هل اتجه عمر رضي الله عنه إلى تقليل رواية الحديث

هل اتجه عمر رضي الله عنه إلى تقليل رواية الحديث | مرابط

الكاتب: محمد أبو شهبة

3011 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

شبهة اتجاه عمر إلى تقليل الرواية

قال صاحب " نظرة عامة في الفقه الإسلامي ": ص 71 ط الأولى، ص 76 ط الثالثة: «ومن الحقائق ذات البال ما عهد عن عمر من الاتجاه إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده، روى عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب، قال: فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثا (الطبقات الكبرى لابن سعد) ج 5 ص 140» (1). كما روي عنه أنه حبس ثلاثة من الصحابة لأنهم أكثروا من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (" الحفاظ للذهبي: ج 1 ص 7 ") (2).

 

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كثيرًا ما رد أحاديث لم تتفق ورأيه - روى أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب أنها كانت مطلقة الثلاث، فلم يجعل لها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفقة ولا سكنى، وقال: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ»، لها النفقة والسكنى.ومثله ما روي من مذهب عمر أن التيمم لا يجزئ الجنب الذي لا يجد الماء فروى عنده عمار بن ياسر أنه كان مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصابته جنابة، ولم يجد ماء، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَفْعَلَ هَكَذَا» وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه، فلم يقبل ذلك عمر ولم ينهض عنده حجة ولم يكن يقبل حديثا إلا ببينة " (" حجة الله البالغة ": ج 1 ص 141) (3).

 

وإليكم الجواب:

 

الاكتفاء بالقرآن

[1] قول المؤلف: «ما عهد عن عمر من الاتجاه إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده» غير مُسَلَّمٍ، وما كان عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يمنع الناس من رواية الحديث ولكنه كان يدعو إلى التثبت في الرواية، وقد أخذ الخلفاء الراشدون أنفسهم بهذا التثبت ودعوا الناس إليه، وليس أدل على أن الفاروق عمر ما أراد هذا، وإنما أراد زيادة الاطمئنان ما روي أنه قال لأبي موسى الأشعري بعد أن طلب منه أن يأتيه بمن يشهد معه أنه يسمع الحديث الذي رواه في الاستئذان، فجاء بمن شهد معه وهو الصحابي الجليل أبي بن كعب «سُبْحَانَ اللهِ إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ» وفي رواية أخرى أنه قال «خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ» (4) يعني الاشتغال بالتجارة والمعاملة في الأسواق عن التفرغ لسماع الحديث.

 

وكذلك جاء في بعض الروايات في غير " الصحيحين " أنه قال لأبي موسى الأشعري «أَمَا إِنِّي لَمْ أَتَّهِمك، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه مالك في " الموطأ "، وفي رواية عبيد بن حنين عند البخاري في كتابه " الأدب المفرد " فقال عمر لأبي موسى: «وَاَللَّه إِنْ كُنْت لأَمِينًا عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَحْبَبْت أَنْ أَسْتَثْبِ» (5).

 

فكل هذه الأحاديث تدل على أن الفاروق عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ما كان يدعو إلى تقليل رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده، ومعاذ الله أن يريد الاكتفاء بالقرآن عن السنن والأحاديث، وكيف يدعو عمر إلى الاكتفاء بالقرآن وحده وقد ثبت عنه في أقضيته أنه كان يلجأ إلى السنن والأحاديث إذا لم يجد في القرآن كما فعل في إملاص المرأة، وفي الوباء لما وقع ببلاد الشام، وقد وصل إلى سرغ، ورجوعه عن الإقدام عليه لما أخبره عبد الرحمن بن عوف بخبر رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «[إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ] بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» رواه البخاري في " صحيحه "
 
وروى مسلم في " صحيحه " عن المسور بن مخرمة قال: «اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ فِي ملاص الْمَرْأَةِ (6)، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلمَةَ» (7). بل ثبت عنه أنه كان يسأل عن سُنَّةِ أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إذا لم يجد الحكم في القرآن ولا في السنة النبوية.

 

حبس ثلاثة من الصحابة

[2] أما رواية حبس الفاروق عمر لثلاثة من الصحابة فهي مكذوبة، وكان على المؤلف الفاضل أن لا يأخذ الروايات من غير تمحيص ولا تدقيق، والكتب فيها الغث وفيها السمين، وفيها المقبول، وفيها المردود، وهي رواية مكذوبة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.وإليكم ما قاله إمام من أئمة الحديث والسنن، والحفظ للأحاديث والفقه فيها وهو أبو محمد بن حزم الظاهري مؤسس المذهب بعد المؤسس الأول له وهو الإمام داود: قال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثَابَهُ - في أثناء ذكره لفضل الإكثار من الرواية للسنن: «وروي عن عمر أنه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حبس ابن مسعود، من أجل الحديث عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا الدرداء، وأبا ذر»

 

وطعن في الرواية [بالانقطاع] لأن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف راويه عن عمر لم يسمع منه، وقد وافقه على هذا البيهقي، وأثبت سماعه من عمر يعقوب بن شيبة، والطبري وغيرهما، والذي يظهر أنه لم يسمع منه، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أنه مات سنة 95 أو 96 وعمره 75 سَنَةً (8) فتكون ولادته سنة عشرين للهجرة، وعلى هذا يكون له حين توفي الفاروق ثلاث سنوات، وهي سن دون سن التحمل وعلى هذا فلا تكون الرواية حُجَّةً للانقطاع، ولعل البلاء جاء من هذا الراوي المحذوف.
 
بل قال ابن حزم: «إنه - أي الخبر - في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ السنن، وألزمهم كتمانها وجحدها، وهذا خروج من الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا.ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات المطعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء» (9).

 

ومن دواعي الشك في هذه الرواية وعدم الثقة بها أن ابن مسعود كان يتبع مذهب عمر، وطريقته، وكان يقول: «لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، وَسَلَكَ عُمَرُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ عُمَرَ وَشِعْبَهُ " وقد أرسله عمر إلى الكوفة ليعلم أهلها وقال لهم: «لَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِعَبْدِ اللهِ عَلَى نَفْسِي» وقال فيه وفي عمار بن ياسر «هُمَا مِنَ النُّجَبَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».

 

فكيف يعقل أن يخالف عمر في منهجه في الرواية؟ وكيف يعقل من عمر أن يحبسه؟ وما ذكر في رواية فاطمة من الزيادة الباطلة وهي: «لاَ نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لاَ نَدْرْي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» (*) والحديث كما في " صحيح مسلم " (10) قال عمر: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ [اللهِ] وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ». الحديث وإنما جاء الغلط من اعتماده وسلفه صاحب " الضحى " على ما قاله المستشرقون وأخذ كلامهم قضية مُسَلَّمَةً، وقد اعتمد هؤلاء وأولئك على ما جاء في كتاب " مسلم الثبوت "، وهو كتاب في أصول الفقه، لا كتاب حديث وهذه الكتب لا يعول عليها في معرفة الصحيح من الحسن من الضعيف.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  2. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  3. هي مراجع المؤلف التي ذكرها.
  4. " صحيح البخاري ": - كتاب الآداب - باب الاستئذان.
  5. " فتح الباري بشرح صحيح البخاري ": جـ 11 ص 30، طبعة السلفية.
  6. هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم «ملاص» وهو جنين المرأة إذا وضعته قبل أوانه وهو السقط والمعروف في اللغة «الإِمْلاَصُ»، وقد صحح القاضي «ملاص» من ناحية اللغة.
  7. " صحيح مسلم ":- كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب دية الجنين ...
  8. " تهذيب التهذيب ": جـ 1 ص 139.
  9. " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: جـ 2 ص 139.
  10. " صحيح مسلم ": - كتاب الطلاق - باب المطلقة ثلاثا لا نفقه لها.
  11. قال المؤلف: هذا الرأي الذي ننقله هو رأي جولدتسيهر في كتابه " دراسات إسلامية "، وقد حرصنا على ترجمة هذا النص، حتى يتسنى للذين أَلَمُّوا بشيء منه أن يعرفوه بالتفصيل، ويعرفوا الرد عليه.

المصدر:

  1. محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة، ص278
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية
اقرأ أيضا
النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات الجندرية

النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول


النسبوية وإن كانت فلسفة قائمة بذاتها إلا أنها أيضا عماد نظريات ما بعد الحداثة وأثرها عارم في مئات الأفكار الغربية والعالمية وفي اليسار الليبرالي خاصة وسنتخير الحديث عما يوضحها لنا كموثر على المسار الفلسفي اللوطي موضحين كيف كانت تلك الفلسفة أحد أسس التكوين

بقلم: عمرو عبد العزيز
2242
الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

الرد على عدنان إبراهيم: فرية تنبؤ النبي أن معاوية يموت على غير ملة الإسلام ج2


يدعي عدنان إبراهيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ بأن الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سيموت على غير ملة الإسلام واستند في ذلك على ما رواه البلادري وفي هذا المقال فحص وتمحيص لهذه الفرية ورد عليها وبيان ما فيها من أخطاء وأباطيل

بقلم: أبو عمر الباحث
6315
شبهة الشر | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات الإلحاد

شبهة الشر


يناقش هذا المقال إشكالية الشر في العالم حيث أنها من أقدم الشبهات والإشكالات التي واجهت العقل الإنساني على مر العصور ويستعرض الكاتب عباس محمود العقاد تاريخ هذه الإشكالية بشكل موجز ثم يعرض لنا الرد عليها أو الحل الذي يسميه حل التكافل في مقابل الحلول الأخرى التي ظهرت في قديم الزمان

بقلم: عباس محمود العقاد
2172
نظرة الإسلام للثقة بالنفس | مرابط
فكر

نظرة الإسلام للثقة بالنفس


يقول بعض المنتسبين إلى العلم يقول: إن لفظ الثقة بالنفس لا يجوز وعللوا ذلك بأن على المرء أن يثق بالله في كل شؤونه لا بنفسه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: ولا تكلني لنفسي طرفة عين ويتناول علم النفس وبعض المختصين فيه من المسلمين هذا اللفظ الثقة بالنفس على أنه ضرورة ملحة لكل مسلم فما حقيقة هذا القول

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر البراك
413
لماذا يحل زواج المسلم من الكتابية لا العكس؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا يحل زواج المسلم من الكتابية لا العكس؟


في كل نظام اجتماعي في العالم توجد قاعدة أساسية هي حفظ النظام الاجتماعي أو تماسك النظام الاجتماعي .. كل تشريع كل قانون في أي نظام اجتماعي يجب أن يخدم هذه القاعدة سواء كانت دولة قانون أو دين أو أعراف.. وإلا انهار النظام الاجتماعي المشكل للدولة كلية!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
391
يوسف زيدان.. سارق لا يفقه ما يسرق! | مرابط
مناقشات

يوسف زيدان.. سارق لا يفقه ما يسرق!


نشر يوسف زيدان منذ سنة على إحدى القنوات الفضائية حلقة من أحد برامجه أثارت ضجة إذ زعم أن قصة أصحاب الفيل لا علاقة لها بمكة.. محاولا إيهام المشاهدين أن دعواه كشف من كشوفه الفريدة وما أكثرها!.. وقد تلبس هنا بالسرقة والكذب.. وقد رددت على دعواه في كتاب شبهات تاريخية حول القرآن الكريم الصادر حديثا.. وإليكم نصه

بقلم: د. سامي عامري
344