موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1

موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج1 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

2073 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

لعل الصحابي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يعد من أكثر الشخصيات الإسلامية التي دار حولها الجدل في التاريخ.
 
فقد اختلفت فيه المواقف وقامت حول تقييم شخصيته معارك فكرية طاحنة، وزاغ فيه طرفان: طرف غلا في حبه والانتصار له، وطرف غلا في بغضه وكرهه والتحذير منه، بل وصل إلى الحكم عليه بالكفر والنفاق!!
 
وهذان الطرفان وجدا منذ زمن مبكر في التاريخ الإسلامي، وفي وصف حالة الصراع بين هذين الطريقين يقول المؤرخ الذهبي في كلام هادئ ومتعقل: "وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك.
 
وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي رضي الله عنه، ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه، وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع
"(1).
 
وبلغ الحال بالأطراف الغالية في معاوية إلى درجة أن كل طرف حاول أن يضع أحاديث على لسان النبي صلى الله عليه السلام يقوي بها موقفه، ولكن هذه العملية الدنية لم تنطلِّ على علماء الحديث فتنبهوا لها وحذروا منها، وكشفوا عن حقيقتها، ومحصوا الحديث الصحيح من الضعيف مما روي في شأن معاوية رضي الله عنه.
 
وفي التنبيه على ذلك يقول ابن الجوزي: "قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح"(2).
 
وتوسعت موجة التزييف المتعلقة بمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- فشملت كتب التاريخ والآثار والقصص والأدب، فالقارئ لهذه الكتب يجد أمامه كمًا هائلًا من الأخبار المنقولة عن معاوية إما مدحًا فيه وإطراءً من قِبَل الغالين في حبه، وإما ذمًا فيه وتقبيحًا له من قِبَل الغالين في بغضه.

 

الواجبات المنهجية في مثل هذا الحال:


وفي مثل هذه الحال يتحتم على الباحث الصادق مع نفسه ومع فكره أن يتصف بقدر كبير من الهدوء النفسي، وأن يلتزم بترسانة صلبة من الأصول العقلية والمنهجية؛ حتى لا يقع في التناقض أو الانتقاء أو الاختزال، وكل هذه الأمور مخالف للمنهجية العلمية الصحيحة.
 
ومن أهم ما يجب على الباحث الالتزام به هو أن يدخل إلى البحث بنفسية (الاحتياط الشديد)، التي تجعله لا يقبل أية فكرة إلا بعد التأكد من صحتها في ذاتها والتيقن من فهمه لمدلولها السياقي والتاريخي؛ حتى يتمكن من الخروج برؤية واضحة ومتوافقة مع حال الشخص المختلف فيه. ولا يصح عقلًا ولا منهجًا أن يتساهل الباحث في اتخاذ الموقف من غير أن يحقق الاحتياط ويتأكد من كل بياناته.
 
وهذا الحكم ليس خاصًا بمعاوية بن أبي سفيان، بل هو قاعدة ومبدأ علمي يطبق على كل إنسان ولو كان من غير المسلمين، فإنه لا يصح في العقل ولا في المنهج العلمي الصلب أن يتخذ الباحث موقفًا من أرسطو مثلًا -وهو من الشخصيات التي دار حولها جدل كثير-، ولا من مارتن لوثر -وهو أيضًا ممن احتدمت المواقف حوله- إلا بعد أن يحتاط في بحثه ويتأكد من صحة الخبر الذي اعتمد عليه ومن صحة فهمه لكل البيانات المنقولة، حتى يتمكن من بناء الموقف العادل.
 
ومع كون هذه القاعدة عامة في كل الناس، إلا أن أهميتها تزداد، ويقوى وجوب الأخذ بها إذا تعلق الأمر بالصحابة -رضي الله عنهم-؛ لما لهم من الشرف والمكانة واللقيا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والعيش معه، فهناك نصوص وأدلة عقلية وحالية وتاريخية تدل على أن الأصل فيهم العدالة والصدق والأمانة وقوة اليقين، وقد فصلت ذلك في بحث منشور في عدد من المواقع الإلكترونية بعنوان (المدخل المنهجي للتعامل مع جيل الصحابة).
 
ولأجل تلك الثناءات الشرعية والمعطيات العقلية والتاريخية كان للصحابة قدر كبير في نفوس المؤمنين ولهم من الحب والتقدير والاحترام شيء كبير جدًا، وتعامل المسلمون معهم بقاعدة حسن الظن والسلامة من القوادح إلا بدليل قوي وظاهر، ولهذا كانت ساحة الصحابة خطرة جدًا، ولا يجوز أن يخوض فيها المسلم بغير علم وعدل واحتياط وتأكد وتريث وسلامة صدر.
 
وهذه المعطيات هي أحد المرتكزات التي أقام عليها علماء أهل السنة رأيهم في الأمر بالكف عما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- من خلاف، فرأيهم ذلك لم يكن مجردًا من الحجج الداعمة ولا خاليًا من المؤكدات، إنما هو منسجم مع الدلالات الشرعية والتاريخية والعقلية الدالة على فضل الصحابة وعلو شأنهم وسلامة حالهم.
 
والتقرير السابق يؤكد على أن الاحتياط والتأكد في شأن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يجب أن يكون أقوى وأعلى؛ لأنه أولًا من الصحابة -رضي الله عنهم-، ولأن الخلاف محتدم حوله، وهذا يتطلب قدرًا زائدًا من الاحتياط الشديد.
 
ولكن هناك من لم يلتزم بقاعدة الاحتياط الشديد في التعامل مع الصحابي معاوية -رضي الله عنه-، فأخذ يتساهل إما في الثبوت أو في الفهم، واعتمد على قصص وأخبار منقولة في ذم معاوية وبنى عليها أحكامًا جائرة.
 
ومن أمثلة ذلك: القول بأن معاوية كان يبيع الأصنام للهند في زمن عثمان -رضي الله عنه-، والقول بأن معاوية كان يشرب الخمر، وغيرها من التهم، بحجة أن هذه الأخبار رواها عدد من العلماء في مؤلفاتهم الحديثية أو التاريخية.
 
وكلنا يعرف أنه ليس كل ما ذُكر في كتب التاريخ والأخبار صحيحًا مقبولًا، بل فيها من الضعيف والباطل الشيء الكثير، وفضلًا عن ذلك فإنا لو قمنا بفحص تلك الأخبار المنقولة في ذم معاوية فإننا سنكتشف أنها أخبار باطلة في أسانيدها وفيها من العلل الحديثية ما يدل على بطلانها(3)، فضلا عما فيها من مخالفة للأحاديث الصحيحة التي ثبتت في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فضلًا عما يخالفها من الأدلة العقلية التي سيأتي ذكرها في أثناء البحث.
 
وهذا التساهل سيؤدي بنا إلى نتائج باطلة مخالفة للمنهجية العلمية؛ لأن ذلك التساهل سيفتح الباب أمام من يغلو في معاوية ليستدل بالأخبار الضعيفة على إثبات فضائل لا تثبت له، وهذا أمر غير مقبول؛ لأنه كما أنه لا يصح التساهل في إثبات القوادح في الشخص المختلف في حاله فإنه لا يصح التساهل أيضًا في إثبات الفضائل له.
 
ويفتح الباب أمام من يبغض علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة ليستدل بأخبار وآثار ضعيفة وغير محققة ليقدح بها في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
 
والطريقة المنهجية الصحيحة هي أن نلتزم بالاحتياط الشديد في كل ما يتعلق بالصحابة -رضي الله عنهم- وخاصة من وقع الجدل والاختلاف في حالهم، فلا نثبت لهم من الفضائل إلا ما هو مُتَحقق من صحته وثبوته، ولا نثبت لهم من الذم إلا ما هو مُتَحقق من ثبوته.
 
وهذا كله يدل على أن الخلل والمشكلة عند المتساهلين والمغالين في ذم معاوية -رضي الله عنه- ليست في الأمثلة الفردية التي يسوقونها، وإنما في منهجية التفكير لديهم وفي أصول المنهجية الخاطئة فنحن لا نحتاج في تاريخ معاوية إلى مزيد تفصيل، ولا إطناب في سوق الأخبار وإنما نحتاج إلى تصحيح الموازين في بناء المواقف وإلى بيان المداخل التي يؤتى من قِبَلها أحكام الناس على الحوادث والرجال فنصاب بالخلل والاضطراب والظلم والجور.

 

كيف نبني موقفًا عادلًا من معاوية -رضي الله عنه-؟!


يتميز جيل الصحابة -رضي الله عنهم- بخاصية لا توجد لغيرهم، وهي أنهم عاشروا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعاشوا معه والتقوا به وتحدثوا إليه وتحدث إليهم وسافر معهم وسافروا معه وارتبطوا به بعلاقات عديدة، سواء من آمن قبل الفتح منهم أو بعده، وهذا الحال التعايشي يستلزم بالضرورة أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- مواقف وأحكام ومشاهد تتعلق بمن عاش معه.
 
ولهذا فإن أفضل طريق وأسلم سبيل وأتقن مسلك لبناء موقف عادل عن الصحابة هو الرجوع إلى ما جاء في نصوص الشرع المطهر عنهم، فإنه سيكون بلا شك أصدق برهان وأعلى بيان.
 
وليس هناك من شك في أن معاوية بن أبي سفيان جاءت في شأنه أخبار عديدة تدل على فضله ومنقبته، ومن ذلك: كونه كان كاتبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-(4)، ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن معاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا»(5)، ومن ذلك: حديث أم حرام بنت ملحان قالت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا»، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم». ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم»، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال: «لا»(6).
 
فهذه النصوص الصحيحة وغيرها استنبط منها علماء أهل السنة عددًا من مناقب معاوية وفضائله، وشرحوا ذلك في مؤلفاتهم الحديثية والعقدية.
 
ومن الطرق العميقة والمتقنة التي تساعد على بناء المواقف العادلة من الأشخاص: البحث في مواقف أصحابه وأقرانه ومن عاشوا معه وخبروا حاله، وتزداد أهمية هذا الطريق إذا كان الأصحاب هم الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم الأتقى قلوبًا والأزكى نفوسًا والأعلم بدين الله والأكرم أخلاقًا والأحرص على شريعة الله والأشجع في بيان الحق والكشف عن الباطل، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فمواقفهم من الأشخاص ستكون بالضرورة هي الأعدل والأصح والأكمل.
 
وبالتالي فإن من أفضل الطرق في معرفة حال معاوية -رضي الله عنه- هو أن نتعرف على مواقف الصحابة منه.


فما هي مواقف الصحابة من معاوية؟


إذا رجعنا إلى مواقف الصحابة الصحيحة نجدها تدل على فضل معاوية وكرمه وحسن سيرته وتكشف عن رضاهم عنه وعن ولايته، وتدل على نقيض ما ينسبه إليه الغالون المبغضون له من الكفر والنفاق والفسق والخداع.
 
 فعمر بن الخطاب ولى معاوية خلفًا لأخيه يزيد بعد موته على الشام، وهو آنذاك ثغر من ثغور المسلمين(7).
 
وقد بين عمر بن الخطاب منزلة أمرائه على الأمصار قبيل وفاته فقال: "اللهم إنِّي أُشهدك على أمراء الأمصار، وإنِّي إنَّما بعثتُهُم عليهم لِيَعدلوا عليهم، ولِيُعلِّموا الناسَ دينَهم وسُنَّةَ نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم-، ويَقسموا فيهم فَيْئَهُم، ويَرفَعوا إلَيَّ ما أشكلَ عليهم مِن أَمرِهم"(8).
 
فقد وثق عمر في معاوية ورضيه واليًا على ثغر من ثغور المسلمين، فلو كان معاوية كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا أو غير مأمون الديانة، فهل يقبل به عمر أميرًا له على المسلمين، فإذا كان عمر لم يرض بكافر أن يكون كاتبًا عند بعض أمرائه فكيف يولي من هو كافر منافق ؟!
 
وقد توقف عدد من العلماء عند موقف عمر هذا، وعدوه دليلًا ظاهرًا على إيمان معاوية وحسن سيرته، وفي هذا يقول الذهبي: "حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم -وهو ثغر- فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك"(9).
 
ويكشف ابن تيمية عن دلالة فعل عمر بكلام مطول فيقول:

 

"لما مات يزيد بن أبى سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم بالحق، وأعلمهم به... ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقًا، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم، بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبى وقاص وهو أمير العراق: لا تستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم في الحرب، فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدي والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندي وأمثالهم، فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين، فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين"(10).
 

وأما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فإن مواقفه الصحيحة تدل على أنه لا يحكم على معاوية بالكفر والنفاق، بل يعده مسلمًا عدلًا، وتدل على أنه حفظ لمعاوية صحبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- واعتبر له اجتهاده، فقد دارت بينه وبين معاوية حرب ضارية دامت خمس سنوات، أزهقت فيها أنفس كثير من المسلمين وأهلكت فيها أموالهم، فلو كان علي يعرف من معاوية كفرًا أو نفاقًا أو فسقًا أو استخفافًا بالدين أو عدم مبالاةً به أو بيعًا للأصنام أو شربًا للخمر لذكره وكشفه للناس وبينه لهم حتى ينصرف الناس عن القتال والحرب، ويقي بذلك دماء المسلمين، ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك.
 
بل ثبت عنه أنه قال: "قتلاي وقتلى معاوية في الجنة"(11)، وكان يدعو لأهل الشام بالمغفرة.
 
ولو قارنا بين حال علي -رضي الله عنه- مع الخوارج وبين حاله مع معاوية وأهل الشام لوجدنا في ذلك دليلًا قويًا على حسن موقفه من معاوية، فإن عليًا كان فرحًا بقتاله للخوارج وكان يحدث الناس بالأحاديث التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في شأنهم ويقسم لهم بذلك؛ لأنه يرى أن قتاله معهم مشروع مع أنه لم يكن يكفرهم، ولكنه في قتاله مع أهل الشام لم يكن كذلك، ولم يظهر الفرح بذلك بل كان مترددًا نادمًا حزينًا على ما أهرق فيها من دماء المسلمين(12)، ولم يوافقه على قتاله معهم كثير من الصحابة واعتزلوا الفتنة.
 
فلو كان معاوية كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا، فلماذا لم يكن علي فرحًا بقتاله، ولماذا لم يشارك كثير من كبار الصحابة في القتال؟! هل يعقل أن تقوم حرب بين مسلم وكافر ثم لا يشارك الصحابة مع المسلم في قتال الكافر؟!!
 
وإذا انتقلنا إلى موقف الحسن بن علي -رضي الله عنه- نجده كذلك يدل على ما يدل عليه صنيع أبيه، فإنه تنازل لمعاوية عن الحكم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثنى على هذا الصنيع وبشر به، فقال: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(13).
 
وقد وافق الحسن من كان معه من الصحابة كأخيه الحسين وغيره، وفي بيان هذا يقول الأوزاعي: "أدركتْ خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم: سعد وأسامة وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان -إن شاء الله- منهم: المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسعيد بن المسيَّب وعروة بن الزبير وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم لم ينزعوا يدًا عن مجامعة في أمة محمد"(14).
 
 فلوا كان معاوية كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا كيف يصح للحسن وللصحابة معه أن يتنازلوا بالولاية له؟!!، وكيف يمتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنيع؟!!، وكيف لهؤلاء الجلة من الصحابة والتابعين أن يتواردوا على السكوت عن الكفر والنفاق والفسق؟!!
 
 وأما ابن عباس -رضي الله عنهما-، فقد قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ فقال -رضي الله عنه-: "إنه فقيه"(15)، وكان يقول عن معاوية: "ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية"(16).
 
فها هو ابن عباس وهو من آل البيت وممن كان مع علي، يصف معاوية بتلك الأوصاف، فهل من المقبول عقلًا أن يقول هذا القول في رجل يراه كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا؟!
 
والذي يستقرئ حال مجمل الصحابة ومواقفهم من معاوية قبل ملكه وبعده يجد أنها تسير على وتيرة واحدة، وأنه كان يسود بينهم حالة من الرضا والقبول لدينه وحكمه.
 
وقد مدحه عدد من أجلة الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وعائشة -رضي الله عنهم-، وأخبارهم في هذا صحيحة مشهورة فهل من المقبول عقلا أن يتوارد كل هؤلاء الصحابة على كتمان العلم وبيان حال معاوية لو كان عنده ما يقدح في دينه وأمانته؟!
 
بل روى ابن سعد عن أم علقمة أنها قالت: قَدِمَ معاويةُ بن أبي سفيانَ المدينة، فأرسلَ إلى عائشةَ: أن أَرْسِلي إليَّ بأنبجانيَّة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وشَعْرِه، فأَرْسَلَتْ به معي، حتى دخلْتُ به عليه، فأخذَ الأنبجانيةَ فَلَبسَها، وأخذَ شَعْرَه فدعا بماء فَغَسلَه، فشَرِبَه وأفاضَ على جِلْدِه"(17).
 
 
فلو كان معاوية كافرًا أو منافقًا لما أرسلت إليه عائشة أنبجانية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما امتنعت من ذلك.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. سير أعلام النبلاء، الذهبي [3/128].
  2. الموضوعات، ابن الجوزي [2/249].
  3. انظر في إثبات ضعف هذه الأخبار: سل السنان في الذب عن معاوية ابن أبي سفيان، سعد السيبعي [197] -نسخة الالكترونية-.
  4. كون معاوية كان كاتبًا للنبي عليه السلام أخرجه: مسلم [2501].
  5. أخرجه: أحمد في المسند [17929]، والترمذي في السنن [3843] وابن سعد في الطبقات [7/417]، والآجري في الشريعة [1914]، وصححه عدد من العلماء.
  6. أخرجه: البخاري [2766].
  7. انظر: البداية والنهاية، ابن كثير [11/399] و سير أعلام النبلاء، الذهبي [3/132].
  8. أخرجه: مسلم [567].
  9. سير أعلام النبلاء، الذهبي [3/132].
  10. مجموع الفتاوى، ابن تيمية [35/65].
  11. أخرجه: ابن أبي شيبة [15/303]، وسنده صحيح.
  12. انظر خبر ذلك في: مصنف ابن أبي شيبة [39007].
  13. أخرجه: البخاري [2704].
  14. نقله أبو زرعة الرازي في تاريخه [1/189].
  15. أخرجه: البخاري [3765].
  16. أخرجه: معمر في جامعه المطبوع مع مصنف عبدالرزاق [20985]، وإسناده صحيح.
  17. الطبقات الكبرى، ابن سعد [1/112]، وسنده لا بأس به.

 

المصدر:

  1. http://iswy.co/e121dd
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
أول من ابتنى دارا للعدل | مرابط
تاريخ اقتباسات وقطوف

أول من ابتنى دارا للعدل


ونور الدين هو أول من ابتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين وقيل: أربع مرات وقيل: خمس ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوي والضعيف فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه فيكشف المظالم وينصف المظلوم من الظالم

بقلم: ابن الأثير
449
التغريب: الأهداف والأساليب ج4 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج4


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
2286
مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط
فكر مقالات الديمقراطية

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1


من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقا إسلاميا شرعيا وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم

بقلم: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي
1119
عمارة النفوس بالله | مرابط
مقالات

عمارة النفوس بالله


لقد جبلت النفوس البشرية على التعلق بالدنيا والغفلة عن الآخرة لذلك جاءت آيات القرآن فجعلت الأصل في الخطاب الدعوي ربط الناس بالآخرة والتبع هو التأكيد على أهمية إعداد القوة هذه نزعة ظاهرة في القرآن والسنة ووصايا السلف.. ولكن للأسف جاءتنا خطابات دعوية مادية أرهقتها مواجهة التغريب فانكسرت وتشربت ثقافة الخصم ذاته وصارت منهمكة في تذكير الناس بالدنيا وجعلت التبع هو الآخرة.. خطابات لم تعد تستحي أن تقول مشكلة المسلمين في نقص دنياهم لا نقص دينهم! ولكن لا يزال ولله الحمد- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهد...

بقلم: إبراهيم السكران
289
حب الظهور | مرابط
فكر تفريغات

حب الظهور


روي أن أعرابيا بال في ماء زمزم فقام الناس عليه فأمسكوا به وقالوا: ما حملك قال: أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعنات يعني: المهم عنده الصيت ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما الله به عليم لأجل فقط أن يخرج صيته يعمل أي شيء له حاجة أوليس له حاجة له داع أو ليس له داع يحرك ساكنا ويسكن متحركا المهم أن يخرج صيته أمام الناس

بقلم: محمد صالح المنجد
2330
لا تصلح النية الصالحة العمل الفاسد | مرابط
مقالات اقتباسات وقطوف

لا تصلح النية الصالحة العمل الفاسد


لا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره أو يطعم فقيرا من مال غيره أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام وقصده الخير فهذا كله جهل والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية.

بقلم: أبو حامد الغزالي
189