إنك شيء لا يُفكّر، ولا يحسّ، ولا يحبّ.. حتى ارتعاشة القلب استجابة لخاطر الحب، شيء لا قيمة له؛ ﻷنها مجرد استجابة آلية من كيان مادي لا يحمل عاطفة حقيقية في جوفه.. ولذلك على الملحد العاقل ألا يقول لزوجته: أنا أحبك! إذ هو لا يملك فؤادًا، وإنام عليه أن يقول لها بصدق: زوجتي.. إن الدوبامين قد أغرق النواة المذنّبة في دماغي. فما الحب غير عملية غير إرادية لها علاقة بالدماغ والهرمونات والأعصاب.. إننا -إلحاديا- لا نحب ولا نعشق، إنما نُظهر في أنفسنا مظاهر خادعة للحب في استجابة للكيمياء الفائرة فينا.. إننا هنا كائنات بلا عاطفة صادقة، وإنما هي كتلة من العضل تسمى قلبًا تدفع الدم في اتجاه العروق.
إن إنكار الإرادة الحرّة ليس قضية نظرية يتداول أطرافها المترفون ذهنيًا من الثرثارين، وإنما هي دعوى لها ضريبة عمليّة مُشاهدة؛ وهي اعتقاد الإنسان أنه لا حريجة من إيذاء الغير؛ ﻷن الفاعل مسلوب الإرادة، فما يجترحه من آثام لا يُحسب ضمن منكراته؛ ﻷنه لم يختره؛ فهو مجرّد آلية تستثمر البنية الفسيولوجية لصناعة مجموعة أعمال مادية تظهر على الجوارح دون اختيار واع.
وقد كشف باحثان من جامعتين أمريكيتين في دراسة لهما نُشرت في مجلة psychology science أن الإيمان بالجبرية يُعزّز ظاهرة الكذب والخيانة، من خلال تجربة تمّت على مجموعة من المشاركين تعرّضوا بكثافة لمفهوم الجبرية. وقد انتهى الباحثان إلى أن السّجال حول حرية الإرادة قضية لها تداعيات مجتمعية خطرة.
وذاك ما أكدته تجارب أخرى أجراها متخصصون، منها تجربة شارك فيها طلبة جامعات، قُدّمت فيها لهم تقريرات لعلماء يدافعون فيها عن إنكار واقعية حرية الإرادة، ثم طُلب من هؤلاء الطلبة أن يقدّموا وجبة طعام لمجموعة من الناس لا يحبّون الأكل المخلوط بالبهارات؛ فقدّموا لهم أكلا بهاراته كثيرة، رغم أنه قد قيل لهم إن الجالسين عليهم أن يأكلوا ما يُقدّم لهم دون خيار.
وقد لخص جري كوين حقيقة الأمر بصيغة إيجابية، عندما زعم في محاضرة له عنوانها: أنت لا تملك إرادة حرة.. في مؤتمر بعنوان: تصوّروا لو أنه ليس هناك دين! أن لإنكار وجود الإرادة الحرة فضيلة عظيمة، وهي أن تتخلّص من شعور الذنب كليّة، وتعيش بلا ضمير يؤنبك وأن تنتقل لتسويغ أنانيتك من لوم الأسرة أو الزوج أو المجتمع إلى ألا تلوم أحدًا؛ فآثامك بضعة من بنائك الفسيولوجي.
ذاك هو الملحد، يؤمن أنه آلة، وأنه آلة واعية تدرك أنها بلا إرادة، رغم أن الوعي يحتاج إرادة مدركة حتى تتمكن النفس من التقدم للوصول إلى فهم الواقع.. والملحد يؤمن أن عليه أن يتعايش مع خرافة الإرادة الحرة لأنه يعجز أن يختار أو يتحرك أو يرد الفعل إذا واجه حقيقة أنه بلا إرادة.. ثم هو يدعو إلى مجتمع أخلاقي، مع علمه أنه مجتمع مسلوب الإرادة وأن علمه أنه لا توجد إرادة حرة سيأكل من ضميره الذي يؤنبه إذا اجترح سيئة.
أن تكون ملحدًا هو أن تصنع خرافة، ثم تتعايش معها، وتجلد بسيف العلم من لم يتابعك في إيمانك بالخرافة.. وكل ذلك صارف عن فهم الحكمة في خلف الكون، والحكمة من رسالات الوحي.. نفي الإرادة الحرة من لوازم الإلحاد المادي، ومبطل لكل فضيلة أخلاقية أو معرفية يدّعيها الملحد.
المصدر:
سامي عامري، الإلحاد في مواجهة نفسه، ص85