مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج2 | مرابط

الكاتب: القاضي عياض

2050 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

قال القاضي: فنهضنا إلى موضع أُعدّ لنا..

وذكر أبو بكر البغدادي الحافظ: أن القاضي، لما وصل إلى مدينة الطاغية، وعرّف به وبمحله من العلم، فكر الطاغية في أمره، وعلم أنه لا يكفر له إذا دخل عليه- كما جرى رسم الرعية أن يقبل الأرض بين يدي ملوكها- فرأى أن يضع سريره، وراء باب لطيف، لا يمكن أن يدخل أحد منه إلا راكعًا، ليدخل القاضي من ذلك الباب.

فلما رآه القاضي، تفكّر وأدار رأسه، وحنى رأسه راكعًا، ودخل من الباب يمشي مستقبلًا الملك بدبره، حتى صار بين يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه.

قال غيره: قال القاضي: فلما كان يوم الأحد، بعث الملك في طلبي، وقال: من شأن الرسول حضور مائدة الملك. فنحب أن تجيب إلى طعامنا ولا تنقض كل رسومنا.

فقلت لرسوله: أنا من علماء المسلمين، ولست كالرسل من الجند وغيرهم، الذين لا يعرفون ما يجب عليهم في هذا الموطن. والملك يعلم أن العلماء لا يقدرون أن يدخلوا هذه الأشياء، وهم يعلمون، وأخشى أن يكون على مائدته من لحوم الخنازير، وما حرمه الله تعالى على رسوله، وعلى المسلمين؟

فذهب الترجمان، وعاد إليّ وقال: يقول لك الملك: ليس على مائدتي، ولا في طعامي شيء تكرهه. وقد استحسنت ما أتيت به، وما أنت عندنا كسائر الرسل، بل أعظم، وما كرهت من لحوم الخنزير، إنما هو خارج من حضرتي بيني وبينه حجاب.

فنهضت على كل حال. وجلست وقدّم الطعام، ومددت يدي وأوهمت الأكل، ولم آكل منه شيئًا مع أني لم أرَ على مائدته ما يكره. فلما فرغ من الطعام، بخّر المجلس وعطّره، ثم قال: هذا الذي تدعونه في معجزات نبيّكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟

قلت: هو صحيح عندنا، وانشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأى الناس ذلك. وإنما رآه الحضور، ومن اتفق نظره إليه في تلك الحال.

فقال الملك: وكيف لم يره جميع الناس؟

قلت: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعد لشقوقه وحضوره.

فقال: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة وقرابة؟ لأي شيء لم تعرفه الروم وغيرها من سائر الناس، وإنما رأيتموه أنتم خاصة؟

قلت: فهذه المائدة بينكم وبينها نسبة؟ وأنتم رأيتموها دون اليهود، والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد، وخاصة يونان جيرانكم، فإنهم كلهم منكرون لهذا الشأن، وأنتم رأيتموها دون غيركم.

فتحيّر الملك وقال بكلامه: سبحان الله، وأمر بإحضار فلان القسيس ليكلمني.

وقال: نحن لا نطيقه. لأن صاحبه قال: ما في مملكتي مثله، ولا للمسلمين في عصره مثله.

فلم أشعر إذ جاؤوا برجل كالذئب أشقر الشعر مسبله، فقعد، وحكيت له المسألة فقال: الذي قاله المسلم لازم، هو الحق لا أعرف له جوابًا إلا ما ذكره.

فقلت له: أتقول إن الكسوف إذا كان، يراه جميع أهل الأرض أم يراه أهل الإقليم الذي بمحاذاته؟

قال: لا يراه إلا من كان في محاذاته.

قلت: فما أنكرت من انشقاق القمر، إذا كان في ناحية لا يراه إلا أهل تلك الناحية، ومن تأهب للنظر له؟ فأما من أعرض عنه، وكان في الأمكنة التي لا يرى القمر منها فلا يراه.

فقال: هو كما قلت. ما يدفعك عنه دافع. وإنما الكلام في الرواة الذين نقلوه. وأما الطعن في غير هذا الوجه، فليس بصحيح.

فقال الملك: وكيف يطعن في النقلة؟

فقال النصراني: شبه هذا من الآيات، إذا صح، وجب أن ينقله الجم الغفير، إلى الجم الغفير، حتى يتصل بنا العلم الضروري به، ولو كان كذلك، لوقع إلينا العلم الضروري به. فلما لم يقع لنا العلم الضروري به، دلّ أن الخبر مفتعل باطل.

فالتفت الملك إليّ وقال: الجواب.

قلت: يلزمه في نزول المائدة، ما يلزمني في انشقاق القمر، ويقال له لو كان نزول المائدة صحيحًا، لوجب أن ينقله العدد الكثير، فلا يبقى يهودي ولا نصراني ولا ثنوي إلا ويعلم هذا بالضرورة. ولما لم يعلموا ذلك بالضرورة، دلّ أن الخبر كذب.

فبهت النصراني والملك، ومن ضمه المجلس. وانفض المجلس على هذا يديه. ثم رفع رأسه، ونصب ظهره. ثم أدار وجهه إلى الملك حينئذ، فعجب من فطنته، ووقعت له الهيبة في قلبه.

 


 

المصدر:

  1. القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 486/1
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
تراجع الخيرية | مرابط
مقالات

تراجع الخيرية


من تأمل في تراجع الخيرية في قرون الإسلام الأولى علم أنه كلما ابتعد الناس عن نور النبوة الأولى والتربية النبوية الأخروية فإنه يحصل لبعض المنحرفين في المجتمع الإسلامي من الانبهار بالثقافات المجاورة مالا يحصل لسابقيهم وهذا كله بسبب ما نقص في قلوبهم من تعظيم الآخرة عمن سبقهم وما دخل القلوب من التثاقل الى الأرض.

بقلم: إبراهيم السكران
249
الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة | مرابط
اقتباسات وقطوف

الأصل.. بين أهل السنة وأهل البدعة


واعلم أن الخطة الفاصلة بيننا وبين كل مخالف أننا نجعل أصل مذهبنا الكتاب والسنة ونستخرج ما نستخرج منهما ونبنى ما سواهما عليهما ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا بل نطلب المعانى فإن وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة أخذنا بذلك وحمدنا الله تعالى على ذلك وأن زاغ بنا زائغ ضعفنا عن سواء صراط السنة ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان وبركت الجدد اتهمنا آراءنا فرجعنا بالآية على نفوسنا واعترفنا بالعجز

بقلم: الإمام السمعاني
403
والله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب تلك الحفرة | مرابط
تفريغات

والله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب تلك الحفرة


كان عند ابن مسعود أمنية تمناها وعاش من أجلها وحققها بإذن الله وقبل أن أذكر الأمنية أريد أن تسأل نفسك أنت: ما هي الأمنية التي تتمناها وكن صادقا مع نفسك فلقد تمنى ابن مسعود أمرا فناله وحققه بإذن الله وأنا أريدك أن تسأل نفسك الآن: ما هي الأمنية التي تتمناها

بقلم: خالد الراشد
482
أثر الإيمان في بناء الأمم ج3 | مرابط
تفريغات

أثر الإيمان في بناء الأمم ج3


محاضرة هامة عن عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم ولماذا تنهار أمم وشعوب ولماذا تبقى غيرها فالأمر يحتاج إلى وقت طويل ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا

بقلم: د سفر الحوالي
489
الباطل على درجات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الباطل على درجات


مقتطفات متفرقة لشيخ الإسلام ابن تيمية يبين فيها أن الباطل على درجات متفاوتة فبعض الفرض لديها من الباطل أقل من غيرها ويقاس ذلك بحسب قربهم أو بعدهم عن الحق فمثلا اليهودي أو النصراني أفضل من الملحد الذي لا يؤمن بإله وهكذا كلما اقترب السلم من الحق كلما كان أفضل فهناك باطل خير من باطل آخر وهناك باطل شر من باطل آخر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1812
أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب


لقد بلغت الأنانية وعبادة الذات وحب الاستمتاع بالشهوات والتمرد على الطبيعة ورفض المسؤولية والتهرب منها والانحراف عن الفطرة والتفسير السقيم بالحركة الأنثوية الراديكالية إلى درجة رفض الأمومة والإنجاب كخطوة لاحقة لرفض الأسرة والزواج زعيمة الأنثوية الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار تسمي هذا الواجب بعبودية التناسل وكأن الأولاد للأب فقط ولا علاقة لهم بالأم

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
3414