هم يوسف عليه السلام

هم يوسف عليه السلام | مرابط

الكاتب: منقذ السقار

708 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الشبهة

قالوا: نسب القرآن إلى الصديق يوسف عليه السلام الهمَّ في الخطيئة مع زوجة العزيز {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24)، وقالوا: تمتلئ كتب التفسير بصور مشينة لهذا الهمِّ الفاسد الذي لا يليق بنبي كريم.

 

الرد

والجواب: لو قرأ الطاعنون في القرآن تمام الآية المستشكَلة لأدركوا منزلة يوسف الصديق وعصمة الله إياه من الذنب: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24).

وقد شهدت امرأة العزيز له بالخيرية والعصمة بقولها: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32).

ولئن همَّت امرأة العزيز بالفاحشة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهمُّ أصلًا؛ وهذا منطوق الآية لمن فهم لغة العرب وطرائقهم في البيان، فالآية تثبت لامرأة العزيز الهمَّ {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، لكنها تنفي الهمَّ بالمعصية عن الصديق يوسف {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، و (لولا) عند العرب تفيد امتناعًا لوجود، أي لم يحصل الفعل لوجود ما منعه، فلم يتحقق الهمّ بالخطيئة لأنه رأى برهان ربه.

قال أبو حاتم: "كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن، فلما أتيت على {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال: هذا على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها" (1).

ومثله في قول الله تعالى عن أم موسى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} (القصص: 10)، فهي لم تبد لهم بحقيقة أمومتها لموسى؛ لأن الله ربط على قلبها، وكذلك لم يهم يوسف بالمعصية لأنه رأى برهان ربه.

ومثله أيضًا في قول الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (الإسراء: 74)، فالركون لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - لوجود التثبيت من الله، وكذلك الهمُّ لم يقع من يوسف عليه السلام لوجود برهان الله أي تثبيته وعصمته.

ومثله في كلام الناس معروف: لقد رسبتُ لولا أني درست، فهو يفيد - في ذهن السامع- النجاح لا الرسوب، وأن ذلك سببه الدراسة.قال أبو حيان: "والذي أختاره: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله.. ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين" (2).

ثم لو فرضنا وقوع الهمِّ بالفاحشة من الصديق يوسف؛ فإن الهمَّ في لغة العرب حديث النفس بمواقعة أمر، فإن كان الهمُّ في أمر حسن فهو حسن، وإن كان في أمر سوء لم يكن سوءًا إلا بترقي الهمِّ إلى العزم أو الفعل (3)، وإلا كان تركه لله سببًا في اكتساب الحسنات والمنزلة عند الله، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه؛ حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف» (4)، فلو وقع همٌّ بالسوء من يوسف فهو له حسنة، لأنه لم يترقَ إلى فعل، فقد تركه لله وخوفًا منه «وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة».

وأخيرًا فإن ما ورد في بعض كتب التفسير من أقوال في همِّ يوسف لم يصح منه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ومثلها من الإسرائيليات كثير في كتبهم التي لم تخلُ من أساطير أهل الكتاب وحكاياتهم؛ الغث منها والسمين، ورحم الله أبا حيان الأندلسي فقد أصاب وأجاد في قوله: "طوَّل المفسرون في تفسير هذين الهمَّين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق.. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضًا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلًا عن المقطوع لهم بالعصمة.. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات" (5).

وأما الشيخ ابن تيمية، فيرى أن هذه القصص المكذوبة المروية في كتب المسلمين من مرويات وقصص أهل الكتاب "وما ينقل من أنه حلَّ سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًّا على يده وأمثال ذلك، فهو مما لم يخبر اللهُ به ولا رسولُه، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء، وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفًا واحدًا" (6).


وهكذا يستبين لكل منصف براءة القرآن من المعاني الباطلة التي حاكها الأفاكون بجهلهم أو بتعاميهم عن معاني الآيات القرآنية التي تعتبر هؤلاء الأنبياء خيرة الله في أرضه، كيف لا! وهم رسل الله الأطهار {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (ص: 47).


 

المصدر:

منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص149

 

المراجع:

  1. فتح القدير، الشوكاني (3/ 26).
  2. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (5/ 294 - 295)، وانظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبد الخالق عضيمة (2/ 685).
  3. الفعل على ست مراتب (الخاطر ثم الهاجس ثم حديث النفس ثم الهم ثم العزم ثم الفعل)، فأما الخاطر والهاجس وحديث النفس فلا يكتبون على العبد؛ لا في الخير، ولا في الشر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» أخرجه مسلم ح (127)، وأما الهمُّ فلا يكتب في الشر بمجرد الهمِّ، ويكتب خيرًا إن همَّ العبد بأمر الخير أو ترك همَّ السوء، وأما العزم فيكتب بالخير والشر؛ ولو لم يقع الفعل لعزم القلب عليه، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار»؛ فقلت [أي أبو بكرة - رضي الله عنه - راوي الحديث]: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» أخرجه البخاري ح (37).
  4. أخرجه البخاري ح (7501)، ومسلم ح (129)، واللفظ للبخاري.
  5. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (5/ 294 - 295).
  6. مجموع الفتاوى، ابن تيمية (10/ 297).
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تنزيه-القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي | مرابط
مقالات

الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي


ومن فضائل الصلاة على النبي أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه فإنه كلما أكثر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وذكره واستولت محبته على قلبه حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولا شك في شيء مما جاء به بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم

بقلم: ابن القيم
492
قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام | مرابط
فكر مقالات

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام


هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي ت684 ه أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعلمانيهل كان القرافي يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أن دليل على أن الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير ملزمة وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح

بقلم: فهد بن صالح العجلان
827
تحدي القرآن وعجز فصحاء العرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تحدي القرآن وعجز فصحاء العرب


على الرغم من تكذيب الكافرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وزعمهم أن القرآن حديث مفترى نسبه محمد إلى ربه لم يستطع أحد أن يأتي بمثله أو يتصدى للتحدي القرآني رغم أن فيهم الفصحاء والبلغاء والشعراء والخطباء وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى فلماذا عجزوا أن يفتروا مثله ولماذا عجزوا أن يأتوا بمثله وهذا تعليق سريع لأبي سليمان الخطابي حول هذا التحدي المعجز

بقلم: أبو سليمان الخطابي
2385
لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟


الحضانة مثلها مثل أي حكم شرعي في نظام الشريعة لها فلسفة اجتماعية مهمة مرتبطة بزيادة التماسك الاجتماعي في الأمة.. بل في أمور الزواج والطلاق والنفقة والحضانة هذه العلة أوفر وتأكيد التماسك أظهر.. الحضانة مبنية على الشفقة والصبر على تربية الصغير ولذلك يقدم في الحضانة الأقرب فالأقرب لوفور شفقته كلما قرب من الطفل فمن تدلي من النساء للطفل عن طريق الأبوين تقدم على من تدلي عن طريق أحدهما ومن تدلي له عن طريق الأم تقدم على من تدلي عن طريق الأب..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
493
وضع المرأة تحت مظلة الإلحاد | مرابط
أباطيل وشبهات اقتباسات وقطوف الإلحاد

وضع المرأة تحت مظلة الإلحاد


الحقيقة هي أنه يمكن للمادية والإلحاد أن يصلا بالإنسان عامة وبالمرأة خاصة إلى مستويات أحط وأدنى بكثير مما ذكرته حتى الآن لدرجة قد تدفع بعض الحيوانات ربما للاحتجاج من باب أن أفعال أولئك البشر تسيئ إلى سمعة باقي الكائنات الحية

بقلم: سامي أحمد الزين
668
قصص وعبر للنساء ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج1


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
447