسفات الغربية. فعلماء الإسلام مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالوقوف على القرآن الكريم والسنة النبوية واستجلاءهما وإخراج العلوم منها بما يتلاءم مع روح العصر وأدواته.

4- ضرورة مراجعة المنهج النقدي عند المحدثين، لا لأنه عاجز بل لإدامة إحياءه والإفادة منه.

 

وفي الختام أسأل الله العلي القدير ان يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن يجعله لبنة في صرح الدفاع عن السنة النبوية المطهرة، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، ص260. وأحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث. بتصرف.
  2. أحمد صبحي منصور، مفكر إسلامي مصري، ولد في 1 مارس 1949 بالشرقية، كان يعمل مدرسا في جامعة الأزهر، لكنه فصل منها بسبب إنكار للسنة النبوية، وتأسيسه للمنهج القرآني الذي يكتفي بالقرآن مصدرا وحيدا للتشريع الاسلامي، سافر إلى أمريكا ليعمل مدرسا في جامعة هارفارد، له عدة آراء جريئة جدا على السنة النبوية ومناقضة لأصول الإسلام.
  3. أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.
  4. خالد أبا الخيل، الاتجاه العقلي وعلوم الحديث جدلية المنهج والتأسيس، ص 114.
  5. أحمد صبحي منصور، الإسناد في الحديث.

 

المصدر:

موقع الألوكة

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية #شبهات-حول-السنة
اقرأ أيضا
من محاسن الفتوى | مرابط
اقتباسات وقطوف

من محاسن الفتوى


عندما جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ به فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابه صلى الله عليه وسلم على سؤاله بقوله الطهور ماؤه ولكنه وزاد بأن قال الحل ميتته فما دلالة ذلك

بقلم: محمد بن إسماعيل الصنعاني
1728
فقه الفتيا | مرابط
اقتباسات وقطوف

فقه الفتيا


قال ابن عباس رضي الله عنهما: لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.. بين يدينا قصة هذا الحديث وهو من لطائف الأخبار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنه هنا نتعلم منه التروي في الفتيا والتأني قبل التكلم.

بقلم: محمد بن إسحاق الفاكهي
208
مصارع المغرقين | مرابط
فكر مقالات

مصارع المغرقين


سأل رجل الإمام الشافعي عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: يا أبا عبد الله تقول به فرأيت الشافعي أرعد وانتقص فقال: يا هذا أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فلم أقل به نعم على السمع والبصر على السمع والبصر

بقلم: فهد بن صالح العجلان
733
كيف كسرت باريس القذرة قلبي وحطمت توقعاتي! | مرابط
مقالات

كيف كسرت باريس القذرة قلبي وحطمت توقعاتي!


ربما كنت أشاهد الكثير من الأفلام الحالمة الغير واقعية أو ربما كنت أعيش في عالم طوباوي مواز للعالم.. ولكن باريس -بالتأكيد- ليست كما كنت أتصورها إنها قذرة حرفيا ومجازا كل ما أعرفه هو أن ما رأيته نجح فقط في كسر قلبي!

بقلم: براتيك دام
263
قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام | مرابط
فكر مقالات

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام


هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي ت684 ه أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعلمانيهل كان القرافي يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أن دليل على أن الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير ملزمة وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح

بقلم: فهد بن صالح العجلان
737
الانفعالات وتكوين النفس البشرية | مرابط
تفريغات ثقافة

الانفعالات وتكوين النفس البشرية


هل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلا أو لا يكون منفعلا؟ الصحيح أن يكون منفعلا لأن الشخص الذي لا ينفعل أبدا ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنونا لا يعي ما حوله أو أنه مدمن مخدرات مثلا فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية

بقلم: محمد صالح المنجد
372