لماذا نحج

لماذا نحج | مرابط

الكاتب: محب الدين الخطيب

1091 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحج تجريد للنفس من ماضيها المشوب بالإثم، ومن ثم فهو تجديد للحياة، وبقدر ما تصدق نية المسلم في ابتغاء هذا التجديد من الحج يكون حجه مبرورًا، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
 
لقد يسر الله سبل الحج في هذا العصر، وتوطَّدت فيه دعائم الأمن بما لا عهد لحجاج المسلمين بمثله، إلا في صدر الإسلام وزمان التابعين لهم بإحسان، والمسلمون الآن في إقبال عظيم على إقامة هذه الشعيرة من شعائر الإسلام، حتى بلغ عدد الذين يقفون في عرفة ويطوفون بالكعبة بيت الله الحرام في هذه السنين رقمًا قياسيًّا لا نظير له في التاريخ.
 

حِكَم العبادات

ولكن بقي أمر آخر يجب أن يعرفه المسلمون جميعًا، ويجب أن يؤمن به الحجاج منه ويعملوا به، وهو أن العبادات كما أن لها أركانًا ومناسك لا تتمُّ إلا بأدائها، فإن لها كذلك حكمة عالية ومقاصد سامية، هي روحها وهي سببها الأول، وهي الغاية القصوى منها.

 

الصلاة

فالصلاة وصفها الله عز وجل في سورة العنكبوت بأنها {تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]. وأن تكبير الله في إحرامها، وفي أركانها يُصغِّر أمر الدنيا كلها في نفس المصلي، حتى يرى أنها لا تساوي بخزائنها وكنوزها ارتكاب جريمة تتغير بها هذه الصفة الإلهية للصلاة، فالمصلي الذي يعلم أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر يستحي من الله، وهو يعلن عن عظمته بجملة: الله أكبر، أن يكون هو الذي ينقض صفة صلاته بما يستبيحه من بعض مخازي الفحشاء والمنكر، وأكثرها شيوعًا الكذب والغش والغيبة والنميمة.
 
بل يستحي من ربه، وهو بين يديه يخاطبه، طالبًا منه أن يهديه الصراط المستقيم، ثم لا يكاد ينفتل من صلاته حتى يخرج بشيء من أقواله أو أفعاله عن الصراط المستقيم!
والحج هذه الشعيرة من شعائر الإسلام يقبل المسلمون على إقامتها والمسارعة إليها بشغف ونشاط وارتياح، ويدَّخرون لنفقاتها كرائم أموالهم، والحلال الطيب من نقودهم، فلماذا نقصِّر في إرشادهم إلى الحكمة الإلهية في الحج والمقاصد الإسلامية منه؟

 

الحكمة من الحج

لماذا لا نقول لهم إذا بلغوا أعلام الحرم وحدوده، وخلعوا عنهم المخيط من ملابس الحضارة، ليلتفوا بمئزر الفطرة من لباس الإحرام: إننا نخلع مع ثياب الحضارة ما أغرانا به الشيطان من آثامها وزلاتها، إننا اليوم أمام فرصة أنعم الله بها علينا لنتوب إليه توبة نصوحًا من كل ما اقترفنا قبل اليوم من إثم، وعلينا الآن أن نبرأ إليه من زلات الماضي، ونتطهر من أوضاره؛ لندخل في حياة جديدة، نعاهد الله على أن تكون حياة نظيفة، يرضاها لنا ويثيبنا عليها بسعادة الدنيا والآخرة؟

لماذا لا نقول لهم: إننا إذا هتفنا نناجي الله بكلمة (لبيك) لا معنى لذلك إلا أننا نعقد عقدًا بيننا وبين الله على الاستجابة لكل ما هدانا إليه من مبادئ الإسلام العالية وهداياته السامية، واجتناب كل ما يدنِّس حجنا، ويسخط ربنا ما دمنا أحياء، إلى أن نلقاه مع أوليائه وصفوه عباده الصالحين؟
 
لماذا لا نقول لهم: إننا بتوجيه كلمة (لبيك) لله وحده عز وجل نعترف لربنا ولأنفسنا بأننا لا نطلب الخير والنفع إلا منه، ولا نشرك به أحدًا غيره من نبي أو ملك أو ولي، فضلًا عن غيرهم، وأن كل ما سوى الله مخلوق له وكل مخلوقاته -على مراتبهم- محتاجون إليه، ملتمسون رحمته، ولا يكون منهم شيء إلا بإذنه؟
 
إن مشركي الجاهلية كانوا في حجهم يلبون كما نلبيه نحن في الإسلام، غير أنهم كانوا يستثنون فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. فجاء الإسلام ليبطل هذه المثنوية وليوجه قلوب الناس إلى الله وحده.
 
لماذا لا نقول لهم إذا جاءوا لرمي الجمرات في منى: إن هذه حرب يعلنها الإسلام على الشيطان وحزبه وتسويلاته، وإننا كلما خطر ببالنا بعد اليوم خاطر نعلم أنه يسخط الله يجب علينا أن نعلم أن هذا الخاطر من تسويل الشيطان، وأنه عدو لنا، وأننا آذناه بالحرب ونحن نرمي هذه الجمرات في الحج، ومن تمام الحج بعد الحج، وما دام الحاج على قيد الحياة، مواصلة مخالفة الشيطان، واعتباره العدوَّ الذي لا ينبغي للعاقل أن يغفل عن وساوسه وينقاد لتسويلاته.
 
أهم شي في العبادات - ومنها أدعية الحج – أن نعقل معاني ألفاظها ، ومن تعلَّم أن هذه المعاني تنعقد بها العهود بين المخلوق والخالق، وأن المخلوق ينبغي له عقد العزيمة على توخِّي ما يدعو الله به، وإلا فإنه لا يكون جادًّا بدعائه، ولا يكون دعاؤه مستجابًا، ولو أن كلَّ مسلم إذا قال لربه في صلاته : {اهدنا الصراط المستقيم}. تصور معاني هذه الكلمات، وتأمل في مدلولاتها، وعقد عزمه على توخي الصراط المستقيم في تصرفاته الشخصية، وفي معاملاته مع الناس، لكان المسلمون بهذه الكلمة وحدها أمة صدق واستقامة وخير، وكان ذلك منهم أبرع إعلان عن الإسلام في أمم الأرض، وأنه النظام الذي تبحث عنه الإنسانية ولا تزال تائهة عنه.
أيها الواعظون في الحج، أوصلوا هذا الخير إلى نفوس إخوانكم الحجاج وقلوبهم، علِّموه لهم كما تعلمونهم مناسكهم.
 
وإذا أفلح الحجاج - عامًا فعامًا – في الانخلاع من الماضي، والتطهر من أوضاره، ونَوَوْا صادقين أن يجدِّدوا عهدهم مع الله، وعلى تجديد حياتهم بما يرضيه، فإنهم سيعودون إن شاء الله إلى أوطانهم حاملين معهم نصيبًا مباركًا من رسالة الإسلام، كما بعث الله بها حامل أكمل رسالاته ، وأرجو أن نعمل بذلك من عامنا هذا؛ ليعود إلينا النور والهدى من بلاد النور والهدى، والله ولي العاملين.

 


 

المصدر:

مقالات كبار العلماء في الصحف السعودية القديمة، جمع وترتيب: أحمد الجماز و عبدالعزيز الطويل، دار أطلس الخضراء – الرياض، ط1: 1431هـ. (3/44)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحج
اقرأ أيضا
شهادة امرأة غربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

شهادة امرأة غربية


كان النساء يعاملن على أنهن كائنات أدنى حتى جاء الإسلام.. في الحقيقة نحن النساء لا زلنا نعاني في الغرب حيث يعتقد الرجال أنهم أرقى من النساء. وهذا أمر من الممكن أن نراه في نظم الترقية والرواتب من عاملات التنظيف إلى النساء في مجالس الإدارة. النساء الغربيات لا زلن يعاملن كسلعة حيث الاستعباد الجنسي في علو وإن كان يتغطى تحت كنايات تسويقية حيث تروج أجساد النساء عبر عالم الإعلانات.

بقلم: إيفوني ردلي
237
هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة | مرابط
أباطيل وشبهات تفريغات

هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة


يقولون إن سيدنا يوسف عليه السلام سعى للوصول إلى الرئاسة وطلبها واجتهد لكي يصل إليها فلا مشكلة إذن أن نسعى نحن أيضا إلى المناصب والرئاسة والحقيقة أن نظرتهم لقصة سيدنا يوسف سطحية للغاية ولكنه الهوى إذا استحكم وسيطر على الإنسان لن يعجزه شيء عن خلق المبررات وإيجاد الأسباب وفي هذا المقال المختصر مناقشة لقصة الرئاسة وسيدنا يوسف

بقلم: محمد صالح المنجد
2222
العقل وإدراك الحقائق | مرابط
فكر تفريغات

العقل وإدراك الحقائق


إن الروح التي تسري في نفس الإنسان هي أقرب الأشياء إليه لأنها نفسه ومع ذلك فإن الإنسان يشتد جهله بها كل ما زاد بحثه عنها فالروح ليست من جنس الأشياء المشهودة التي يمكن للعقل الإنساني البحث فيها فليس لها وزن ولا لون ولا حجم ولا تدخل تحت المقاييس الإنسانية فأنى للعقل أن يعرف كنهها وحقيقتها

بقلم: عمر الأشقر
356
المعرفة بحاسة البصر | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف

المعرفة بحاسة البصر


المعرفة بحاسة البصر معرفة يتساوى فيها الإدراك كما يتساوى إدراك الآلة وإدراك الحيوان فهل هذه هي المعرفة التي تليق بالإنسان المسئول عن ضميره الباحث عن هدايته المترقي بسعيه واجتهاده؟ وهل يطلبون أن يتساوى الناس في مدركات الضمير وحدها أو يطلبون أن يتساووا في مدركات الحواس وملكات الأجسام والأفهام ومقادير الأعمار والأيام

بقلم: عباس محمود العقاد
314
حاضر العالم الإسلامي | مرابط
فكر مقالات مناقشات

حاضر العالم الإسلامي


رغم التطورات التكنولوجية الجديدة في عالمنا المعاصر إلا أن الأمة الإسلامية تزداد بعدا وتفرقا وتشتتا ويزداد المسلمون شقاقا وخلافا فيما بينهم وقلما تجد مسلما يعرف شيئا كبيرا من أخبار إخوانه وجيرانه المسلمين وهذا بجانب ما ضربته وفرضته الحدود من شقاق فوق الشقاق القائم فصار المسلمون متشرذمون متباعدون لا يجمعهم الدين كما كان سابقا وفي المقال يتحدث العلامة محمود شاكر عن هذا الأمر من وحي كتاب حاضر العالم الإسلامي

بقلم: محمود شاكر
2374
وبدأ الانحراف يسبل إزاره | مرابط
مقالات

وبدأ الانحراف يسبل إزاره


وإذا رأى متدبر القرآن -أيضا- ما في القرآن من عناية شديدة بالتحفظ في العلاقة بين الجنسين كوضع السواتر بين الجنسين كما في قوله وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب الأحزاب من الآية:53 وحثه المؤمنات على الجلوس في البيت وقرن في بيوتكن الأحزاب من الآية:33 ونهيه عن تلطف المرأة في العبارة فلا تخضعن بالقول الأحزاب من الآية:32 ونهيه عن أي حركة ينبني عليها إحساس الرجل بشيء من زينة المرأة ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن النور من الآية:31 ونحو ذلك.

بقلم: إبراهيم السكران
525