مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني

مصير الديانات أمام التقدم العلمي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

1780 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(٥) التعليل العلمي ينتصر لقضية الغيب في طرفي الأسباب والغايات

 

لا نكتفي بأن نقول: إِن هذه العلوم — حتى في وضعها الحالي الذي سحر الأبصار — لم تكشف من قوانين الوجود إِلا جانبًا يسيرًا، يمتد من خلفه عالمٌ فسيح من الشواذِّ والأحوال الفردية، التي لا تضبطها قاعدة ولا قانون.
 
ولا نقنع بأن نقول: إِننا، في تلك الحدود الضيقة نفسها، متى جاوزنا عالم المواد الأولية الساذجة إِلى حيث تشتبك العناصر والعوامل، وتتعقد العلائق والمشاكل خرجتْ قوانين العلم عن صرامتها ودقتها، وأصبحت ضربًا من التقريب المبنيِّ على حساب الاحتمالات الغالبة، والذي إِن صدق في متوسطه الحسابي فإِنه يدع الأطراف تتراجع في تقلُّب وتذبذب، بين مد وجزر، هذا إِجمالٌ له تفصيل يعرفه كل من زاول علوم الحياة والنفس والاجتماع وأشباهها.

بل نقول بلسان علوم الطبيعة نفسها: إِنه لم يوجد ولن يوجد فيها قانون عام واحد يعتمد على منهج تجريبي يقيني شامل؛ ذلك أنه مهما تتكرر التجربة، وتتنوع الأمثلة، فإِنها كلها أحداث معينة تقع في أزمنة معدودة، وأمكنة محدودة، ويظل بين جملتها وبين منطوق القانون الكلي، الذي لا يحده زمان ولا مكان، برزخٌ عريض يفصل ما بين «النهائي» و«اللانهائي»، وإنه لكي يسد العلم هذه الفجوة يلجأ دائمًا إِلى «وسيلتين» من الرفو والترقيع، ينسج خيوطهما من مقايسة ذهنية تعتمد على محض الظن والتمني: أما في «أولاهما» فإِنه يمد بين كل مَعلمة ومَعلمة من معالم التجربة الفعلية جسورًا وهمية قصيرة Interpolation يفترض فيها أن الحلقات المفقودة التي لم تسجلها المشاهدة تنتظم في سلك مع الحلقات التي سجلتها.

وأن السلسلة المؤلفة منهما تمتد في خط متصل مستقيم، أو هو على الأقل أقرب إِلى الاستقامة وأبعد عن التعرج والالتواء، وأما في «أُخراهما» فإِنه من وراء تلك السلسلة كلها يثب في عالم الغيب الزماني والمكاني وثبة هائلة extrapolation يفترض فيها أن المناطق التي لم يرَ منها شيئًا شبيهة بالمنطقة التي رأى بعضها، وأن ما سيكون شبيه في الجملة بما كان، لا جرم أن قانونًا هذا مبلغه من الارتكاز على الواقع المشاهد — وكل قوانين العلم الطبيعي كذلك — هو عالةٌ في قانونيته نفسها على نوع من الإِيمان العقلي بتلك المقدمات المفروضة التي لا تزال تضيف إِلى شهادة الحس وقعًا أغلظ منها غريبة عنها، حتى تبرزها في ثوب العموم والشمول.
 
ثم نقول بلسان العلم الأعلى — أعني: علم قوانين المعرفة والفكر — إِن كل تفسير للآثار بأسبابها الطبيعية يحمل في نفسه جرثومة نقصه وعجزه، ولا يمكن أن يصل إِلى حد الإِقناع الشافي إِلا إِذا اقتلع قانون التفكير من جذوره؛ ذلك أنه لو كان صدور الأثر انبثاقًا طبيعيًّا من سببه لَوجب أن يكون وجوده مجرد امتداد لهذا السبب، ولوجب إِذن أن يشبهه في كل شيء، حتى إِن أدنى اختلاف بينهما في الطبيعة، أو الكم، أو الكيف، يُصبح مجالًا لسؤال جديد لا يحير التفسير الطبيعي له جوابًا.
 
بل إِن مجرد اختلافهما في الزمان أو المكان يجعلنا نتساءل: لِمَ كان هذا قبل، وذاك بعد؟ أو لِمَ كان أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال؟ … فإِذا جرينا إِلى نهاية الشوط، وجب أن يئول الكون أمامنا إِلى وحدة لا تعدد فيها، أو إِلى نقطة لا امتداد لها، وأن تُمحى من أذهاننا فكرة الغيرية، ولا يبقى فيها إِلا مبدأ العينية … لكن الفكر نفسه لا حياة له إِلا في التعدد والاختلاف؛ إِذ هو حركة بين حدَّين أو جملة حدود، يصل بينها أو يفصل …

هكذا تُوقعنا التفسيرات الطبيعية بين نارين: فهي إِما أن تقف بنا معترفة بعجزها وإِفلاسها وتتركنا ظمأى لا تنقع لنا غلة؛ وإِما أن تسعى إِلى الوفاء والكمال حتى تفضي بنا إِلى الإِحالة والخلف، ألا وإِنه لا مخرج للعقل من هذا الخلف والتناقض، ولا سبيل في الوقت نفسه إِلى شفاء النفس من هذا العي إِلا بتجاوز تلك التفسيرات الآلية الخالصة، والتماس سبب إِرادي مفحم، تكون له الحريةُ في اختيار هذا التفاوت بين الأسباب ومسبباتها.
 
وهكذا تلتقي العلوم العقلية والطبيعية — العملية منها والنظرية — على الاعتراف بأنها في استقصاء البحث عن أصول الأشياء ومبادئها تنتهي دائمًا بالانتصار لقضية الغيب، وتفسح بيدها المجال لبقاء الأديان وخلودها.
 
على أن العلوم في هذا الاتجاه الذي وصفناه إِنما تعمد إِلى أحد طرفي المحور مستدبرة طرفه الآخر؛ وإِنما تحاول إِرضاء نصف حاجة العقل، مهملة نصفها الثاني؛ ذلك أن النفس الإِنسانية ليس يشفيها في تفهمها للأشياء أن تصعد إِلى أسبابها ومقدماتها، بل لا بد لها بعد ذلك من أن تنحدر معها إِلى غايتها ونهاياتها، وتستفسر عن مقاصدها وأهدافها.
 
فليس يكفيك لكي تحيط بالشيء خبرًا أن تعرف نشأته دون أن تعرف مصيره، ولا أن تعرف كيف كان؟ دون أن تعرف لِمَ كان؟ أليست هذه المطالبة النفسية الحثيثة دليلًا على ما هو مركوز في الجبلة من الاقتناع بأن الحوادث الكونية تسير على خُطة مرسومة، وأن القوة المدبرة للأشياء تهدف منها إِلى غاية معينة، أو أنها لا تسير بمحض المصادفة العمياء والاتفاق التحكُّمي؟
 
فانظر الآن موقف العلوم الحديثة من هذه الضرورة العقلية التي تُلِحُّ علينا في السؤال عن غايات الأشياء ومقاصدها:
 
لقد أتى على هذه العلوم زمنٌ أعلنت فيه أنها نفضت يدها من هذا البحث، وأنها أوصدت دونه بابها، مدعيةً أنه إِنما يعنيها اكتشافُ علاقة السببية بين الظواهر، ومعرفة اطرادها على نسق معين؛ وليس يعنيها، بل ليس يدخل تحت قدرتها، أن تتبين: أهذا الارتباط مقصود لغاية؟ ولا ما هي تلك الغاية؟
 
وهكذا شهدت هذه العلوم على نفسها بادئ ذي بدء بأنها لن تفي بحاجات العقول، ولن تؤدي رسالة المعرفة كاملة؛ إِذ أزمعت أن تقف منها في منتصف الطريق، على أنها لم تكن لتدوم طويلًا على هذا الموقف المحايد؛ فإِن العالم الطبيعي لا يستطيع بما هو إِنسان أن يهمل هذا الجانب من مطالبه العقلية، ولذلك نراه كلما وصل به العلم إِلى مجموعة من الظواهر المتساندة التي يخدم بعضها بعضًا والتي يقع كل منها في موضعه الذي كان لا بد منه للحصول على فائدة معينة؛ يعود قهرًا عنه إِلى البحث في العلل الغائبة من غير أن يسميها باسمها، فيسأل عن كل خلية في العضو، وعمل كل عضو في الجهاز، وعمل كل جهاز في الجسم … إِلخ.


ويُسمي هذه الأعمال بالوظائف، بدلًا من اسم الغايات والمقاصد، وهو — كما ترى — بُرقع شفاف لا يكاد يستر ما وراءه، والمهم عندنا ليس هو الأسماء، وإِنما هو تلك الحقائق التي يعترف بها اعترافًا عمليًّا صامتًا، والأهمُّ من ذلك هو أن هذا العلم كلما جد في سيره لا يلبث أن يُجاوز بضع خطوات حتى يقف عجزًا واعترافًا بأن أمامه ستارًا كثيفًا يحول دون منظر الغايات القصوى، والنهايات الأخيرة، التي لا يزال يتشوف إِليها ولا يدركها.

 

(٦) الاعترافات العلمية

 

وبعدُ، فأي شيء أكبر شهادة على أن نهاية العلم البشري ليست هي إِطفاء غريزة التدين، بل زيادة إِشعالها، من أن مؤسس الفلسفة الواقعية وكبار أنصارها قد انتهوا إِلى الاعتراف صراحةً أو ضمنًا بهذه الحقيقة، بناء على تجربتهم في أنفسهم، فهذا كونت A’Comte الذي كان يتنبأ بأن فناء الديانات سيكون هو النهاية الحتمية لتقدم العلوم، قد عاد في آخر أمره متصوفًا عجيبًا، وكلل حياته بوضع ديانة جديدة، طبعها على غرار النظام الكنسي للديانة الكاثوليكية: في عقائدها، وطقوسها، وأعيادها، وطبقات قساوستها … رواية كاملة أعاد فصولها، ولم يُغير إِلا أشخاصها.

وهذا سبنسر R. Spencer ينتهي بأن يقول عن «المجهول»: إِنه «تلك القوة التي لا تخضع لشيء في العقول؛ بل هي مبدأ كل معقول، هي المنبع الذي يفيض عنه كل شيء في الوجود.» أليس هذا «المجهول» هو بعينه موضوع الديانات، يجيئنا الآن باسم آخر على لسان العلم؟

وما أجمل الصفحة التي كتبها ليتريه Littre يصف نفسه حين كانت خاتمة مطافه في العلوم الواقعية أن رأى نفسه محوطًا من كل جانب ببحر لُجِّيٍّ من الأسرار الغامضة، وهو لا يملك سفينة يخوض بها لُجته، وليس معه إِبرة يتعرف بها وجهة سفره … تُرى كيف كان موقفه بإِزاء هذا المحيط الرهيب؟

أتراه وقف أمامه وقفة الشاعر الهائم، أو وقفة العاشق المتدلِّه؟ كَلَّا، ولكن وقفة الناسك، الخاشع، المتأله. (1)

 


 

الإشارات المرجعية

  1. Voir Sabatier, Esquisse d’une Philosophie de la Religion, p. 11-12

 

المصدر:

  1. د. محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص85
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الديانات #التقدم-العلمي
اقرأ أيضا
أصول الانحراف الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أصول الانحراف الدرس الأول ج1


سلسلة ماتعة للدكتور أحمد عبد المنعم تدور حول أصول الضلال أو أصول الانحراف من خلال أصول الوحي نريد أن نتكلم عن الضلال الذي وقع فيه كثير من الناس فالضلال وقع فيه كثير من الناس لماذا ما هي الأصول التي حذر منها القرآن والتي لو وقع فيها الإنسان -في هذه الأصول- ينحرف والعياذ بالله

بقلم: أحمد عبد المنعم
387
دور محمد علي الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

دور محمد علي الجزء الثاني


لقد لعب محمد علي دورا بارزا في إحكام السيطرة على الحالة الإسلامية في مصر وفي العالم الإسلامي بشكل عام عندما استطاعت فرنسا أن تحتويه وتوفر له كل الإمدادات اللازمة حتى يحقق أهدافها في بلادنا وكان على رأس هذه الأهداف الانفصال عن الدولة العثمانية والمساهمة في إضعافها بشتى الطرق والهدف الهام الثاني هو بداية التغريب وسحق الروح الإسلامية المتبقية وفي هذا المقال يقف بنا المؤلف على محاور هذا الموضوع كلها وما يتفرع عنها وما نتعلمه منها من دروس الهدف هنا أن ندرك ما حدث في بلادنا حتى نفهم كيف وصلنا إلى...

بقلم: محمد قطب
1978
الكتاب المعجز الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين

الكتاب المعجز الجزء الثاني


ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنشائه لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المدون في كتب السنة والحديث ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلا فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلاهما كلام بليغ لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده

بقلم: د منقذ السقار
696
أسس المعرفة وأركانها | مرابط
تعزيز اليقين

أسس المعرفة وأركانها


وأول ما ينبغي النظر فيه معرفة الله تعالى بالدليل ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة والأرض موضوعة وشاهد الأبنية المحكمة خصوصا جسد نفسه علم أن لا بد حينئذ للصنعة من صانع وللمبني من بان. ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وأكبر الدلائل القرءان الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. فإذا ثبت عنده وجود الخالق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجب تسليم عنانه إلى الشرع فمتى لم يفعل دل على خلل في اعتقاده.

بقلم: ابن الجوزي
379
الارتباط بالله | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

الارتباط بالله


قد تظل الأمة سليمة من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس فيتعذر على الشخص العادي أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات أن يصدق أن تحلله هو وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره

بقلم: محمد قطب
2676
القدر والأسباب | مرابط
تعزيز اليقين اقتباسات وقطوف

القدر والأسباب


الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها وبين يديكم مقتطف سريع لابن عثيمين يدور حول هذه المسألة

بقلم: ابن عثيمين
377