لماذا نحج

لماذا نحج | مرابط

الكاتب: محب الدين الخطيب

1195 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم، ومن ثم فهو تجديد للحياة، وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورًا، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
 
لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر، وتوطَّدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله، إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان، والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام، حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقمًا قياسيًّا لا نظير له في التاريخ.
 

حِكَم العبادات

ولكن بقي أمر آخر يجب أن يعرفه المسلمون جميعًا، ويجب أن يؤمن به الحجاج منه ويعملوا به، وهو أن العبادات كما أن لها أركانًا ومناسك لا تتمُّ إلا بأدائها، فإن لها كذلك حكمة عالية ومقاصد سامية، هي روحها وهي سببها الأول، وهي الغاية القصوى منها.

 

الصلاة

فالصلاة وصفها الله عز وجل في سورة العنكبوت بأنها {تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. وأن تكبير الله في إحرامها، وفي أركانها يُصغِّر أمر الدنيا كلها في نفس المصلي، حتى يرى أنها لا تساوي بخزائنها وكنوزها ارتكاب جريمة تتغير بها هذه الصفة الإلهية للصلاة، فالمصلي الذي يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يستحي من الله، وهو يعلن عن عظمته بجملة: الله أكبر، أن يكون هو الذي ينقض صفة صلاته بما يستبيحه من بعض مخازي الفحشاء والمنكر، وأكثرها شيوعًا الكذب والغش والغيبة والنميمة.
 
بل يستحي من ربه، وهو بين يديه يخاطبه، طالبًا منه أن يهديه الصراط المستقيم، ثم لا يكاد ينفتل من صلاته حتى يخرج بشيء من أقواله أو أفعاله عن الصراط المستقيم!
والحج هذه الشعيرة من شعائر الإسلام يقبل المسلمون على إقامتها والمسارعة إليها بشغف ونشاط وارتياح، ويدَّخرون لنفقاتها كرائم أموالهم، والحلال الطيب من نقودهم، فلماذا نقصِّر في إرشادهم إلى الحكمة الإلهية في الحج والمقاصد الإسلامية منه؟

 

الحكمة من الحج

لماذا لا نقول لهم إذا بلغوا أعلام الحرم وحدوده، وخلعوا عنهم المخيط من ملابس الحضارة، ليلتفوا بمئزر الفطرة من لباس الإحرام: إننا نخلع مع ثياب الحضارة ما أغرانا به الشيطان من آثامها وزلاتها، إننا اليوم أمام فرصة أنعم الله بها علينا لنتوب إليه توبة نصوحًا من كل ما اقترفنا قبل اليوم من إثم، وعلينا الآن أن نبرأ إليه من زلات الماضي، ونتطهر من أوضاره؛ لندخل في حياة جديدة، نعاهد الله على أن تكون حياة نظيفة، يرضاها لنا ويثيبنا عليها بسعادة الدنيا والآخرة؟

لماذا لا نقول لهم: إننا إذا هتفنا نناجي الله بكلمة (لبيك) لا معنى لذلك إلا أننا نعقد عقدًا بيننا وبين الله على الاستجابة لكل ما هدانا إليه من مبادئ الإسلام العالية وهداياته السامية، واجتناب كل ما يدنِّس حجنا، ويسخط ربنا ما دمنا أحياء، إلى أن نلقاه مع أوليائه وصفوه عباده الصالحين؟
 
لماذا لا نقول لهم: إننا بتوجيه كلمة (لبيك) لله وحده عز وجل نعترف لربنا ولأنفسنا بأننا لا نطلب الخير والنفع إلا منه، ولا نشرك به أحدًا غيره من نبي أو ملك أو ولي، فضلًا عن غيرهم، وأن كل ما سوى الله مخلوق له وكل مخلوقاته -على مراتبهم- محتاجون إليه، ملتمسون رحمته، ولا يكون منهم شيء إلا بإذنه؟
 
إن مشركي الجاهلية كانوا في حجهم يلبون كما نلبيه نحن في الإسلام، غير أنهم كانوا يستثنون فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. فجاء الإسلام ليبطل هذه المثنوية وليوجه قلوب الناس إلى الله وحده.
 
لماذا لا نقول لهم إذا جاءوا لرمي الجمرات في منى: إن هذه حرب يعلنها الإسلام على الشيطان وحزبه وتسويلاته، وإننا كلما خطر ببالنا بعد اليوم خاطر نعلم أنه يسخط الله يجب علينا أن نعلم أن هذا الخاطر من تسويل الشيطان، وأنه عدو لنا، وأننا آذناه بالحرب ونحن نرمي هذه الجمرات في الحج، ومن تمام الحج بعد الحج، وما دام الحاج على قيد الحياة، مواصلة مخالفة الشيطان، واعتباره العدوَّ الذي لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن وساوسه وينقاد لتسويلاته.
 
أهم شي في العبادات - ومنها أدعية الحج – أن نعقل معاني ألفاظها ، ومن تعلَّم أن هذه المعاني تنعقد بها العهود بين المخلوق والخالق، وأن المخلوق ينبغي له عقد العزيمة على توخِّي ما يدعو الله به، وإلا فإنه لا يكون جادًّا بدعائه، ولا يكون دعاؤه مستجابًا، ولو أن كلَّ مسلم إذا قال لربه في صلاته : {اهدنا الصراط المستقيم}. تصور معاني هذه الكلمات، وتأمل في مدلولاتها، وعقد عزمه على توخي الصراط المستقيم في تصرفاته الشخصية، وفي معاملاته مع الناس، لكان المسلمون بهذه الكلمة وحدها أمة صدق واستقامة وخير، وكان ذلك منهم أبرع إعلان عن الإسلام في أمم الأرض، وأنه النظام الذي تبحث عنه الإنسانية ولا تزال تائهة عنه.
أيها الواعظون في الحج، أوصلوا هذا الخير إلى نفوس إخوانكم الحجاج وقلوبهم، علِّموه لهم كما تعلمونهم مناسكهم.
 
وإذا أفلح الحجاج - عامًا فعامًا – في الانخلاع من الماضي، والتطهر من أوضاره، ونَوَوْا صادقين أن يجدِّدوا عهدهم مع الله، وعلى تجديد حياتهم بما يرضيه، فإنهم سيعودون إن شاء الله إلى أوطانهم حاملين معهم نصيبًا مباركًا من رسالة الإسلام، كما بعث الله بها حامل أكمل رسالاته ، وأرجو أن نعمل بذلك من عامنا هذا؛ ليعود إلينا النور والهدى من بلاد النور والهدى، والله ولي العاملين.

 


 

المصدر:

مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (3/44)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحج
اقرأ أيضا
دولة الكلام المبطلة الظالمة | مرابط
فكر مقالات

دولة الكلام المبطلة الظالمة


إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق ومزية الكلام التي ميز بها الإنسان وفضله من سائر أنواع جنسه الحيواني هو أنها التعبير عما في النفس من العلم ليتعاون الناس بإفضاء كل بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم وتحسين أعمالهم ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس وصرف الأذهان عن الحقائق

بقلم: محمد رشيد رضا
934
أثر الصوم في النفوس | مرابط
تعزيز اليقين فكر

أثر الصوم في النفوس


الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات وهو يعتبر المسلم تلميذا ملازما في مدرسة الحياة دائما فيها دائبا عليها يتلقى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقص وكمال وما تقتضيه طبيعتها من خير وشر ومن ثم فهو يأخذه أخذ المربي في مزيج من الرفق والعنف بامتحانات دورية متكررة لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
1465
من أدلة وجود الله: القيم المطلقة | مرابط
تعزيز اليقين

من أدلة وجود الله: القيم المطلقة


إن هذا الإطلاق في القيم ينفي عنها الخضوع للرغبة الذاتية فهي ليست من تلك المسائل التي يدلي فيها كل إنسان برأيه أو تتواضع فئة من الناس على تقريرها أو تنتجها الثقافات المختلفة وفق ما يلائمها بل هي معان موضوعية لا تتقيد بالرأي الذاتي بمعنى أنها لا تنشأ من آراء الناس بل تكون هي الحاكمة على آرائهم.

بقلم: مجموعة كتاب
415
الوقت وقراءة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوقت وقراءة القرآن


تجد بعضنا حين ينشر المصحف بين يديه ليتلو شيئا من القرآن يدب إليه بعد هنيهة استطالة الزمن فلا يمضي ربع ساعة إلا وتراه تارة يعد الصفحات المتبقية على نهاية الجزء؟ وتارة ينظر إلى الساعة كم مضى وكم بقي؟ وتارة يفكر في أشغال يرى أنه أجلها وأنها عذر لقطع التلاوة أو أنه بحاجة لقسط من الراحة والنوم.

بقلم: إبراهيم السكران
353
معركة النسيان والتذكر | مرابط
مقالات

معركة النسيان والتذكر


وداء النسيان هذا هو الذي قد يجعل الإنسان إذا نزل به البلاء انهمك في أسباب الدنيا وغفل عن الفرار إلى الله سبحانه وشكاية البث والحزن إليه! ومن ذلك أننا نؤمن بالجنة والنار لكن من آمن بذلك حق الإيمان كأنه رأي عين لم يعص الله سبحانه لكننا نعصي وذلك لأننا ننسى كما اشتكى حنظلة للنبي صلى الله عليه وسلم: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا

بقلم: كريم حلمي
517
الاحتجاج بخصوصية نزول الآيات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاحتجاج بخصوصية نزول الآيات


إن أغلب محاولات الإصلاح بالقرآن الكريم تواجه بهذه الدعوى أن الآية نزلت في الكفار أو نزلت في الشرك الأكبر فلا ينبغي الاستدلال بها في كذا وكذا والحقيقة أن هذه دعوى خاطئة وهذا مقتطف لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يعلق على نفس القضية

بقلم: محمد بن عبد الوهاب
2413