مأزق المترقب

مأزق المترقب | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

1107 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أزمة الإنسان المترقب

 

الحمد لله وبعد،،

واضعًا يده على ذقنه يتفرج باهتمام بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه.. هو يعرف أسماءها جيدًا.. وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه المشروعات.. بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم.. وبحوزته أيضًا رقم الهاتف الخاص لبعضهم.. كما أن أحدهم دعاه يومًا لمجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين.. بل هو لا يزال يتذكر أنه أرسل لبعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه.. لكنه إلى الآن ليس جزءًا من أي مشروع.. ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفًا في جهازه المحمول..

هذه أزمة الإنسان المترقب.. الذي تململت من جلوسه مدرّجات المتفرجين.. ومازال متفرِّجًا..

الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية بلا مبالاة من يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته.. وأخذ ينفث الزمن في الهواء.. الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته، كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية، ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل، هذا كل ما في الأمر..

الإنسان المترقب قد يكون في المسجد يراجع حفظًا أو يذكر الله.. فتنسلّ يده لجواله وينقر أيقونة شبكات التواصل.. ويخرج من المسجد وهو فيه.. أتى إلى المسجد لتغتذي روحه العطشى لذكر الله.. لكنه دخل المحراب بجسده ثم قذف بروحه في العراء خارج الأسوار..

هل هذا يعني أن الإنسان المترقب هو كائن معزول الإحساس بالزمن؟ هل المترقب عديم الأحلام والطموحات؟ لا، بل هو يتحرّق كثيرًا ويتمنى أن يصنع شيئًا لنفسه وللآخرين، ولكنه واقف كالمشلول.. لماذا؟ المترقب ذاته لا يدري..

حين يكون المترقّب في مجلس ذكر عن قيام الليل تشتعل همته للمناجاة في هزيع السحر، وحين يكون المترقب يستمع لدرس عن فضل العلم ومناقب المعرفة يكاد يمضغ ذاته حماسةً ويتخيل نفسه قد حبس عليه غرفته بين أرفف مكتبته.. لكن ما إن يتجاوز لهيب الحماسة حتى يتبدد كل شيء ويعود لذات برنامجه اليومي في التفرج على المنتجين..
 

ترحيل المهام

لدى المترقب مشكلة يمكن تسميتها مشكلة "ترحيل المهام" فحين كان المترقب في المرحلة الثانوية كان يحدّث نفسه بأنه إذا انتقل للجامعة وصار له استقلال وحرية أكبر فسيبدأ مشروعات علمية وعملية.. ولما بدأ الدراسة الجامعية صار يقول لنفسه متى ينتهي ضغط المذكرات والبحوث وتحضير المحاضرات والاختبارات وتبدأ مرحلة المهنة وأتفرغ لمشروعاتي العلمية والعملية؟!

وهو يقولها صادق، ولما بدأت مرحلة المهنة أصبح يقول لنفسه بعدما أنتهي من هم الزواج والمسكن والاستقرار المادي سأبدأ بإذن الله تنفيذ خططي وأحلامي العلمية والعملية، ثم انخرط في مسؤوليات الأسرة والأبناء ومتطلبات المهنة، حتى طوّح به العمر خارج الموسم الذهبي للإنتاج، وصار يقول لنفسه ذهب وقت التحصيل والبناء "وهل يصلح العطّار ما أفسد الدهر".. وهكذا أحرق المترقّب عمره عبر آلية "ترحيل المهام"..
 

الهروب النفسي

يشتكي البعض ويقول أن شبكات التواصل أو تصفح الانترنت جذّاب ويشغلني عن مشروعات علمية كثيرة، ربما يكون هذا الكلام يتضمن توصيفًا دقيقًا للمشكلة، ولكن لي رأي آخر، رأيي أن كثيرًا من الملهيات عن العلم والعمل ليست جذابة أصلًا، وإنما هي في حقيقتها وسيلة "هروب نفسي" عن المهام الواجبة.. ألا ترى أنك أيام الاختبارات تدع المذكرات وتقرأ بعض الكتب التي كنت منشغلًا عنها خارج الاختبارات؟ ألا ترى أنك إذا بدأت بكتاب في علم معين، صارت نفسك تحدثك بمطالعة كتاب في علم آخر لم تكن لتطالعه قبل ذلك؟

صحيح أن حالة التفرج والترقب هذه فيروس خطر يهدد حياة كل واحد منا، لكن الشاب الذي يعيش المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي في حقه أفظع وأكثر خطورة، فقد أصبح كالمزارع الذي نام على البذور حتى فات الموسم.. فالمرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي مرحلة الذروة في قوة الملكات.. وأي غبن أن تبدأ المعركة بعد أن تخور قواك..
 

إدراك شرف الزمن

ومن تأمل الليل والنهار الذي نعيش فيه، وكيف نتقلب في أيامه، ثم رأى قسم الله سبحانه بهذا الزمن (والعصر) امتلأ قلبه بإدراك شرف "الزمن".. وأنه في كل ثانية ودقيقة وساعة ينفق من (رصيد زمني) منحه الله إياه وكتبه الملك حين كان جنينًا عمره أربعة أشهر.. لا شيء ساكن في حياتك.. أنت في كل لحظة تنفق من رصيدك الزمني.. فإما أن تشتري به علمًا وعملًا رابحًا.. أو يذهب في الترقب والتفرج في صفقة خاسرة..

وأزمة الخسارة والغبن في استثمار هذا الرصيد الزمني هو الذي أشار له الحديث الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[البخاري:6412]
 

الحالة السبهللية

ويبدو أن هذه الأزمة، أعني أزمة الترقب والتفرج قريبة من (الحالة السبهللية) التي وصفها الفاروق عمر بن الخطاب في الأثر المروي عنه (إني أكره الرجل يمشي سبهللا، لا في أمر الدنيا، ولا في أمر الآخرة).

وهناك منظومة في الآداب مشهورة لابن عبد القوي رحمه الله، جمع فيها في بيت واحد حديث البخاري وأثر عمر، حيث قال رحمه الله:

ولا يذهبن العمر منك سبهللا ** ولا تغبنن في النعمتين بل اجهد

ومن أكبر عوامل الحالة السبهللية هي مشكلة "التقطع" ومرض الترحل في أنصاف المشروعات.. ولعلك تتذكر أن العلامة ابن عثيمين يمثل مشروعًا فقهيًا مكتملًا.. فبالله عليك لاحظ كيف يشرح فكرة نبعت من خبرته الطويلة حيث يقول في كتابه الذي جمعه من خطبه وسماه الضياء اللامع:

(وإن من الحكمة أن من ابتدأ بعمل وارتاح له فليستمر عليه، فمن بورك له في شيء فليلزمه، وبعض الناس يبدأ الأعمال ولا يتممها، فيمضي عليه الوقت سبهللا من غير فائدة، فمثلا يقرأ في هذا الكتاب أو في هذا الفن، ثم يدعه من غير أن يكمله، وينتقل إلى غيره، ثم إلى آخر، من غير تكميل الأول، فيضيع عمله وينقضي عمره بلا فائدة، وكذلك في الأعمال الأخرى كل يوم له عمل، وكل يوم له رأي، فيضيع الوقت عليه من غير فائدة).

هذه حكمة عصرتها الخبرة يشرحها فقيه حدد هدفًا علميًا رفيعًا وبلغه فعلًا.. وليست نظرية يتاجر بها منتسب لعلم النجاح في قاعات الفنادق..
 

المماحكات التويترية

ومن الظواهر المثيرة للغرابة فعلًا، أن أزمة المترقب لم تعد مقتصرة على إحراق الوقت في متابعة الجدليات والمناقضات عبر شبكات التواصل، بل أصبحت مثل هذه المماحكات التويترية مادةً للحديث في بعض مجالس الأخيار، رد فلان على فلان بتغريدة قوية، وتفكّه فلان على فلان بتغريدة مضحكة، وقصف فلان جبهة فلان، وهكذا، يا ضيعة الأعمار.. ويا سقى الله أيامًا كان المجلس فيها نقاشًا عن ترجيحات ابن تيمية ومسلكيات ابن القيم ومنهج المتقدمين في الحديث وفقه المعاملات المعاصرة وأخبار القوم من سير النبلاء..

حدثت نتوءات في لا وعي المترقب، وبثور في ذوقه، وترهل قدراته الذهنية؛ تزامنت مع متغيرات نظم الاتصالات الحديثة.. ففي بداية فتوّة المترقب كان يحضر بعض الدروس المتخصصة ويقرأ بعض الكتب الراقية في لغتها ومحتواها.. وبعد أن لبس المترقب نظارة شبكات التواصل، وأدمنها، كثرت تبعًا لذلك قراءته للتلفظات السوقية والمخاشنات الحوارية.. حتى تدهور ذوقه وتخلخلت تلك الروح الجمالية التي كانت تلهمه في النظر لذاته ولمن حوله، واستسهل من النابيات ماكان يشمئز منه..

 

التأثر بطبيعة المادة المقروءة

وكثير من الناس يظن التأثر هو بمدى القناعة بالمقروء من عدمه، وهذا غير دقيق، فنمط المادة المقروءة ونوعها إذا كثر يؤثر في القارئ دون أن يشعر حتى لو لم يكن مقتنعًا بها، ولذلك قال أبو العباس ابن تيمية (من أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير)[الاقتضاء:1/543]

وكما كانوا يقولون للمسافر للخارج "احذر المرأة الأولى والكأس الأول"، فما أقرب أن يقال للمنخرط في شبكات التواصل "احذر الشتيمة الأولى"، ولقد رأيت إخوانًا لي كانوا من أبعد الناس وأكثرهم نفورًا عن الردود الفجة والكلمات النابية، ثم مع كثرة تعرضهم لمناقشين غير راقين، تساهلوا مرة في رد خشن، ثم تبعها أمثالها، وذهب الحاجز بينهم وبين هذه الأساليب، وصرت إذا ناقشته في أسلوبه الجديد قال لي "هناك أناس لا يفهمون إلا هذه اللغة" فانظر كيف وقع في سلوك جديد شرعنه لنفسه لم يكن ليقع فيه مسبقًا بسبب كثرة جلوسه في طرقات شبكات التواصل وتعرضه المستمر لتدفق ردود بمستوى هابط..
 

القدرات الذهنية

وهكذا القدرات الذهنية فهي ليست شيئًا مختلفًا كليًا عن القدرات البدنية، بل كثير من القوانين التي تجري على القدرات البدنية تجري ذاتها على القدرات الذهنية، ومنها قانون (اللياقة)، فعضلات الجسم تترهل وتضمر إذا لم يمارس الإنسان التمارين البدنية، وهكذا القدرات الذهنية تضمر وتضعف إذا لم يمارس العقل المران الذهني العميق، ولذلك كان لفظ الرياضة في التراث الإسلامي يشمل ثلاثة مستويات: البدن والذهن والنفس، كما يقول ابن تيمية في الرد على المنطقيين (لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: "رياضة الأبدان" بالحركة والمشي، و"رياضة النفوس" بالأخلاق الحسنة، و"رياضة الأذهان" بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة).

وكانت رياضة الذهن وتمرينه وبناء القدرات العقلية مسألة حاضرة لدى المتقدمين من السلف كما قال ابن تيمية في كتابه السابق ذاته (كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور: لشحذ الذهن).

والمراد أنه إذا طال فراق المترقّب للكتب والبحوث الدقيقة وتوليد المفاهيم وتمحيص الاستدلالات وحل الإيرادات، وصار زاده المعرفي تغريدات أفقية، وطالت هذه الحال، ضمرت قدراته الذهنية، بل يتطور الأمر إلى حالة أخطر، وهو كونه ينفر من المسائل العلمية الدقيقة وينفد وقود احتماله وطاقة التركيز لديه، ويصبح عقله يعمل بنظام الوجبات السريعة..

أخي المترقّب.. أنا ناصح لك، وأحب الخير لك، صدقني أنت تحتاج التوقف سريعًا وتغيير نمط حياتك، وأسأل الله أن نرى منتجاتك العلمية والعملية قريبًا، والله يسددك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران
اقرأ أيضا
أهواء الناس في وقت الفتن | مرابط
تفريغات

أهواء الناس في وقت الفتن


كذلك أيضا فإن شهوات الناس وتشوفهم للفتن يتنوع فمن الناس من يلتفت إلى فتنة السمع ومنهم من يتشوف إلى فتنة البصر ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفرج ومنهم من يتشوف إلى فتنة الكلام ومنهم من يتشوف إلى فتنة الفكر وغير ذلك فتتنوع الفتن فبحسب أهواء الناس تنوعت الطرق

بقلم: عبد العزيز الطريفي
467
القرآن والعلم | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر مقالات

القرآن والعلم


تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح وموزع يتجمع وخطأ يقترب من الصواب فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة

بقلم: عباس محمود العقاد
2415
عمارة النفوس بالله | مرابط
مقالات

عمارة النفوس بالله


لقد جبلت النفوس البشرية على التعلق بالدنيا والغفلة عن الآخرة لذلك جاءت آيات القرآن فجعلت الأصل في الخطاب الدعوي ربط الناس بالآخرة والتبع هو التأكيد على أهمية إعداد القوة هذه نزعة ظاهرة في القرآن والسنة ووصايا السلف.. ولكن للأسف جاءتنا خطابات دعوية مادية أرهقتها مواجهة التغريب فانكسرت وتشربت ثقافة الخصم ذاته وصارت منهمكة في تذكير الناس بالدنيا وجعلت التبع هو الآخرة.. خطابات لم تعد تستحي أن تقول مشكلة المسلمين في نقص دنياهم لا نقص دينهم! ولكن لا يزال ولله الحمد- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهد...

بقلم: إبراهيم السكران
376
الاختلاط هم ووهم | مرابط
فكر مقالات المرأة

الاختلاط هم ووهم


من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء الملقاة على قارعة الطريق-كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحد أن يتوهم بعض الناس أنها من المسلمات الفقهية القول بأن المحرم في الشريعة هو الخلوة لا الاختلاط وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعا مختلطا يجتمع فيه الرجال والنساء ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيدة له وفي هذا المقال يقف المؤلف على إشكالية الاختلاط وما يسوقه المؤيدون له من أدلة مزعومة

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1178
من أسباب ضياع الوقت | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

من أسباب ضياع الوقت


الوقت المستغل هو الوقت الذي نقضيه في الوفاء بالتزاماتنا الوظيفية والإنتاجية وكذلك الوقت الذي نقضيه فيما يعد مهما للبقاء على قيد الحياة مثل: النوم والأكل والرياضة والعناية بالصحة أما وقت الفراغ فهو الوقت الذي يمضي دون أن نقوم بأي عمل مفيد أو مهم إنه وقت يمضي دون أن نعرف ماذا نصنع به هناك نوع من أوقات الفراغ يضيع أثناء تأديتنا لأعمالنا وذلك حين لا نؤدي أعمالنا بطريقة صحيحة وجادة كما هو شأن كثير من الموظفين

بقلم: د عبد الكريم بكار
732
قاعدة جليلة في التوكل | مرابط
اقتباسات وقطوف

قاعدة جليلة في التوكل


قاعدة جليلة في التوكل منتقاة من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية يعرض فيه أنواع التوكل على الله فمن الناس من يتوكل على الله في جلب حوائجه الدنيوية ومنهم من يتوكل على الله في حصول ما يحبه الله ويرضاه كما يعرض لنا مفهوم التوكل بشكل صحيح والفرق بينه وبين التواكل وحال المؤمن المتوكل على الله

بقلم: ابن القيم
1346