مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط

من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقًا إسلاميًا شرعيًا، وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى، وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية، والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم.
 
وبناء على ذلك فإن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير هي قضايا داخلة ضمن الأحكام الشرعية، والتسميات ( المصطلحات ) الشرعية لها هي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والجهاد ونحوها، والكلام فيها يجب أن يكون بمنهج علماء الشريعة، وأدواتهم، وآلياتهم في التلقي والاستدلال، والكلام فيها بالآراء الشخصية، والتحسينات الذوقية هو من القول على الله بغير علم؛ إلا ما كان في الإطار العام الذي ليس فيه تحليل للحرام، وتحريم للحلال.
 
وعليه فإن الباحث الشرعي عند دراسته للأولويات والبدايات في الدعوة إلى الله تعالى يجد أن أول ما يجب البدء به هو الدعوة إلى التوحيد والعقيدة (أركان الإيمان)، ويدل على هذه الحقيقة الشرعية كثير من النصوص منها قوله تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك" ، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الشهير لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مصلحًا وداعيًا إلى الله تعالى قال له: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ... )) والحديث رواه البخاري ومسلم.
 
والمتتبع لأولويات الأنبياء عليهم السلام في الدعوة والإصلاح والتغيير يجد أنهم يبدءون بالدعوة إلى التوحيد والعقيدة، ومن ذلك قوله تعالى" ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"، وفي قصص الأنبياء في سورة الأعراف نجد أن كل رسول يبدأ قومه بقوله " اعبدوا الله مالكم من إله غيره"، وهذا متكرر مع كافة الأنبياء، وهو من الدين المشترك بين الأنبياء فبهذا تكون أولوية العقيدة والتوحيد من المحكمات الشرعية في مجال الدعوة والإصلاح.
 
وأولوية العقيدة في الإصلاح من موارد الإجماع التي لم يخالف فيها أحد من علماء الإسلام في القديم أو الحديث، وهي تعود إلى قضية منهجية هي التفاوت في مراتب الأحكام والأعمال، فالواجبات أولى من المستحبات، والإيمان بالله تعالى أعظم من الصلاة ... وهكذا.
 
ولهذا أجمع علماء أهل السنة والجماعة على أن أول واجب على المكلف : " توحيد الإلوهية "، وردوا على أهل الكلام الذين قالوا أن أول واجب المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر، واعتبروا مقالتهم من المقالات البدعية، وقد ترتب عليها كثير من الأفكار والمواقف التي لا يزال يعاني منها المسلمون إلى اليوم، ومن أبرزها التبرير لشركيات التصوف والتشيع التي أعادت الوثنية، وعبادة الأوثان إلى الأمة الإسلامية. (أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية الجزء السابع والثامن والتاسع من درء التعارض لمسألة أولوية العقيدة وتوحيد الإلوهية فليراجع)
 
ومما يوضح أولوية العقيدة ما يترتب على حقيقتها أو مناقضتها، فهي أصل الدين وأساس الملة، ولا يكون للعبد إسلام بدونها، وهذا المقام من أوضح ما يدل على أولويتها وتقديمها على كل شيء.
 
وأولوية العقيدة تشمل الإصلاح في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، كما أنها تشمل كافة الأحوال والظروف، وهي أصل محكم لا يعارض بغيره، فمتى ما وجدت قضية عقدية وأخرى غيرها فإن التقديم يكون للعقيدة، وهذا ما يمكن الوصول إليه بقراءة يسيرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

 

أولويات الخطاب المدني الديمقراطي:

مصطلح " المدني والديمقراطي" كان إلى وقت قريب مستعمل في الأدبيات الفكرية العلمانية، وقد استعمله تقرير راند الشهير الذي عنوانه " نحو إسلام مدني ديمقراطي"، فالمدني يقابل الديني التعبدي في الاصطلاح التداولي العام، ولم يتم تداوله في الخطاب الإسلامي إلاّ مؤخرًا عند فئة معينة ترى الأولوية للحرية المدنية من خلال الديمقراطية، وأخذت بربط هذا المفهوم بالشريعة الإسلامية مع أن الممارسات الواقعية تدل على أن المنطلق الذي تنطلق منه هو منطلق مدني محض.
 
وقبل الدخول في مناقشة هذا الاتجاه أود تحديد محل الإشكال، واستبعاد القضايا المتفق عليها؛ ففي أحيان كثيرة يكثر الكلام في أمور متفق عليها وليست هي محل المناقشة والمراجعة.
 
فأهمية الحرية، ومخاطر الاستبداد، وأهمية وجود حاكم مختار من الأمة، والحاجة إلى بناء مدنية وتنمية حضارية شاملة ليست هي محل الإشكال، ولا أظن منصفًا يزايد على الخطاب الشرعي السلفي في بيان هذه القضايا، فقد اهتم بالفكر السياسي في غاياته الكبرى وهي تحكيم الشريعة بمعناها الشامل، وهو معنى يزيد على مجرد القضاء في الخصومات ليدخل فيه تربية الأمة على قيم الإسلام وأحكامه وتطبيقها داخليًا، وخارجيًا، وكذلك في وسائل الفكر السياسي فقد كان موقف المنهج السلفي واضحًا من التغلب والاستبداد وسرقة المال العام ونحو ذلك، بل إن أتباع الخطاب السلفي هم ضحايا الاستبداد السياسي، وفقدان الحريات.
 
 وأنا شخصيًا تحدثت في كتابي ( حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها ) عن الحرية في سياقاتها المختلفة التي تشمل التحرر من رق المخلوقين، وقدرة العبد على فعله، والحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومخاطر الاستبداد، ورجحت أن تكون الشورى ملزمة، مع أنني أعتبر القول بأنها معلمة قول فقهي معتبر لا يسخر منه إلا من فقد الفقه في الدين، ولم يعرف حقوق المسلمين، فلا يزايد أحد علينا في الكلام حول أهمية الحرية.
 
ولكن القضية التي محل الإشكال هي قضية الأولوية للحرية في الإصلاح، والأولوية للاستبداد في المقاومة، وما يتبع ذلك من تهوين الدعوة إلى العقيدة واحتقار منجزاتها، واتهام الداعين إليها بترسيخ التخلف والاستبداد وغيرها من التهم الظالمة، وتصوير المجتمع النبوي على أنه مجتمع ديمقراطي يسعى للمدنية كهدف أصلي له، وجمع النصوص المتعلقة بالاهتمام بالأحوال الدنيوية ووضعها في الصدارة كأنها غاية هذا المجتمع، وإهمال آلاف النصوص الشرعية المخالفة لذلك، وهذه الطريقة هي مسلك من مسالك أهل البدع نبه عليه الشاطبي في الاعتصام، فالخوارج يحتجون بنصوص الوعيد، والمرجئة بنصوص الوعد، والمعطلة بنصوص التنزيه، والمشبهة بنصوص الإثبات للصفات، والقدرية بنصوص الشرع، والجبرية بنصوص القدر، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويتذرعون بذلك إلى إنكار شيء من الدين.
 
إذن الخلاف ليس في أهمية الحرية، ولا في مخاطر الاستبداد ولكنه في الأولوية: أهي للعقيدة والتوحيد أم للحرية؟، وهل الأولوية في الإنكار للشرك أم للاستبداد؟
 
من خلال النصوص المتقدمة، وترتيب الأولويات في الشريعة نجد أن الأولوية بالإجماع للبدء بالدعوة إلى العقيدة والتوحيد، والتحذير من الشرك والبدع.
 
وإذا جئت إلى مراتب الدين فإن أركان الإيمان هي الأهم والأعظم في دين الله تعالى، من تحقيق الحرية السياسية والاختيار الحر للحاكم، وكذلك نجد أن مصيبة الشرك وخطره أكبر بكثير من الاستبداد، لان التوصيف الشرعي للاستبداد هو (الظلم)، وهذا هو اسمه الشرعي، والظلم الواقع على العباد أقل من الظلم الواقع في عبادة غير الله تعالى.

 


 

المصدر:

موقع الدرر السنية

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الديمقراطية
اقرأ أيضا
وجوب هجر أهل البدع | مرابط
تفريغات

وجوب هجر أهل البدع


إن الرسول عليه الصلاة والسلام سن لنا هجران العصاة فهجركعب بن مالكوأصحابه:مرارة بن الربيعوهلال بن أميةلما تخلفوا عن غزوة تبوك وهجرهم المسلمون خمسين ليلة وهو يعلم أنهم يحبون الله ورسوله وبالتالي فهجر المبتدع من باب أولى لأن جرمه أعظم من جرم العاصي

بقلم: أبو إسحق الحويني
432
تفسير سورة العصر 3 | مرابط
تفريغات

تفسير سورة العصر 3


سورة العصر سورة عظيمة فيها من النصح وفيها من التوجيه وفيها من بيان الأحكام وفيها من دلالة الإنسان وإيقاظ عقله وقلبه وتنبيهه أيضا إلى رشده ما يستيقظ منه الغافل لو تدبر وتأمل هذه السورة التي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل على أمة محمد إلا هذه السورة لكفتهم يعني: سورة العصر وهذه السورة فيها من المعاني العظيمة التي يتوقف الإنسان عندها حائرا مما تضمنته مع قصرها فهي من قصار سور القرآن ولكنها عظيمة المعاني

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1328
وأقم الصلاة لذكري | مرابط
اقتباسات وقطوف

وأقم الصلاة لذكري


ولما ذكر الله الصلاة في سورة طه أشار إلى غاية تغيب عن بال كثير من المصلين فضلا عمن دونهم ربما يتحدث الواحد منا عن عظمة الصلاة في الإسلام وأنها أعظم ركن بعد الشهادتين وأنها الخط الفاصل بين الكفر والإيمان ونحو هذا من معاني مركزية الصلاة ولكن لماذا شرع الله الصلاة وأحبها وعظمها سبحانه؟ إنها بوابة استحضار الله وتذكره يقول الله سبحانه وأقم الصلاة لذكري

بقلم: إبراهيم السكران
121
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2003
المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج3 | مرابط
مناقشات

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج3


حين أخبرني الشيخ أحمد سالم عن كتاب ما بعد السلفية وكان يتوقع رفضا واسعا للكتاب أبديت مخالفتي لهذا التوقع وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلا عند التيار الأوسع من السلفيين كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفا بقراءته قرأته بشكل دقيق فاحص شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا جدا حين ظننت أن مثل هذا النقد سيحدث أثرا إيجابيا أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاء صحيا السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد وحك...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
790
سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2


الأساس الأول الذي بنيت عليه أمة الإسلام والذي بنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم وبغيره لا تقوم أمة ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظمه ونجله وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فهذا تفتقده الأمم الأخرى فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة ب...

بقلم: د راغب السرجاني
444