لو كان الدين بالرأي

لو كان الدين بالرأي | مرابط

الكاتب: عبد المحسن العباد

601 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص -يعني: ابن غياث - عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه)].

 

أورد أبو داود رحمه الله حديث علي رضي الله عنه الذي فيه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفيه)، وهذا هو الذي يبين الشاهد للترجمة، وأن المسح يكون على ظهر الخف، وليس على أسفله، ولكن مع هذا يقول علي رضي الله عنه وأرضاه هذه المقالة، وهذا الأثر العظيم الذي يدل على الاتباع، وعلى أن الإنسان يتبع السنة ولا يحكم عقله، ولا يجعل لعقله مجالًا في الاعتراض على الأحكام الشرعية، بل الواجب هو اتهام العقول، والموافقة للنقول، لا أن يحكم العقل ويتهم النقل.

 

وطريقة أهل السنة والجماعة أنهم يحكمون النقل، والعقل السليم لا يعارض النقل الصحيح، فأهل السنة هذا منهجهم وهذه طريقتهم، أنهم يعولون على النصوص، وأما العقول عندهم فتابعة للنصوص، كما قال بعض أهل العلم: إن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، مهمته أنه يأخذ بالفتوى، فإذا أفتاه العالم المجتهد يأخذ بفتواه.

 

فالإنسان عليه أن يتبع الدليل ولا يعول على العقل ويتهم النقل؛ لأن العقول متفاوتة وليست على حد سواء، وعقل هذا يخالف ما في عقل هذا، ورأي هذا يخالف رأي هذا، بل إن الإنسان يكون بين وقت وآخر يختلف رأيه، فقد يرى رأيًا يعجبه، ثم يرى بعد ذلك أن هذا الرأي الذي أعجبه يتعجب من نفسه كيف رآه فيما مضى! وذلك أنه تبين له أن غيره أولى منه، وهذا هو الذي حصل للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يوم الحديبية لما أريد إبرام العقد مع كفار قريش، وكان الذي يبرمه من جانب الكفار سهيل بن عمرو الذي أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وكان من الشروط: أن من جاء من المسلمين إلى الكفار فإنه لا يرد إليهم.

 

يعني: من ارتد وذهب إلى الكفار فإنه لا يرد إلى المسلمين، ومن جاء من الكفار مسلمًا وأراد أن يلحق بالمسلمين فإنه يرد إليهم.

 

فبعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -ومنهم عمر ومنهم سهل بن حنيف - تأثروا وتألموا وقالوا: يا رسول الله! كيف نعطى الدنية في ديننا؟! يعني: كيف أن من ذهب منا لا يرجع، ومن جاء منهم يرجع عليهم؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رضي بذلك وقبل به، فتبين لهم أن هذا الذي رضي به الرسول أن فيه غضاضة على المسلمين.

 

أي: هذا الشرط الذي فيه أن من جاء من الكفار رجع إليهم، ومن جاء من المسلمين لا يرجع عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رضي بهذا الشرط؛ وذلك أن من ذهب منهم كافرًا أبعده الله، ومن جاء من أولئك مسلمًا ولم يقبله المسلمون سيجعل الله له فرجًا، ولما حصل أن الذين أسلموا وأرادوا أن يلحقوا بالمسلمين لم يقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على الشرط، وكان منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فقد كان مسلمًا وكانوا قد قيدوه بالحديد حتى لا يلحق بالمسلمين، وفي أثناء العقد انطلق بحديده وجاء يجره، فلما وصل إليهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يستثنى هذا.

 

يعني: هذا يستثنى من الشرط الذي فيه أن من جاء لا يرد، فقالوا: لا، بل هذا لابد أن يرجع، فرجع وزاد تأثر الصحابة أيضًا عندما رأوا هذا الرجل الذي يجر حديده وهو مسلم وقد جاء يريد أن يلحق بالمسلمين يرد إلى الكفار، وكان أبوه هو الذي وقع العقد، وهو الذي طلب أن يرد، ولما لم يوافق على استثنائه زاد تألمهم وتأثرهم، ثم ماذا كانت النتيجة؟ لما رأى المسلمون الذين أسلموا ولا يريدون أن يبقوا مع الكفار في مكة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم بناءً على الشرط ما كان منهم إلا أن ذهبوا واجتمعوا على ساحل البحر، وكلما مرت قافلة من القوافل التي تأتي من الشام لكفار قريش اعترضوها، فقريش نفسها تألمت وتأثرت.

 

وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم حتى يسلموا من اعتراضهم لعيرهم؛ فكان في ذلك مصلحة، وهذا الذي رضي به الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الله لهم فرجًا، فالكفار رجعوا عن شرطهم وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، فتبين للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أن الرأي الذي رأوه لم يكن على الصواب، فكان سهل بن حنيف رضي الله عنه في صفين لما كان الناس في صفين، وكانت المعركة دائرة بين أهل العراق وأهل الشام، فأهل الشام أرادوا التحكيم وقالوا: توقف الحرب ويُرجع إلى التحكيم، فيختار هؤلاء أناسًا وهؤلاء أناسًا، ويلتقون وينظرون في الخلاف الذي حصل بين أهل الشام وأهل العراق، فبعض الصحابة -ومنهم سهل بن حنيف - رضي وأراد أن تنتهي الحرب.

 

وكان سهل مع أصحاب علي رضي الله عنه، ولما رأى أن بعض الناس عندهم رغبة في المواصلة، وألا توقف الحرب صار ينصحهم ويقول: (يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين)، يعني: أن هذا الذي فيه إيقاف الحرب فيه مصلحة، والرأي الذي رأيتموه اتهموه، ثم ذكر قصته يوم أبي جندل وما حصل لهم يوم عقد الصلح، وأنهم رأوا رأيًا كان الخير في خلافه.

 

الحاصل: أن الإنسان نفسه يرى في وقت رأيًا وبعد ذلك يرى رأيًا آخر ويتعجب من نفسه كيف رأى ذلك الرأي! لأنه رأى المصلحة في الأخير لا في الأول، وإذا كان الأمر كذلك فالشرع الذي هو وحي الله هو الذي يجب أن يتمسك به، والعقول تتبعه وترجع إليه، ولا تتهم النقول ويعول على العقول، فطريقة أهل السنة والجماعة هي اتباع النقول واتهام العقول إذا خالفت النقول، والعقل السليم لا يخالف النقل الصحيح، ولـ شيخ الإسلام كتاب كبير واسع اسمه (درء تعارض العقل والنقل)، يعني: أنه لا يختلف العقل والنقل، بل العقل السليم يتفق مع النقل الصحيح، ولهذا العلماء عندما يأتون في بعض مسائل الفقه ويذكرون الأدلة يقولون: هذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول يعني: أن العقل يتفق مع النقل.

 

بل أهل البدع والأهواء على العكس من أهل السنة والجماعة؛ إذ يعولون على العقول ويتهمون النقول، وإذا جاء النقل مخالفًا لمعقولاتهم إن كان آحادًا قالوا: هذا آحاد، والآحاد لا يحتجون بها في العقيدة، وإن كان متواترًا أو في القرآن قالوا: هذا قطعي الثبوت ظني الدلالة.

 

يعني: فلا يؤخذ به، ولكن يرد عليهم هذا الأثر الذي جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفيه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر الخف)، يعني: أنه لا بد من اتباع النقول، ولا يلتفت إلى العقول إذا رأت ما يخالف النقول، أو إذا انقدح فيها ما يخالف النقول، فالمعول عليه هو النقل وليس المعول عليه العقل، وهذا هو الفرق بين أهل السنة وأهل الأهواء، فأهل السنة يعولون على النقول، ويرون أن النقل الصحيح لا يعارضه العقل السليم، وأما أهل البدع فإنهم يعولون على معقولاتهم، والنقول التي لا تتفق مع معقولاتهم يتهمونها ويدفعونها من أصلها، فإن كان النقل آحادًا قالوا: لا يحتج في العقائد بالأحاديث الآحاد، وهذا خلاف الحق، بل يحتج بالنصوص كلها آحادها ومتواترها، وإن كان قطعي الثبوت كالقرآن ومتواتر السنة دفعوه من حيث الدلالة وقالوا: هو قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة، ولهذا يقول بعض المؤلفين في العقائد المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة وهي عقيدة الأشاعرة الذين يسمون أنفسهم أهل السنة يقول في كتاب اسمه (إضاءة الدجنة في بيان عقيدة أهل السنة).

 


المصدر:

شرح سنن أبي داوود، عبد المحسن العباد

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التسليم
اقرأ أيضا
التعليل المادي للشريعة | مرابط
مقالات

التعليل المادي للشريعة


كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب الأخلاق الاجتماعية وغاية التشريع هو سياسة المصالح العامة .. وفي هذا المقال الموجز يناقش إبراهيم السكران هذه الفرضيات.

بقلم: إبراهيم السكران
485
أيام الصبر | مرابط
تفريغات

أيام الصبر


أهل العلم قالوا: ليس من الممكن أن يستوي من وقف أيام الشدة وأيام الفاقة وأيام الذلة ولما قل الناصر: وقف في ظهر النبي ليقول: أنا هنا مالي موجود وأنا موجود! أنا لن أتخلى عنك! وشخص آخر جاء وقت الرخاء.. نحن الآن في نفس هذه الأيام اليوم الدين ليس له أحد دين الله ليس له أحد الناس تعيش لحياتها أنت تصلي لنفسك وليس لدين الله أنت تصوم لنفسك وليس للدين الدين كل يوم ينقص.

بقلم: محمد سعد الشرقاوي
622
سبيل السعادة على أيدي الرسل | مرابط
اقتباسات وقطوف

سبيل السعادة على أيدي الرسل


لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم.. فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به. فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.

بقلم: ابن القيم
264
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج2


سميت أشراط الساعة أشراطا لأنها علامات على قيام الساعة وهي على الأغلب إن كانت على ذلك وقد يسمى من أشراط الساعة ما لم يكن علامة عليها وإنما هو داخل في أثنائها وذلك أن من علامات الساعة انكدار النجوم وسقوطها أثناء قيام الساعة والساعة حينئذ قد قامت وعليه يعلم أن علامات الساعة منها ما هو سابق لها ومنها ما هو في أثنائها فالعلامة يذكرها على أنها ما يسبق الساعة ويكون تمهيدا لقيامها ومنها ما يكون هو داخلا فيها ومتغلغلا فيها وذلك أن أكثر أشراط الساعة هو سابق لها سواء كان من الكبرى أو من الصغرى

بقلم: عبد العزيز الطريفي
675
القلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن | مرابط
اقتباسات وقطوف

القلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن


وهذا القلب إنما يستمد مادة حياته من المحن ومن العوارض ومن المتاعب فالجوارح تستمد حياتها من الراحة أما القلب فهو يستمد حياته من المحن ففيها سلامة القلب فالقلب لا يعيش إلا في العواصف والمحن ولذلك اختار الله عز وجل البلاء فجعله من نصيب أوليائه

بقلم: أبو إسحق الحويني
520
نحن المسلمين | مرابط
فكر مقالات

نحن المسلمين


لا نهن ولا نحزن ومعنا الله ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس هذا النشيد القوي: الله أكبر البطولة سجية فينا وحب التضيحة يجري في عروقنا لا تنال من ذلك صروف الدهر ولا تمحوه من نفوسنا أحداث الزمان لنا الجزيرة التي يشوى على رمالها كل طاغ يطأ ثراها ويعيش أهلها من جحيمها في جنات

بقلم: علي الطنطاوي
1529