قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام | مرابط

الكاتب: فهد بن صالح العجلان

748 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي (ت684 هـ) أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعلماني؟
هل كان "القرافي" يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أن دليل على أن "الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير ملزمة وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح"؟

لا بأس، لنلملم أطراف هذا الموضوع،  ولنعيد ترتيب المشهد من جديد، ولنشرح القصة بالكامل، لنعرف أين يقع "القرافي" وأين يقع بعض المعاصرين الذين يستشهدون بــ "القرافي"  كثيرًا.

 لدينا إذن ثلاثة أمور.
ماذا قال "القرافي"؟
وماذا فهم بعض المعاصرين منه؟
 وما مدى صحة هذا الفهم؟

 

كلام القرافي

أما كلام "القرافي" فهو يقرر أن ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا للمسلمين فهو خاص بالأئمة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر باعتباره قاضيًا فهو للقضاة ولا يقوم به عموم الناس، وما صدر منه باعتباره تبليغًا وفتوى فهو لعموم الناس، فمثلًا توزيع الغنائم وتجهيز الجيوش فعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا فلا يسوغ لأحد أن يوزع الغنائم أو يجهز الجيوش إلا إن كان إمامًا وليس هذا مثل الفتوى الصادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تكون لعموم المسلمين، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيًا فهو حكم قضائي لا يشمل عموم الناس، مثلًا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف[1]، هو حكم قضائي فلا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إلا بعد حكم القاضي لأن تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم كان باعتباره قاضيًا – على رأي بعض أهل العلم- وقال آخرون يجوز للمرأة أن تأخذ بلا إذن قضائي لأن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم هنا كان إفتاء لها وليس قضاء على زوجها.

فأحكام الإمامة والقضاء والفتيا كلها قضايا تشريع، لكن منها ما هو تشريع لعموم الناس يقومون به من دون إذن إمام ولا حكم قاضٍ، ومنه ما هو تشريع خاص بالإمامة لا يصدر إلا من إمام، وتشريع خاص بالقضاء لا يصدر إلا من قاض، فما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا أو إمامًا فأحكامها متعلقة بالأئمة والقضاة سواءً كانت واجبة أو مندوبة أو مباحة، وإلا فالأصل هو كونها أحكامًا تشريعية عامة لجميع الناس.

هذه خلاصة نظرية "القرافي" في التصرفات.[2]

وأما في عصرنا الحاضر فقد فُهم القرافي من عددٍ من المعاصرين بشكل مختلف تمامًا، وأصبح رأي "القرافي" يتكرر في بعض الدراسات السياسية بتفسير لا يمت لتنظير القرافي بأي صلة.

 

ماذا فهم بعض المعاصرين من نظرية "القرافي"؟

يقولون: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله الواردة في باب الحكم الدستوري والسياسي ليست ملزمة، بل هي أمور فعلها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا، وبما يحقق المصلحة المقصودة في ذلك الزمان، ولهذا فالأئمة من بعده يجتهدون في بناء الأحكام السياسية بحسب المصلحة التي بنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحكام التي ليست ملزمة لهم كأحكام العبادات والمعاملات والمقدرات التي جاء فيها نصوص ملزمة لعموم الناس.
هذه خلاصة تلك الآراء.

فهل هذا هو كلام "القرافي"؟
بالتأكيد: لا.
إذن، فأين الخلل؟

 

الخلل دخل عليهم من محورين:

الأول: عملية النقل الخطرة التي مارسوها على كلام القرافي، فهو يتحدث عن تصرفات محددة من الرسول صلى الله عليه وسلم فجعلوه يقصد كل الأحكام السياسية؟
 فالقرافي يتحدث عن فعل صدر باعتباره إمامًا، ولم يقل كل أحكام السياسة،فهو يتحدث عن أفعال معينة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا كإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وقسمة الغنائم ونحوها، ولم يقل هذا عن كل باب السياسة؟ وكان يتحدث عن تصرفات، وليس عن كل الأقوال والأفعال في الباب،  فهذا تحريف سيء لكلامه.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم له تصرفات باعتباره قاضيًا، ولا يقول أحد إن كل أحكام القضاء اجتهادية مصلحية لا نصوص فيها!
فمثلًا حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[3] هل يقول عاقل إن هذا تصرف منه عليه الصلاة والسلام باعتباره إمامًا؟ فمن حق الحكام أن يحددوا باجتهادهم هل يفلح القوم إن ولوا أمرهم امرأة أو لا يفلحوا؟؟

وحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا،[4] هل يقول أحد إن هذا حكم للائمة أو للناس فهم الذين يحددون اعتبار الصلاة هنا أو عدم اعتبارها  ؟ وما الحاجة لسؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم إذن إن كان كل شؤون السياسة مصلحية بحتة!

لهذا قال القرافي (فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش،  وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في الأراضي والمعادن ونحو ذلك،  فلا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر لأنه عليه الصلاة والسلام فعله بطريق الإمامة وما استبيح إلا بإذنه فكان ذلك شرعًا مقررًا)[5]

فالموضوع عن تصرف معين وليس عن كل أحكام الباب، فهذه عملية نقل قفزت على مفازات عدة حتى تصل إلى هذه النتيجة!
فتصرفات الإمامة هي جزء من السياسة، وليست هي كل السياسة، فثم أحكام كثيرة شرعية هي من صميم السياسة ولا علاقة لها بموضوع التصرفات.

الثاني: أن القرافي جعلها أحكامًا خاصة بالأئمة، ولم يخرجها عن التشريع، فهي تشريع حسب تأصيله لكن لا يقوم بها إلا الإمام، وأما هذا الفهم العصري فقد ألغى عنها التشريع بالمرّة فجعلها أحكامًا مصلحية متغيرة، وهذا بعيد جدًا عن تقرير القرافي، فتصرفات الإمامة المختصة بالأئمة منها ما هو واجب على الإمام كإقامة الحدود، ومنها ما هو مندوب أو مباح حسب كل حكم، ولهذا اختلف العلماء في جملة من الأحكام السياسية، وما خطر ببال أحد منهم أن كل أحكام السياسة خارجة عن التشريع، ولو كان هذا ورادًا عندهم لما أتعبوا أذهانهم في الحديث عن كونها واجبة أو مباحة أو مندوبة أو منسوخة.. الخ، لأنها في النهاية ستكون خاصة بعصر الرسول صلى الله  عليه وسلم ولا تلزم أحدًا، كما هو هذا الفهم العصري المغلوط!

فهذا غلطتان حرفتا برأي القرافي وقلبتاه رأسًا فخرج رأي جديد لم يعرفه القرافي ولا كان يدور في خلد أحد من عصره، فالقرافي يتحدث عن جزئية معينة في السياسة وهم جعلوه يتحدث عن كل السياسة! والقرافي يتحدث عن تشريع وإلزام لكنه خاص بالأئمة والقضاة فأخذوا برأيه بعد أن سحبوا قضية التشريع ووضعوها عند الباب.

فصار رأيهم المحدث يقول: السياسة ليس فيها أحكام وتشريعات ملزمة، وإنما تقوم على مبادئ كلية عامة، تعتمد على المصلحة المتغيرة.
هي نتيجة وصلوا إليها عن طريق "القرافي" ووصل إليها آخرون من مسار مصلحة "الطوفي" وغيرهم من جهة مقاصد "الشاطبي".
تقول هذه النتيجة أن بالإمكان تجاوز كثير من الأحكام الشرعية التفصيلية التي يجري عليها الخلاف المعاصر حيث لم تعد ملزمة كما كان الإسلاميون يفهمونها سابقًا.

سيخطر في ذهنك سريعًا بعد قراءة هذا التفسير سؤال مشروع يقول:
 

ما فرق هذا الكلام عن العلمانية؟

فالخلاف مع العلمانية حول النظام السياسي المعتمد على تشريعات وأحكام ثابتة، وحين تكون أبواب السياسة خارجة عن التشريع فالخلاف إذن على أي شيء؟
وهو سؤال محرج يتطلب جوابًا واضحًا عن الفرق الذي يميز هذا الطرح الإسلامي عن الطرح العلماني، وقد ذكروا في التفريق أمرين:

الفرق الأول: أن أصحاب هذا التفسير يؤمنون بالمبادئ الكلية والأصول العامة للشريعة، ويؤمنون بقيام الأحكام على المصلحة كما راعتها الشريعة بخلاف الفكر العلماني.
وهذا فرق غير كافٍ ولا مقنع، لأن الأصول العامة والمبادئ الكلية تتميز بالعمومية المطلقة بما يمكن إدراج كافة التفسيرات فيها، ولن يكون لدى الفكر العلماني حساسية من مبادئ العدل والحرية والشورى والمساواة حين تكون مجرد مبادئ كلية عامة، وأما المصلحة فالفكر العلماني إنما يدعو من قديم لأن تعتمد المصلحة بعيدًا عن الأحكام التشريعية التفصيلية.

الفرق الثاني: أن العلمانية ليست شيئًا واحدًا ولا فكرا محددًا، فيمكن بمثل هذه الرؤية التقريب والتوافق مع تفسير معين للعلمانية لا يحمل عداءً للإسلام وأهله، فهؤلاء يمكن تبني موقفًا قريبًا من موقفهم لأن رؤيتهم لا تعارض الإسلام وإنما الخلاف مع العلمانية المعادية للإسلام.

إذن، ليس ثم مشكلة كبيرة مع الفكر العلماني المعتدل الذي لا يعادي الدين، لأنه في النهاية حصل اتفاق على إبعاد أي أحكام شرعية ملزمة من الحكم، وصار الاعتماد على المصلحة المتغيرة، فأساس الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين هو في الإلزام بأحكام بناءً على رؤية دينية، وحين لا يعتمد النظام السياسي الإسلامي علي أي أحكام شرعية محددة فقد حصل الاتفاق والتقارب بين الفكر العلماني والإسلامي.

ربما يفرح بعض الناس بهذا التقارب كحل وسط وخيار جديد للعمل الإسلامي المعاصر، لكن واقع الأمر – وبكل أسف -  أنه ليس خيارًا جديدًا، بل هو تحويل للنظرية الإسلامية لتكون متوافقة مع المنظومة العلمانية التي لم تغير شيئًا من منهجها، بل بقيت في مكانها وجاءت إليها المنظومة الإسلامية بعد أن حققت الحد الأدنى من الشرط العلماني المقبول.

يتوهم أن الصراع (الإسلامي- العلماني) قديمًا كان مع العلمانيين المتطرفين الذين يعادون الدين ويسعون لاسئصاله، فيشعر بارتياح لأنه استطاع أن يكسب بعض العلمانيين، وما علم أن الصراع أساسًا كان مع العلمانية التي لا تعادي الدين، وأن النزاع تحديدًا كان في كيفية فرض نموذج ديني على الناس، وأما العلمانية المعادية للدين فهؤلاء خلاف الإسلاميين معهم لم يكن في النظام السياسي أصلًا، فلا معنى الآن لاستثنائهم لأنهم كانوا من الأصل خارج النزاع!

فقصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام – باختصار -  هي ذاتها العلمانية التي حاربها الإسلاميون سابقًا ثم أصبحت مع مرور الأيام لا تعارض الإسلام!

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أخرجه البخاري 2/769 برقم (2095)
  2. انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الاحكام وتصرفات القاضي والإمام، للقرافي 45 - 49
  3. أخرجه البخاري 6/8 برقم ( 4425).
  4. أخرجه مسلم 3/1480 برقم (1854).
  5. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 49

المصدر:

فهد بن صالح العجلان، معركة النص، المجموعة الأولى

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#فهد-العجلان #معركة-النص
اقرأ أيضا
مدمنو البيانات | مرابط
ثقافة

مدمنو البيانات


شبكة الإنترنت خلقت نوعا جديدا من السلوك القهري يشتمل على الإفراط في تصفح الشبكة والبحث في قواعد المعلومات وهؤلاء الأفراد يبددون كمية غير مناسبة من الوقت في البحث وجمع وتنظيم المعلومات وهو ما يسمى بالإفراط في تحميل المعلومات

بقلم: إبراهيم السكران
441
الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية | مرابط
الإلحاد

الإلحاد ورد الإنسان إلى البهيمية


لقد ترك الملاحدة للداروينتة صياغة صورة حقيقة الإنسان وصناعة مراحل تاريخه وهو أمر يظهر بوضوح في جميع أدبياتهم عند مناقشة قضايا نظرية المعرفة والقيم ومعنى الحياة والفكاك عن ذلك -إلحاديا- محال لأن رفض الداروينية أو أي صورة أخرى من صور التطور العشوائي للكائنات الحية

بقلم: د سامي عامري
501
التوجه الأخلاقي في علم الحديث | مرابط
تعزيز اليقين

التوجه الأخلاقي في علم الحديث


لا يستطيع من يدرس علم الحديث ألا يلحظ بوضوح التوجه الأخلاقي في بنية هذا العلم ليس مرتكزا يدور حول الصفات الشخصية للمتعلم والدارس والباحث فقط كما هو العصر الحاضر أي متعلق بالأمانة والصدق ونحو ذلك إنما مرتكزا للنشاط العلمي أيضا..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
381
ماذا تركت لأجلي؟ | مرابط
مقالات

ماذا تركت لأجلي؟


ويقول الشاب التائب: لأجلك ربي تركت رفقاء الطيش وطريق الهوى وآثرت طريق العفاف والهدى وصبرت على مقاومة كل وسائل الجذب والإغراء حتى صرت بين الشباب غريبا في مظهري ومخبري. وتقول أمة الله: لأجلك ربي تركت التبرج والزينة التي أحب وخالفت بيئتي المتحررة التي فيها نشأت ونالني فيك السخرية والأذى.

بقلم: د. جمال الباشا
335
درء تعارض العلم التجريبي والنقل | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر

درء تعارض العلم التجريبي والنقل


من المجالات التي تحتاج إلى قدر من التأصيل العقدي والمنهجي تحرير الصلة والعلاقة بين المعارف الشرعية والمعارف العلمية الطبيعية وذلك أن ثمة قدر من التقاطع أحيانا بين هذين المجالين بما يستدعي ضبط العلاقة بينهما والواقع يشهد أننا أمام طرفين في هذه القضية ووسط طرف يحصل له قدر من المغالاة في الاستمساك بما يتوهم أنه ظواهر النصوص فيطرح معارف علمية قطعية لما يتوهم أنه ظاهر الشرع وطرف يطرح بعض القواطع الشرعية لصالح المعارف الطبيعية

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
1448
خدمة المرأة لزوجها في المذهب المالكي | مرابط
المرأة

خدمة المرأة لزوجها في المذهب المالكي


فالداعيات المتأثرات بالنسوية ممن يدعين تمسكهن بالمذهب المالكي في الحقيقة يهدمن البيوت ولو تركن البيوت على ما عهدناه عليها من وفاء وتضحية دون مبالاة بهذه الأمور ما وقعت المسلمة المسكينة في هذا الحرج الكبير حتى صارت العلاقة بين المسلم والمسلمة علاقة صراع. فإن كن مالكيات فهذا هو المذهب المالكي الذي ألزمن به أنفسهن نبينه للمسلمة حتى تعلم الحرج الذي أوقعنها فيه

بقلم: قاسم اكحيلات
2554