عبقرية محمد الإدارية

عبقرية محمد الإدارية | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

1891 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ملكات شخصية

 

في الإسلام أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الإدارة كما نسميهم اليوم، وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات، كالمساندة والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شئون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور.

ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه ونبسط وصايا الدين، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع إليها. وإنما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسلائق نفسية؛ تلازمه حيث كان مؤديًا لرسالة الدين، أو مؤديًا لغير الرسالة من سائر أعمال الإنسان.
 
كذلك لا يعنينا مثلًا أن نتكلم عن «الإدارة» كأنها نصوص المنشورات و«اللوائح» التي تدار بها الدواوين وتجري عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة، فإن هذه وما إليها هي أعمال منفذين مأمورين وليست أعمال مديرين آمرين، وإنما نعني الملكة الإدارية من حيث هي أساس في التفكير؛ من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الإدارة كلها على أسس قويمة، ثم يدع لغيره تفصيلات الأضابير والأوراق.
 
فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة أن يؤسس إدارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة. أما السليقة المطبوعة على إنشاء الإدارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام، وتعرف التبعة، وتعرف الاختصاص بالعمل، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه.
 
وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما تكون.
 
كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير. ومن حديثه المأثور: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» … ومن أعماله المأثورة أنه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما أقعده عن القيادة، وكان قوام الرئاسة والإمامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة، وهما الكفاءة والحب:

«أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين.» «أيما رجل أم قومًا وهم له كارهون لم تَجُزْ صلاتُه أُذُنيه.»
 
وكان إلى عنايته بإسناد الأمر إلى المدير القادر عليه حريصًا على تقرير التبعات في الشئون ما كبر منها وما صغر، على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه. ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته
 
وقد كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصارًا كانوا أو مهاجرين، ولكنه عليه السلام لم يترك أحدًا يدعي لنفسه حقًّا في إقامة الحدود، وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي، غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس.
 
فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلًا من المشركين غضب عليه السلام، وقال فيما قال من حديثه المبين: «… فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة …» ولما أراد أن يصادر الخمر نهج في ذلك منهجًا يقصد به إلى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال: «أمرني، صلى الله عليه وسلم، أن آتيه بمُدْيَة، فأتيته بها، فأَرْسَلَ بها فأُرْهِفَتْ، ثم أعطانيها فقال اغْدُ عليَّ بها. ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جُلِبَتْ من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معي أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته.»
 
وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ويبين الحلال، فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه جميع المسلمين، من تفقه منهم ومن لم يتفقه في الدين، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام، وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل، ولكنها مسألة إدارة وتنفيذ في مجتمع حافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء، ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوى وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان، فلم يكتف النبي عليه السلام بصريح التحريم في القرآن ولا اكتفى بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلًا بعينه وأناسًا بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذنًا لمن شاء أن يفعل ما شاء.
 
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلامًا هو أجمل لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.» ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت: «… ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهان.» ومن قوله: «الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه، وفي بعض الشر خيار.» ومن قوله: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» … إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور.
 
نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء.
 
هذا الإلهام النافذ السديد في تدبير المصالح العامة، وعلاج شئون الجماعات، وهو الذي أوحى إلى الرسول الأمي قبل كشف الجراثيم، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول، وقبل العصر الحديث بعشرات القرون، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد، حيث قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.»
 
فتلك وصية من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد، إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها.

 

تدبير الشئون العامة

 

على أن الإدارة العليا إنما تتجلى في تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع، فليست الإدارة كلها نصوصًا وقواعد يجري الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشئون على نسق واحد، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك.
 
وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام. فما عرض له تدبير أمر من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها إلا أشار فيه بأعدل الآراء، وأدناها إلى السلم والإرضاء.
 
صنع ذلك حين اختلفت القبائل على أيها يستأثر بإقامة الحجر الأسود في مكانه، وهو شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة، ولا تؤمن عقبى الفصل فيه بإيثار إحدى القبائل على غيرها ولو جاء الإيثار من طريق المصادفة والاقتراع، فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره لحاضر الوقت ولمقبل الغيب المجهول. فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه، وكان من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان، وأن يتسلف الدعوة وهي مكتوبة في طوايا الزمان، ولو علموا بها يومئذٍ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنآن.
 
وصنع ذلك يوم هاجر من مكة إلى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته ونزوله، وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة، فترك لناقته خطامها تسير ويفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك، وفصلت فيما لو فصل فيه إنسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها، ولو أمنت في تلك الساعة على دَخَلٍ وسوء طويَّة …
 
وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناسًا من أهل مكة الضعيف إيمانهم على أناس من الأنصار الذي صدقوا الإسلام وثبتوا على الجهاد، فلما غضب المفضولون لم يكن أسرع منه إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها، بل تريه أنه هو الغالب الكاسب وأنها تصيب منه المقنع والإقناع في وقت واحد: «أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ … ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ … فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار …»
 
كلام مدير فيه الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين … فهو مدير حين تكون الإدارة تدبير أمور، ومدير حين تكون الإدارة تدبير شعور، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق إليها الاختلال، لأنه يسوسها بالنظام وبالتبعة، وبالاختصاص وبالسماحة، وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها لاختلال أو انحلال، أو لخطل في إدارة الأعمال

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، عبقرية محمد، ص 59
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عبقرية-محمد #العقاد
اقرأ أيضا
أمنيات التفسير | مرابط
مقالات

أمنيات التفسير


بعض أهل الأهواء يذكر أحيانا آيات يحتج بها على مقتضى هواه وهو يعلم في قرارة نفسه أن هذا التفسير للآية الذي يطرحه مجرد أمنية أكثر من كونه يقين بمعنى الآية فهو في الحقيقة يتمنى فقط أن يكون معنى الآية كما يريد. تأمل في كثير من التفسيرات والتأويلات والتجديدات التي تطرح اليوم للنصوص الشرعية أليس أكثرها مجرد أمنيات تأويلية يعلم ملقيها وكاتبها قبل غيره أنه يتمنى فقط!

بقلم: إبراهيم السكران
329
العلم.. بين الإيجاز وكثرة البيان | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم.. بين الإيجاز وكثرة البيان


وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

بقلم: ابن رجب الحنبلي
242
مفاهيم تحتاجها الأمة ج1 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج1


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
624
مناظرة ابن عباس مع الخوارج | مرابط
مناظرات

مناظرة ابن عباس مع الخوارج


كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حريصا على رجوع الخوارج إلى جماعة المسلمين فربما أنهم انحازوا عن صفوص المسلمين لشبهة أو شيء أشكل عليهم ومن هنا قرر أن يرسل إليهم ابن عباس رضي الله عنهما ليناظرهم ويجلي لهم الحق وهو ما حدث فعلا وفي هذا المقال نص المناظرة التي دارت بينه وبينهم والشبه التي ألقوها عليه ورده رضي الله عنه عليها

بقلم: النسائي
3411
الاستحداث.. بين العلوم المدنية والشرعية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاستحداث.. بين العلوم المدنية والشرعية


وهاهنا الفارق الجوهري الذي غاب في زحمة الفكر العربي المعاصر ذلك أن الاستحداث في العلوم المدنية: مؤشر إبداع مطلوب والاستحداث في العلوم الشرعية: مؤشر تراجع وانحطاط لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح يؤكد للصحابة هذين المنهجين المتعاكسين: ففي العلوم المدنية يقول لهم: أنتم أعلم بأمر دنياكم وفي العلوم الشرعية يقول لهم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

بقلم: إبراهيم السكران
386
سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

سقوط الجانب الأخلاقي في الغرب


مقتطف من كتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة لعبد الوهاب المسيري يذكر فيه أصل الإشكالية الأخلاقية في الغرب وكيف قادت النسبية المتزايدة إلى انهيار كل شيء تقريبا فالإنسان في النهاية يحتاج إلى وجود متجاوز يحتاج إلى إله فوق كل شيء وليس مثله شيء ولما تلاشت هذه الفكرة أصبح الإله الجديد هو الجسد

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1954