ما هو البديل ج1

ما هو البديل ج1 | مرابط

سؤال: ما هو البديل، هو أحد أشهر الأسئلة التي ترد عند الاحتساب على منكرٍ معين، فيأتي حينها المطالبة بإيجاد بديلٍ مناسبٍ يحل محل المنكر الذي يُنهى عنه، وهو سؤال مشروع وإيجابي في الجملة، لعدة أمور:

الأمر الأول: أن من الحكمة أن تفتح للناس طرائق الخير التي تغنيهم عن فعل الشر، فإذا أُغلق عليهم باب شرٍّ فافتح لهم من أبواب الخير ما يكون فيه غنية لهم عن البحث عن الشر.
الأمر الثاني: أن فيه مراعاة لطبائع بعض النفوس، وأنها إذا لم تجد بديلًا فإنها ستبقى متمسكة بما هي عليه، ولن تنتفع بما تسمع من نصح ووعظ.
الأمر الثالث: أن في إيجاد البدائل للمنكر ما يخفف من حدّة الإقبال عليه، وذلك أن للمنكر أسبابًا ووسائل تحفز عليه، فوجود البديل الموازي الذي يفي بالغرض تخفيف من أثر تلك الوسائل وصد لأسباب الحرام.

 

البدائل المباحة

وأنت إذا تأملت في طبيعة النفس البشرية وحال عامة الناس، أدركت ما للبدائل المباحة من أثر إيجابي في محاصرة الشر والمنكرات، وهو أمر لاحظه الإمام ابن القيم ونبه إليه فقال: (فإن فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية).

وهو معنى يؤكده هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يشكل تقديم البدائل المشروعة جزءًا من الخطاب الدعوي النبوي، فإن من تدبر سيرته عليه الصلاة والسلام وجد ذلك واضحًا في منهجيته في التربية والتعليم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يبين البديل المشروع عند ذكر المحرم، لعلمه بما جبلت عليه النفوس من الضعف ومحبة العوض والبديل، ومن الشواهد المؤكدة لهذا المعنى:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟»، قال بلال: كان عندنا تمر ردي، فبعت منه صاعين بصاع، لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أوه أوه، عين الربا عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتره».

وعن أنس بن مالك، قال: كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، قال: «كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى».

 

التوجيه إلى القول أو الفعل المناسب

ومن مسالك النبي صل الله عليه وسلم في هذا الباب: التوجيه إلى القول أو الفعل المناسب بعد التحذير مما يضاده، ومن شواهده النبوية:
(إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
(لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب).
(لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان).
(لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات).
(لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسقي ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي).
(لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي).

بل هو مسلك حاضر في القرآن الكريم أيضًا، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا).
وهذا ملمح دعوي وعاه الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، فصار هو الآخر جزءًا من خطابهم الدعوي أيضًا، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يأتيه رجل فقال: يا أبا عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعته يقول: «من صور صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدا» فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال له ابن عباس: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح.

ثم سرى هذا المنهج الدعوي إلى العلماء الربانيين، يقول ابن القيم رحمه الله: (مِنْ فِقهِ المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه، أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم». وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدس الله روحه يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرا فيها).

فالتفكير في البديل المباح يشجع الآخرين على ترك المحرم، ويخفف من الإقبال عليه، فهو أمر ضروري، وهدف مهم يستحق الكثير من الجهد والتفكير والبذل والاجتهاد بحسب القدرة والطاقة. وهو من تمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن إيجاد البدائل هو صيانة من تمدد المنكرات، فوجود معاملات مصرفية توفر للناس التمويل المباح الذي يغطي حاجاتهم هو من أعظم ما يضيق وقوع الناس في منكر الربا، ووجود مجالات ترفيه مباحة توفر لهم بيئة مباحة للنزهة واللعب والمتعة هو من أعظم ما يحول بين الناس وبين الوقوع في المنكرات بسببه، ووجود قنوات وبرامج إعلامية تغطي حاجة الناس من برامج الفائدة والمتعة والرياضة وغيرها هو مضيق للبرامج الهابطة، وهكذا في بقية المجالات.

 

من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر

ولعل الساعين في هذا الباب بتقديم البدائل المشروعة أو المباحة يدخلون فيمن مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه).

فالبحث عن البديل المناسب هو من أعظم ما يجب العناية به لتوسيع الخير وتضييق الشر في عصرنا، والتفريط فيه خطأ كبير لا يعوضه أي شيء آخر، وهو ناشئ عن قصور في الوعي بواقع الناس وأثر هذه البدائل في نشر الخير وكشف الشر، وقصور في فهم دلالة الشرع ومقصده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا يقتصر على طريقة أو مجالات معينة. ومن استقرأ واقع الشريعة وجدها تورد للناس بدائل عن الحرام.

يقول ابن القيم مبينًا هذه الحقيقة الشرعية العظيمة: (فما حرم الله على عباده شيئا إلا عوضهم خيرًا منه، كما حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا، وعوضهم منه التجارة الرابحة، وحرم عليهم القمار، وأعاضهم منه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم عليهم الزنا واللواط، وأعاضهم منهما بالنكاح والتسري بصنوف النساء الحسان، وحرم عليهم شرب المسكر، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف والمثاني، وأعاضهم عنها بسماع القرآن والسبع المثاني، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات).

إذن، فليس في هذه المقولة إلى هنا أي إشكال، ولا تتضمن من حيث هي أي أمر يؤدي إلى انحراف، خصوصًا إن تُلقّي الأمر باعتدال، واستحضر أن توسعة الشريعة في كثير من مواردها لإيجاد البدائل المباحة، لا ينفي أن ثم مساحة من المحرمات قد لا يكون لها بدائل مباشرة أو مساوية لها، فقد يكون من حكمة الشريعة الابتلاء بالتحريم طلبًا لمرضاة الله تعالى وإثابته الأخروية، مع تيقن أن الخير والمصلحة كلها في اجتناب ما حرمه الله، كما قد تجيء الفتوى من النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم شيء دون ذكر لأي بديل.

فمع ما سبق تقريره من الاحتفاء بتطلب البدائل والتأكيد على أنه من مسالك الشريعة الأصيلة، لكن ينبغي أن يتنبه إلى وجود تلك المساحات التي لا بديل فيها.

 


 

المصدر:

عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص322

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#زخرف-القول
اقرأ أيضا
التوجس من كل جديد | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

التوجس من كل جديد


هذه إحدى المقولات الشائعة أو بالأصح هي انطباع شائع عند كثير من الناس عن العلماء والمشايخ في عصرنا وعن الخطاب الديني بشكل عام وهو أنه يتوجس من كل جديد فيبادرون إلى تحريمه ومنعه ويبالغون في الحكم عليه خشية من الذرائع المترتبة عليه ثم لا تلبث الأيام أن تكشف خطأهم وتبين عن قصور وعيهم وتشدد مواقفهم فيعودون بعد ذلك ليجيزوا ما كانوا يحرمونه

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2177
النشوز ما هو؟ | مرابط
المرأة

النشوز ما هو؟


النشوز ما هو؟ يقول صاحب أضواء البيان: النشوز في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج. يقول الطبري: نشوزهن: استعلاءهن على أزواجهن وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه بغضا منهن وإعراضا عنهم

بقلم: باسم بشينية
379
الدليل العقلي عند السلف ج1 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج1


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
453
التغريب: الأهداف والأساليب ج2 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج2


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2531
الوجه القبيح للحضارة الغربية | مرابط
فكر مقالات

الوجه القبيح للحضارة الغربية


إن الصورة الناصعة اللامعة التي ينشرها الإعلام للمجتمع الغربي والحضارة الغربية بشكل عام تخفي خلفها الكثير من الملامح القبيحة التي تشمئز منها النفوس فهذا الوجه المترع بمساحيق التجميل يخفي خلفه الكثير من الدماء والاستعباد والتجويع والحصار والإفقار بل وتجاوز كل ذلك ووصل إلى الشذوذ الجنسي والاستغلال الجسدي للأطفال بجانب استعبادهم وإجبارهم على العمل في السخرة وهذا ما يحلله المؤلف في المقال

بقلم: راغب السرجاني
2287
الاجتماع بالأصحاب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاجتماع بالأصحاب


وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك

بقلم: ابن القيم
466