الحفظ كغيره من المهارات البشرية كالتفكير والتأمل والتحليل والنقد والكتابة والإلقاء والجدل الخ، وهذه المهارات كلها لها لياقة تزيد بالمران وتضمر بالعطالة.
فمن كان يكتب البحوث المسهبة إذا تركها زمنًا استثقل لاحقًا كتابة مقالة قصيرة، ومن كان ينشئ القصائد الطوال إذا تركها زمنًا تكاءدت عليه أبيات الإخوانيات والمفاكهة، ومن ترك التأمل والتدبر والاجتهاد في التحليل والربط إذا هجر ذلك يصبح شديد النفور من مناقشات الكلام العلمي الدقيق، حتى تراه أحيانًا لا يقف الأمر عنده على صعوبة الفهم بل يكاد يصرف نفسه عن السماع لشدة الوطأة.
ولذلك راج في كلام العلماء قولهم "المزاولات تثمر الملكات".
وهكذا "قدرة الحفظ" لها لياقة تنمو بالمراس والمران والدربة والمزاولة، ومعيار اللياقة أمران: أن تزيد كفاءة وفعالية المهارة، وأن تثمر المهارة نتائجها دون مشقّة وتعب مفرط. وهذان يحصلان كما سبق بكثرة التمرين واستمراره.
وإذا كان الجهد المبذول في الحفظ منظّمًا، بأن يكون له مقدار يومي محدد يزيد تدريجيًا بنسبة طفيفة، ووقت يومي محدد، وصبر ومصابرة على "الانتظام"؛ فإنه يثمر في وقت قصير نتائج مبهرة.
وأشد الأمور في بناء اللياقة الذهنية عمومًا ليس هو بذل الجهد في آحاد الأوقات، بل الصبر على "الانتظام" والدأب اليومي على هذا الأمر.
وأكثر عمل شُداة العلم هو الإفراط في الحفظ أسبوعًا ونحوه، ثم هجر ذلك، ثم إذا سمع أو قرأ ما يبعث همته للحفظ عاد لمثل ذلك ثم انطفأ، وهذا لا يبني لياقة الحفظ البتة، بل يتسبب في ترهل ونحول مهارة الحفظ.
وهذا الكلام باعتبار جنس قدرة الحفظ بصورة عامة، مع عدم إغفال مسألة تفاوت الإمكانات والقدرات الفردية، وكما قال العلماء "الناس يتفاوتون في قوى الأذهان كما يتفاوتون في قوى الأبدان".
والله أعلم،،