نشوء دولة التتار ج2

نشوء دولة التتار ج2 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

677 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وفاة جنكيز خان واجتياح بقية البلدان الإسلامية بعد وفاته بخمس سنوات

في عام (624هـ) توفي جنكيز خان، وترك وراءه إمبراطوريةً ضخمة جدًا من كوريا إلى منتصف بلاد إيران، ومن سيبيريا إلى المحيط الهندي، وبوفاته هدأت الأمور نسبيًا، ولكنها عادت إلى الاشتعال مرة أخرى بعد خمس سنوات، فأين كان المسلمون في هذه السنوات الخمس؟ لا شيء لا حركة، إذ لم يعتقد المسلمون أن ما يدور الآن في بلد مسلم سيدور في البلد الآخر بعد قليل، بل كل يبحث عن أمنه اللحظي المحدود فقط بحدود البلاد الضيقة التي يعيش فيها.
في سنة (629هـ) -يعني: بعد وفاة جنكيز خان بخمس سنوات- كان اجتياح بقية الأجزاء الغربية من إيران وأذربيجان.

 

اجتياح التتار لبلاد روسيا وأوروبا وتضييق الخناق على الخلافة العباسية

في سنة (630هـ) صعد التتار إلى الشمال، ودمروا روسيا بكاملها وقتلوا أهلها، وبالذات في موسكو، واستمروا إلى سنة (640هـ) يعني: أخذوا عشر سنوات في احتلال البلاد الروسية إلى أن وصلوا إلى موسكو في سنة (640هـ) ودمروها بكاملها.
ثم بدأ التتار يجتاح أوروبا اجتياحًا رهيبًا في سنة (641هـ)، ووصلوا إلى بولندا والمجر وكرواتيا، ودمروا كل هذه البلاد تمامًا.

ثم عادوا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، وبدأ الخناق يضيق على الخلافة الإسلامية في بغداد، ورأى التتار أن يتحالفوا مع النصارى في البلاد الإسلامية وحول البلاد الإسلامية، فبدءوا في مراسلتهم واستخدامهم كجواسيس داخل البلاد الإسلامية، وعقدوا حلفًا مع ملك أرمينيا الذي كان في ذلك الوقت نصرانيًا، ووعدوا النصارى إن هم تعاونوا معهم أن يعطوهم بيت المقدس، الذي كان قد حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

رأى التتار أيضًا أن يسيطروا على منطقة الأناضول -التي هي تركيا الآن- فوجهوا إليها جيوشًا وحاربوها، وقاومهم السلاجقة هناك، ولكن ظهرت حكومات ضعيفة في منطقة الأناضول، ما كان لهم من هم إلا شراء رضا التتار، فوافقت على الخضوع للتتار، وأن تنطلق الجيوش التترية من تركيا؛ للإحاطة بالخلافة الإسلامية العباسية في العراق من شمالها.

 

ظهور شخصية هولاكو والأساليب التي استخدمها لإسقاط العراق

ظهر بعد ذلك على هذه الصفحة من التاريخ رجل بشع يقال له: هولاكو، وكان ذلك في سنة (651هـ)، وكان ظهوره عندما تولى منكو خان زعامة دولة المغول، وكانت دولة المغول في ذلك الوقت من كوريا في شرق آسيا إلى بولندا في وسط أوروبا، وتولى زعامة هذه البلاد رجل اسمه منكو خان، وكان منكو خان أخًا لـهولاكو، فأرسل منكو خان أخاه هولاكو لاستكمال إسقاط ما تبقى من بلاد المسلمين، وجاء هولاكو إلى إيران؛ ليكون قريبًا من الأحداث.

إن شخصية هولاكو شخصية من أبشع الشخصيات في التاريخ، فهو رجل ليس له أي نزعة إنسانية، فقد كان يحب القتل ويتعطش للدماء بشكل مريع، وكان يمثل الجناح الأشد تطرفًا في دولة التتار، فإنه كان من دولة التتار أناس يعارضون هولاكو في حروبه الدموية البشعة، ولكنه كان هو الذي يسيطر على هذه الأمور، لقرابته من زعيم التتار في ذلك الوقت.

ماذا فعل هولاكو لإسقاط العراق؟ قرر أولًا أن يسقط طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من أبشع طوائف الشيعة، حتى إن كثيرًا من العلماء أخرجوا طائفة الإسماعيلية بأفكارهم من الدين الإسلامي بالكلية، وكانت هذه الطائفة تتمركز في غرب إيران وعلى حدود العراق، وكانت لهم قوة عسكرية ضخمة، فلم يرد هولاكو أن يدخل على الخلافة العباسية الموجودة في العراق وفي طريقه طائفة الإسماعيلية، فأراد أن يدمر هذه الطائفة، وكان العنف والإرهاب هو الوسيلة المناسبة لهم، وبالفعل تم له ما أراد، وأفنى طائفة الإسماعيلية بكاملها.

الأمر الآخر الذي قرره هولاكو لاحتلال العراق كان أمرًا في منتهى الدهاء، فبدلًا من أن يهلك جيوشه مع جيوش المسلمين الضخمة في منطقة العراق والشام والأناضول وما حولها؛ قرر أن يحدث انقسامًا حادًا في هذه المنطقة، فقرر أن يتعامل بالاتفاق مع مجموعتين رئيستين من المسلمين، يعطيهم الوعود والعهود بالتمكين لهم وإغداق الهدايا عليهم، ومساعدتهم في الوصول إلى ما يريدون من حكم وسلطان في نظير إسقاط الخلافة في العراق.

الطائفة الأولى التي تعامل معها هولاكو هي طائفة الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد قام هولاكو بمراسلة الأشرف الأيوبي ملك حمص، وكذلك راسل الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، ووعدهم أن يبقيهم في أماكنهم إذا ساعدوه، أو على الأقل يكونون على الحياد في حربه مع الخلافة العباسية، ووافق الأكراد على ذلك.

الطائفة الثانية التي تعاون معها هولاكو كانت طائفة الشيعة التي تعيش في العراق، وتعارض النظام الحاكم المتمثل في الخليفة العباسي في ذلك الوقت، وكان الخليفة لسوء فهمه لإدارة الأمور، وعدم تقديره الكافي للمسئولية؛ قد اختار أحدهم، وجعله أقرب المقربين إليه، فقد كان الوزير الأول للخليفة العباسي في الدولة التي تحارب التتار هو مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وهكذا استطاع التتار أن يصلوا إلى هذا الرجل، ودارت بينهم وبينه الاتفاقات والمراسلات التي تؤدي إلى إسقاط الخلافة، على أن يتولى الأمور بعد ذلك في بغداد هذا الرجل، تحت حماية تترية وتأييد من هولاكو.

وكان من نصائح التتار لـمؤيد الدين العلقمي أن يُهبِط تمامًا من معنويات الخليفة والمسلمين، أو يشككهم في أمر الانتصار على التتار، فأخبرهم أنه من المستحيل أن يحاربوا هذه الأعداد الهائلة من البشر بهذه الإمكانيات الضعيفة عند بلاد المسلمين، بل إنه طلب من الخليفة العباسي طلبًا غريبًا جدًا، والأعجب من ذلك أن الخليفة العباسي وافق على طلبه، طلب منه أن يقلل عدد الجيوش الإسلامية لإثبات حسن النوايا أمام التتار أنه لا يريد حربًا! فوافق الخليفة على ذلك، وقلل بالفعل من الجيش الإسلامي الموجود في بغداد، والجيش التتري على بعد خطوات في إيران.

 

شخصية الخليفة العباسي المستعصم بالله ومهادنته للتار

تعالوا لنأخذ نظرة على هذا الخليفة، حتى إذا قرأتم وصفه في كتب التاريخ لم تستغربوا، الخليفة هو المستعصم بالله، فيا لها من أسماء عظيمة جدًا في ذلك الزمن. يصفونه بأنه كان رجلًا عالمًا محبًا للعلم والعلماء، وكان رجلًا كريمًا محبًا للسنة ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعني: أن المستعصم بالله كان رجلًا جيدًا في ذاته، لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، وإلى الكفاءة في إدارة الأمور، وافتقر إلى علو الهمة، وإلى الأمل في الصدارة أو التمكين، وافتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في وقته المناسب، وافتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب ونبذ الفرقة ورفع راية المسلمين، وافتقر كذلك إلى اختيار أعوانه؛ ففشت في بلاده بطانة السوء.

كان الخليفة جيدًا في عبادته وعقيدته، ولكنه لم يتعد ذلك إلى غيره، فهو أمام المجتمع والدولة والشعب لم يكن بالذي يستطيع أن يتحمل المسئولية، فقد كان في استطاعته في ذلك الزمن أن يعد -من داخل العراق فقط مائة وعشرين ألف فارس، فضلًا عن المشاة والمتطوعين، فقد كان جيش التتار الذي كان يحاصر بغداد مائتي ألف، فكان الأمل كبيرًا جدًا في رد الغزاة، ولكنه كان مهزومًا من الداخل، فاقدًا للروح التي تمكنه من المقاومة، لم يرب شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فكان لا بد أن يدفع الشعب كله والخليفة معهم الثمن، لم يدرك الخليفة أنه كان بإمكانه أن يكون عظيمًا من عظماء التاريخ، وخالدًا في الذكر بين الخالدين لو أنه اعتمد على ربه ثم على شعبه، لكنه مع الأسف اعتمد على بطانة السوء التي تؤخر كثيرًا ولا تقدم شيئًا.

ظهرت في بغداد دعوة للجهاد مع كل هذه الملابسات، قاد هذه الدعوة رجل اسمه مجاهد الدين أيبك، ورجل آخر اسمه سليمان شاه، وكان لهما الرأي في المقاومة، لكن الخليفة أخذ برأي الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي في مهادنة التتار، واقتربت اللحظات الأخيرة، وقرر هولاكو أن يأخذ الخطوات اللازمة لدخول بغداد، ولتحسين الصورة أمام الخلفاء ولتفتيت الشعوب التي قد تثور، أراد هولاكو أن يقوم بحيلة خبيثة وهو أن يطلب من الخليفة طلبًا ما، فإذا رفضه كان هذا إيذانًا بإعلان الحرب على بغداد، ولا بد أن يكون الطلب مستحيلًا حتى لا ينفذه الخليفة، طلب منه أن يرسل له بجيش يساعده في حرب طائفة الإسماعيلية في شمال إيران، ولو أن الخليفة العباسي أخرج هذا الجيش فإنه سيترك بغداد والعراق بلا جيش تقريبًا، ولو دخل التتار إلى بغداد عنوة ورفعوه عن الكرسي فلن يعيدوه إليه أبدًا، لذلك قرر الخليفة ألا يستجيب لطلب التتار بإخراج جيش لحرب طائفة الإسماعيلية وكانت هذه بداية الحرب.

 


 

المصدر:

محاضرة التتار وغزو العراق، للدكتور راغب السرجاني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #التتار #العراق
اقرأ أيضا
من حكمة الإسراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

من حكمة الإسراء


وقد علمت أن ثمرة الإسراء والمعراج إطلاع الله نبيه على هذه الايات الكبرى وربما تقول: إن ذلك حدث بعد الإرسال إليه بقريب من اثني عشر عاما على عكس ما وقع لموسى وهذا حق وسره ما أسلفنا بيانه من أن الخوارق في سير المرسلين الأولين قصد بها قهر الأمم على الاقتناع بصدق النبوة فهي تدعيم لجانبهم أمام اتهام الخصوم لهم بالادعاء وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم فوق هذا المستوى

بقلم: محمد الغزالي
600
وضع المرأة تحت مظلة الإلحاد | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف الإلحاد

وضع المرأة تحت مظلة الإلحاد


الحقيقة هي أنه يمكن للمادية والإلحاد أن يصلا بالإنسان عامة وبالمرأة خاصة إلى مستويات أحط وأدنى بكثير مما ذكرته حتى الآن لدرجة قد تدفع بعض الحيوانات ربما للاحتجاج من باب أن أفعال أولئك البشر تسيئ إلى سمعة باقي الكائنات الحية

بقلم: سامي أحمد الزين
583
الضباب العقلي | مرابط
ثقافة

الضباب العقلي


إن قضاء الكثير من الوقت أمام شاشة التلفزيون يصيب العقل بنوع من الخمول فالشخص الذي يكثر من مشاهدة التلفزيون تجده ثقيلا بطيء الحركة ويميل بشدة إلى أحلام اليقظة ويتعب من إعماله لعقله وسرعان ما يفقد التركيز

بقلم: محمد علي فرح
432
مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي | مرابط
فكر مناقشات

مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي


مازالت مشكلات الانحلال السلوكي والتدهور الأخلاقي مسيطرة على المشهد في الكثير من مجتمعات المسلمين وخصوصا في مسألة العلاقة بين الجنسين وموضوعات تحرير المرأة واعتدنا أن نسمع تحليلات تقليدية لهذه المشاكل ترجعها إلى عوامل فردية أو ظواهر عشوائية غير موجهة ولا مقصودة ولكن مؤلف كتاب التبرج المسيس قرر أن يتتبع هذه الظواهر ويصل إلى محركاتها الأولى وبالطبع وصل في تحليله إلى خيوط سياسية كأن هذا المشهد الذي نراه جميعا يقع ضمن أهداف سياسية ومخططات دولية ومن هنا نجد أنفسنا أمام سياسات مكافحة الإرهاب المحل

بقلم: إبراهيم السكران
2345
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1


وما يذكره العلماء من النصوص في الأسانيد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة وأماراتها إنما هو شيء يسير من أشراط الساعة وذلك أن الإنسان إذا توفرت لديه جميع الشروط التي بتحققها يتحقق المشروط يعلم حينئذ أن الإنسان قد توفر فيه العلم اليقين في معرفة وقوع قيام الساعة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
534
آيات التحدي في القرآن الكريم | مرابط
تعزيز اليقين

آيات التحدي في القرآن الكريم


إن القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم معجزة عظمى وقرآنا يتلى تولى حفظه رب العالمين جل جلاله فقال سبحانه: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون الحجر:8 فالقرآن محفوظ في السطور ومحفوظ في الصدور أعظم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معجز أعجز البلغاء أن يأتوا بمثله تحدى كفار قريش وهم الفصحاء أن يأتوا بمثله مع أنه مركب من الحروف العربية أ ب ت ث التي يتكلم بها أهل العربية وألفاظه ومفرداته موجودة في كلام العرب لكن الكل يعجز عن أن يأتي بمثل أقصر آية منه

بقلم: محمد بن عبدالله العبدلي
1322