نشوء دولة التتار ج2

نشوء دولة التتار ج2 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

648 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وفاة جنكيز خان واجتياح بقية البلدان الإسلامية بعد وفاته بخمس سنوات

في عام (624هـ) توفي جنكيز خان، وترك وراءه إمبراطوريةً ضخمة جدًا من كوريا إلى منتصف بلاد إيران، ومن سيبيريا إلى المحيط الهندي، وبوفاته هدأت الأمور نسبيًا، ولكنها عادت إلى الاشتعال مرة أخرى بعد خمس سنوات، فأين كان المسلمون في هذه السنوات الخمس؟ لا شيء لا حركة، إذ لم يعتقد المسلمون أن ما يدور الآن في بلد مسلم سيدور في البلد الآخر بعد قليل، بل كل يبحث عن أمنه اللحظي المحدود فقط بحدود البلاد الضيقة التي يعيش فيها.
في سنة (629هـ) -يعني: بعد وفاة جنكيز خان بخمس سنوات- كان اجتياح بقية الأجزاء الغربية من إيران وأذربيجان.

 

اجتياح التتار لبلاد روسيا وأوروبا وتضييق الخناق على الخلافة العباسية

في سنة (630هـ) صعد التتار إلى الشمال، ودمروا روسيا بكاملها وقتلوا أهلها، وبالذات في موسكو، واستمروا إلى سنة (640هـ) يعني: أخذوا عشر سنوات في احتلال البلاد الروسية إلى أن وصلوا إلى موسكو في سنة (640هـ) ودمروها بكاملها.
ثم بدأ التتار يجتاح أوروبا اجتياحًا رهيبًا في سنة (641هـ)، ووصلوا إلى بولندا والمجر وكرواتيا، ودمروا كل هذه البلاد تمامًا.

ثم عادوا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، وبدأ الخناق يضيق على الخلافة الإسلامية في بغداد، ورأى التتار أن يتحالفوا مع النصارى في البلاد الإسلامية وحول البلاد الإسلامية، فبدءوا في مراسلتهم واستخدامهم كجواسيس داخل البلاد الإسلامية، وعقدوا حلفًا مع ملك أرمينيا الذي كان في ذلك الوقت نصرانيًا، ووعدوا النصارى إن هم تعاونوا معهم أن يعطوهم بيت المقدس، الذي كان قد حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

رأى التتار أيضًا أن يسيطروا على منطقة الأناضول -التي هي تركيا الآن- فوجهوا إليها جيوشًا وحاربوها، وقاومهم السلاجقة هناك، ولكن ظهرت حكومات ضعيفة في منطقة الأناضول، ما كان لهم من هم إلا شراء رضا التتار، فوافقت على الخضوع للتتار، وأن تنطلق الجيوش التترية من تركيا؛ للإحاطة بالخلافة الإسلامية العباسية في العراق من شمالها.

 

ظهور شخصية هولاكو والأساليب التي استخدمها لإسقاط العراق

ظهر بعد ذلك على هذه الصفحة من التاريخ رجل بشع يقال له: هولاكو، وكان ذلك في سنة (651هـ)، وكان ظهوره عندما تولى منكو خان زعامة دولة المغول، وكانت دولة المغول في ذلك الوقت من كوريا في شرق آسيا إلى بولندا في وسط أوروبا، وتولى زعامة هذه البلاد رجل اسمه منكو خان، وكان منكو خان أخًا لـهولاكو، فأرسل منكو خان أخاه هولاكو لاستكمال إسقاط ما تبقى من بلاد المسلمين، وجاء هولاكو إلى إيران؛ ليكون قريبًا من الأحداث.

إن شخصية هولاكو شخصية من أبشع الشخصيات في التاريخ، فهو رجل ليس له أي نزعة إنسانية، فقد كان يحب القتل ويتعطش للدماء بشكل مريع، وكان يمثل الجناح الأشد تطرفًا في دولة التتار، فإنه كان من دولة التتار أناس يعارضون هولاكو في حروبه الدموية البشعة، ولكنه كان هو الذي يسيطر على هذه الأمور، لقرابته من زعيم التتار في ذلك الوقت.

ماذا فعل هولاكو لإسقاط العراق؟ قرر أولًا أن يسقط طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من أبشع طوائف الشيعة، حتى إن كثيرًا من العلماء أخرجوا طائفة الإسماعيلية بأفكارهم من الدين الإسلامي بالكلية، وكانت هذه الطائفة تتمركز في غرب إيران وعلى حدود العراق، وكانت لهم قوة عسكرية ضخمة، فلم يرد هولاكو أن يدخل على الخلافة العباسية الموجودة في العراق وفي طريقه طائفة الإسماعيلية، فأراد أن يدمر هذه الطائفة، وكان العنف والإرهاب هو الوسيلة المناسبة لهم، وبالفعل تم له ما أراد، وأفنى طائفة الإسماعيلية بكاملها.

الأمر الآخر الذي قرره هولاكو لاحتلال العراق كان أمرًا في منتهى الدهاء، فبدلًا من أن يهلك جيوشه مع جيوش المسلمين الضخمة في منطقة العراق والشام والأناضول وما حولها؛ قرر أن يحدث انقسامًا حادًا في هذه المنطقة، فقرر أن يتعامل بالاتفاق مع مجموعتين رئيستين من المسلمين، يعطيهم الوعود والعهود بالتمكين لهم وإغداق الهدايا عليهم، ومساعدتهم في الوصول إلى ما يريدون من حكم وسلطان في نظير إسقاط الخلافة في العراق.

الطائفة الأولى التي تعامل معها هولاكو هي طائفة الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد قام هولاكو بمراسلة الأشرف الأيوبي ملك حمص، وكذلك راسل الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، ووعدهم أن يبقيهم في أماكنهم إذا ساعدوه، أو على الأقل يكونون على الحياد في حربه مع الخلافة العباسية، ووافق الأكراد على ذلك.

الطائفة الثانية التي تعاون معها هولاكو كانت طائفة الشيعة التي تعيش في العراق، وتعارض النظام الحاكم المتمثل في الخليفة العباسي في ذلك الوقت، وكان الخليفة لسوء فهمه لإدارة الأمور، وعدم تقديره الكافي للمسئولية؛ قد اختار أحدهم، وجعله أقرب المقربين إليه، فقد كان الوزير الأول للخليفة العباسي في الدولة التي تحارب التتار هو مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وهكذا استطاع التتار أن يصلوا إلى هذا الرجل، ودارت بينهم وبينه الاتفاقات والمراسلات التي تؤدي إلى إسقاط الخلافة، على أن يتولى الأمور بعد ذلك في بغداد هذا الرجل، تحت حماية تترية وتأييد من هولاكو.

وكان من نصائح التتار لـمؤيد الدين العلقمي أن يُهبِط تمامًا من معنويات الخليفة والمسلمين، أو يشككهم في أمر الانتصار على التتار، فأخبرهم أنه من المستحيل أن يحاربوا هذه الأعداد الهائلة من البشر بهذه الإمكانيات الضعيفة عند بلاد المسلمين، بل إنه طلب من الخليفة العباسي طلبًا غريبًا جدًا، والأعجب من ذلك أن الخليفة العباسي وافق على طلبه، طلب منه أن يقلل عدد الجيوش الإسلامية لإثبات حسن النوايا أمام التتار أنه لا يريد حربًا! فوافق الخليفة على ذلك، وقلل بالفعل من الجيش الإسلامي الموجود في بغداد، والجيش التتري على بعد خطوات في إيران.

 

شخصية الخليفة العباسي المستعصم بالله ومهادنته للتار

تعالوا لنأخذ نظرة على هذا الخليفة، حتى إذا قرأتم وصفه في كتب التاريخ لم تستغربوا، الخليفة هو المستعصم بالله، فيا لها من أسماء عظيمة جدًا في ذلك الزمن. يصفونه بأنه كان رجلًا عالمًا محبًا للعلم والعلماء، وكان رجلًا كريمًا محبًا للسنة ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يعني: أن المستعصم بالله كان رجلًا جيدًا في ذاته، لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، وإلى الكفاءة في إدارة الأمور، وافتقر إلى علو الهمة، وإلى الأمل في الصدارة أو التمكين، وافتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في وقته المناسب، وافتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب ونبذ الفرقة ورفع راية المسلمين، وافتقر كذلك إلى اختيار أعوانه؛ ففشت في بلاده بطانة السوء.

كان الخليفة جيدًا في عبادته وعقيدته، ولكنه لم يتعد ذلك إلى غيره، فهو أمام المجتمع والدولة والشعب لم يكن بالذي يستطيع أن يتحمل المسئولية، فقد كان في استطاعته في ذلك الزمن أن يعد -من داخل العراق فقط مائة وعشرين ألف فارس، فضلًا عن المشاة والمتطوعين، فقد كان جيش التتار الذي كان يحاصر بغداد مائتي ألف، فكان الأمل كبيرًا جدًا في رد الغزاة، ولكنه كان مهزومًا من الداخل، فاقدًا للروح التي تمكنه من المقاومة، لم يرب شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فكان لا بد أن يدفع الشعب كله والخليفة معهم الثمن، لم يدرك الخليفة أنه كان بإمكانه أن يكون عظيمًا من عظماء التاريخ، وخالدًا في الذكر بين الخالدين لو أنه اعتمد على ربه ثم على شعبه، لكنه مع الأسف اعتمد على بطانة السوء التي تؤخر كثيرًا ولا تقدم شيئًا.

ظهرت في بغداد دعوة للجهاد مع كل هذه الملابسات، قاد هذه الدعوة رجل اسمه مجاهد الدين أيبك، ورجل آخر اسمه سليمان شاه، وكان لهما الرأي في المقاومة، لكن الخليفة أخذ برأي الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي في مهادنة التتار، واقتربت اللحظات الأخيرة، وقرر هولاكو أن يأخذ الخطوات اللازمة لدخول بغداد، ولتحسين الصورة أمام الخلفاء ولتفتيت الشعوب التي قد تثور، أراد هولاكو أن يقوم بحيلة خبيثة وهو أن يطلب من الخليفة طلبًا ما، فإذا رفضه كان هذا إيذانًا بإعلان الحرب على بغداد، ولا بد أن يكون الطلب مستحيلًا حتى لا ينفذه الخليفة، طلب منه أن يرسل له بجيش يساعده في حرب طائفة الإسماعيلية في شمال إيران، ولو أن الخليفة العباسي أخرج هذا الجيش فإنه سيترك بغداد والعراق بلا جيش تقريبًا، ولو دخل التتار إلى بغداد عنوة ورفعوه عن الكرسي فلن يعيدوه إليه أبدًا، لذلك قرر الخليفة ألا يستجيب لطلب التتار بإخراج جيش لحرب طائفة الإسماعيلية وكانت هذه بداية الحرب.

 


 

المصدر:

محاضرة التتار وغزو العراق، للدكتور راغب السرجاني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #التتار #العراق
اقرأ أيضا
الضابط في الأمور المحدثة | مرابط
مقالات

الضابط في الأمور المحدثة


إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه: فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته.

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
239
مناظرات مع رستم قائد الفرس | مرابط
مناظرات

مناظرات مع رستم قائد الفرس


عندما طلب رستم ملك الفرس أن يرس له سعد رضي الله عنه بعض الرسل يجيبونه عما يسأل عنه ومن هنا أرسل سعد المغيرة بن شعبة ثم أتبعه بربعي بن عامر ثم حذيفة بن محن وأخيرا المغيرة بن شعبة مرة أخرى وفي كل مرة كان يدور حوار يشبه المناظرة بينهم وبين رستم وهذا تفصيل ما دار

بقلم: ابن كثير
2056
غيرة الأب | مرابط
اقتباسات وقطوف

غيرة الأب


الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها

بقلم: ابن القيم
210
شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب تزمت بغيض


يقول بعض المعترضين: الحجاب تزمت وتعصب وتكلف في اللباس وتضييق على النفس وإمعان في السير في مضايق الحرج والإعنات هكذا لسان من يعادون الحجاب وينصبون له لواء البغض فهل لكلامهم رصيد من صواب وهل يستحق شيئا من الاعتداد بين يديكم الإجابة على هذه الفرية

بقلم: سامي عامري
904
لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟ | مرابط
أباطيل وشبهات الإلحاد

لماذا نحتاج إلى الخالق طالما عرفنا القوانين؟


يفترض الملحد أن القوانين تكفي لخلق الكون وظهوره وقد اعتمد بعض الملحدين على فكرة قانون الجاذبية وأنه كاف لظهور الكون وبغض النظر عن سقوط هذا الزعم ذاتيا بمجرد التفكير في مصدر قانون الجاذبية أو من الذي قننه أو من الذي أعطاه صفة التدخل وإظهار الأثر؟ بغض النظر عن هذه البديهيات الأولية فإن قانون الجاذبية لا يؤدي إلى دحرجة كرة البلياردو! فالقانون وحده عاجز عن أي شيء بدون ظهور الشيء.

بقلم: د. هيثم طلعت
282
عبادات ميسورة | مرابط
مقالات

عبادات ميسورة


ومن العبادات الميسورة التي لا يعجز أحد عنها: عبادة جميلة هي زكاة العلم وهو أنك إذا سألك أحدهم عن معلومة قلها كاملة مثلما ساقها لك رب العالمين عن طريق أحدهم... ابعثها لكل الناس أفدهم بها وكذلك عبادة الرضا الرضا بما قسمه الله لك أيا كان لأنه هو الأنسب لك في كل الأحوال

بقلم: محمد لبيب
374