"يمكن أن يدور الحديث التالي في عدة أماكن:
- ماذا تعملين يا سيدتي؟
- أنا مجرد ربة بيت.
- ماذا فعلت اليوم؟
- لم أفعل شيئًا على الإطلاق.
هذه الكلمات هي ترجمة لحوار سمعته الآف المرات في الستينيات في الولايات المتحدة قبل ظهور حركة تحرير المرأة، ونسمعه الآن في مصر.
ويمكننا أن نفك شفرة هذا الحوار على النحو التالي:
- ماذا تعملين يا سيدتي؟
(العمل هنا يا سيدتي هو العمل الذي تقومين به خارج منزلك في الحياة العامة، وهو العمل الذي يمكن حسابه وقياسه، ويمكن أن تتقاضي عنه أجرًا نقديًَّا وثمنًا محددًا، وأي عمل آخر تمارسينه في حياتك الخاصة مثل تربية الأطفال والاعتناء بأسرتك قد يكون له قيمة إنسانية كبرى، ولكنه ليس عملًا على الإطلاق، فهو يتم داخل المنزل ولا تتقاضين عنه أجرًا، فهو لا يُقاس، وليس بكم، وينتمي لرقعة الحياة الخاصة لا العامة.
ولا تقولي إنَّ عملك في منزلك كأم يحقق ذاتك الإنسانية، فهذه إهابة بقيم إنسانية وبفكرة الطبيعة البشرية، وهذه أمور غير علمية، أي غير مادية وغير كمية.
ولا تقولي أيضًا إن مجتمعك قد يستفيد من وجودك في منزلك أكثر من وجودك في مكتب حكومي، فمسار التاريخ العام يدل على أن كل النساء لابد ان يعملن وأنه لابد أن يلهث الجميع في حلبة السوق والمصنع والحياة العامة).
- إذا قبلت بتعريفك، وعليّ بطبيعة الحال قبوله، فهذا هو الخطاب العلمي المادي السائد، فأنا إذن مجرد ربة بيت (فما أقوم به من عمل ليس بعمل).
- ماذا فعلت اليوم؟
- (على الرغم من أنني كنست المنزل وطبخت الطعام وودعت ابني الأكبر وهو في طريقه إلى المدرسة وأطعمت ابنتي الصغيرة وأرضعت طفلي واستقبلت زوجي عند عودته وأدخلت الطمأنينة على قلوب الجميع.. إلخ، على الرغم من كل هذا فإنها أشياء تتم في منزلي، أي في رقعة الحياة الخاصة، ولا أتقاضى عنها أجرًا، لذا فأنا لم أفعل شيئًا على الإطلاق.
في حوار برئ مثل هذا نجد أن كلمة "يعمل" قد عُبِّئَت تمامًا بمضمون أيدولوجي متحيز، وفقدت الكلمة براءتها وأصبحت مصطلحًا محددًا لا يمكن فهمه تمامًا إلا في إطار النموذج المعرفي المادي الغربي الحديث.
فالعمل الذي يتقاضى الإنسان عنه أجرًا خارج منزله في رقعة الحياة العامة هو عمل يقوم به الإنسان الاقتصادي، والإنسان الاقتصادي هو إنسان منتج ومستهلك، جزء من عالم السوق/المصنع، إنسان يمكن أن تقاس حركاته وسكناته.
أما رقعة الحياة الخاصة، فيتحرك فيها الإنسان الإنسان، وهو إنسان يقوم بنشاطات إنسانية كثيرة، بعضها لا يمكن قياسه ومن ثم فهو ليس موضوعًا للعلم.
وبالتدريج، نعرف أن هذه الزوجة المسكينة التي لم تفعل شيئًا من منظور مادي بسيط فعلت الكثير من منظور إنساني أكثر تركيبًا، ولكنها استبطنت الخطاب المعرفي المادي، ولذا فعليها أن تخرج من المنزل فورًا حتى "تعمل" أي حتى تتقاضى أجرًا فتستعيد احترامها لنفسها
قد يفسد الأطفال وقد تنهار الأسرة وتضيع خصوصية الحضارة؛ فالأمّ هي التي تعلم الأطفال الحضارة والقيم، ولكن هذه أمور ثانوية. فكما يقول الجميع: "كل الأمور اقتصادية" وكما قال الرجل في السوق: "في أي بنك سأصرف (آسف) هذه؟" وكما قال بلوتارخ “حينما تطفأ الشموع فكل النساء جميلات”، فكل البشر مادة استعمالية.
المصدر:
عبد الوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، ص107