1- تفتت كيان الشمال الإفريقي بعد سقوط دولة الموحدين
حيث تحملت دولة بني مرين حمل الجهاد وحدها في الأندلس، إلا أنها ضعفت وعجزت عن أداء رسالتها الجهادية في الدفاع عما تبقى للإسلام في الأندلس.
2- سعي ممالك إسبانيا نحو الاتحاد
وتم ذلك في الزواج السياسي الهام الذي بين (فرناندو) الذي أصبح ملكًا لمملكة أرجون وإيزابيلا التي تبوأت عرش مملكة قشتالة فيما بعد، ثم اتحدت المملكتان النصرانيتان، وتعاونتا معًا بعد اتحادهما على القضاء كلية على سلطة المسلمين السياسي في الأندلس.
3- الانغماس في الشهوات والركون إلى الدعة والترف وعدم إعداد الأمة للجهاد.
يقول المؤرخ النصراني كوندي: العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.
أما شوقي أبو خليل فيقول: والحقيقة تقول: إن الأندلسيين في أواخر أيامهم ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة والمجون وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم. كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، الذين كانوا يتدربون على السلاح منذ نعومة أظفارهم، ويرسلون إلى الصحراء ليتمرسوا على الحياة الخشنة الجافية. وغدا التهتك والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة والذهب واللآلىء، لقد ديست التقاليد وانتشر المجون، وبحث الناس عن اللذة في مختلف صورها، فكانت الخمور والقيان والمتع، وأقبلوا على الحياة يعبُّون من بحرها ويسكرون بعطرها، لقد استناموا للشهوات والسهرات الماجنة، والجواري الشاديات، وبحكم البديهة، فإن شعبًا يهوي إلى هذا الدرك من الانحلال والميوعة والمجون لا يستطيع أن يصمد رجاله لحرب أو جهاد، أو يتكون منهم جيش قوي كفء للحرب والمصاولة.
لقد تنافس الولاة والحكام في الجواري حتى أصبحت ساحات للمعارك والقتال، وأصبح الاقتران بالنصرانيات سُنة متبعة بينهم، وقفْ عند هذه الحادثة: ذكر المؤرخون أن وفاة ابن هود عام (635هـ) كانت على يد وزيره محمد الرميمي، بسبب النزاع حول فتاة نصرانية لابن هود، فدبر له مكيدة قتل بها.
أهذه قيادة تستحق أن تحكم رقاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ دخل المسلمون الأندلس وأصبحوا سادتها عند ما كان نشيد طارق بن زياد في العبور (الله أكبر) وبقينا فيها زمنًا، حين كان يحكمها أمثال عبد الرحمن الداخل، عندما قُدم إليه خمر ليشرب قال: «إني محتاج لما يزيد في عقلي لا ما ينقصه».
يقول الدكتور عبد الرحمن الحجي عن الفاتحين الأوائل في الأندلس: كانت غيرة هؤلاء المجاهدين شديدة على إسلامهم، فدوه بالنفس وهي عندهم له رخيصة، فهو أغلى من حياتهم، أشربت نفوسهم حُبه، غدا تصورهم وفكرَهم ونورَهم وربيعَ حياتهم.
وضاعت ممالك الأندلس من أيدي المسلمين عندما كان نشيد أحفاد الفاتحين:
دوزن العود وهات القدحا راقت الخمر والورد صحا
وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام (456هـ) خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة، فكانت وقعة بطرنة التي قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلى:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا
ماكان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم يكن ببطرنة ماكانا
4- الاختلاف والتفرق بين المسلمين
لو نظرت إلى تاريخ العلاقات بين مملكة غرناطة ودولتي بني مرين وبني عبد الواد والدولة الحفصية لوجدت أمرًا فظيعًا، وصل إلى حد الاشتباك والقتال بين المسلمين، بل أكثر من ذلك حيث تحالف المسلمون مع النصارى ضد إخوانهم في العقيدة من أجل شهوة السلطة، وكان هذا التفرق الذميم منذ ملوك الطوئف، بل إن التفرق من أبرز سمات عصر ملوك الطوئف حتى قال ابن المرابط واصفًا حال المسلمين:
ما بال شمل المسلمين مبدد فيها وشمل الضد غير مبدد
ماذا اعتذاركم غدًا لنبيكم وطريق هذا الغدر غير ممهد
إن قال لم فرطتم في دينكم وتركتموه للعدو المعتدي
تالله لو أن العقوبة لم تخلف لكفى الحيا من وجه ذاك السيد
إن سنة الله تعالى ماضية في الأمم والشعوب لا تتبدل ولا تتغير ولا تجامل، وجعل سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم الاختلاف، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه إمام المحدثين البخاري رحمه الله تعالى: «فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا». وفي رواية «فأهلكوا».
وعند ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود: «فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف».
قال ابن حجر العسقلاني: وفي الحديث والذي قبله الحض على الجماعة والألفة، والتحذير من الفرقة والاختلاف.
الاختلاف المهلك للأمة هو الاختلاف المذموم، وهو الذي يؤدي إلى تفرقها وتشتتها وانعدام التناصر فيما بين المختلفين، كل طرف يعتقد بطلان ما عند الطرف الاخر، وقد يتطور الأمر إلى استباحة قتال بعضهم بعضًا وإنما كان الاختلاف علة لهلاك الأمة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاختلاف المذموم الذي ذكرنا بعض أوصافه يجعل الأمة فرقًا شتى مما يضعف الأمة، لأن قوتها وهي مجتمعة أكبر من قوتها وهي متفرقة، وهذا الضعف العام الذي يصيب الأمة بمجموعها يجرِّىء العدو عليها، فيطمع فيها جمعيها ويحتل أراضيها، ويستولي عليها ويستعبدها، ويمسخ شخصيتها، وفي ذلك انقراضها وهلاكها.
إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي الاختلاف المذموم، لأن الاختلاف كان سببًا من الأسباب في ضياع الأندلس وهلاكها واندثارها.
5- موالاة النصارى والثقة بهم والتحالف معهم
حيث نجد أن تاريخ الأندلس مليء بالتحالف مع النصارى إلى أن بلغ ذروة رهيبة، واضطرب بسبب ذلك مفهوم الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله، بل هذه المعاني كادت تندثر.
إن الأمة حيث تخالف أمر ربها وتنحرف عن طريقه فلا بد أن يحل بها سخطه وتستوفي أسباب نقمته.
ـ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [المىء دة: 57].
ـ وقال تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28].
ـ وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة :22].
وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الأمة في الولاء والبراء فقال: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله».
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «من عادى لي وليًا فقد اذنته بالحرب».
فإذا كان هذا كله مسطرًا في كتاب ربها وسنة نبيها، وتخالفه فلا بد أن تُرى فيها سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
فهذا المعتضد بن عباد يذهب إلى ملك قشتالة، ويطلب منه الصلح ويدفع له المال، ونراه جاهدًا في حرب أمراء الطوئف واستئصالهم، أما كان الأفضل له أن يتحد مع إخوانه أمراء الطوئف؟!. وفي ذلك مصلحة له ولهم وللأندلس عامة وللإسلام وأهله، ولكنك لا تجني من الشوك العنب.
بل ضعف مفهوم الولاء والبراء حتى إن بعض حكام المسلمين استوزروا وزراء نصارى ويهود يصرفون أمور دولة الإسلام، فهل يؤمن الذئب على الغنم؟
وهذا أبو عبد الله الصغير سلطان غرناطة الأخير؛ يرسل رسالة إلى ملك الإسبان، يعتذر فيها عما فعله أبو عبد الله الزغل في إحدى المعارك ضد النصارى من قتل وجراح. ولما سقطت مالقة وحوّل مسجدها الأعظم إلى كنيسة ـ ردّه الله إلى أصله ـ أرسل أبو عبد الله الصغير إلى ملك النصارى يهنئه في ذلك، وسبب فرحه بسقوطها أنها كانت معقلًا لمنافسه عمه الزغل.
وعلى يد هذا الصغير قُدِّمت الأندلس للنصارى على طبق من ذهب، دون أن يجد النصارى في ذلك عناء يذكر.
وهل شكر النصارى لهذا المتخاذل خذلانه؟ لقد طردوه من الأندلس إلى المغرب، وفي ذلك يقول المقري ـ رحمه الله ـ ثم ارتحل السلطان أبو عبد الله إلى مدينة فاس ـ حرسها الله ـ وما زال أعقابه بها إلى الان من جملة الضعفاء السؤّال، بعد الملك الطويل العريض، فسبحان المعزّ والمذلّ المانع المانح لا إله إلا هو.
6- التخاذل عن نصرة من يحتاج النصرة
لقد كانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة معطلة كأنهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
لقد تخاذل ملوك الشمال الإفريقي عن نصرة ما تبقى من الإسلام والمسلمين في الأندلس، بسبب حروبهم الطاحنة المدمرة فيما بينهم، وانشغالهم ببعضهم، وأنهكت قواهم في حروب مريرة لم يستفد منها إلا أعداء الإسلام.
لقد كان التخاذل في الأندلس من زمن ملوك الطوئف، حيث يتخاذلون عن نصرة من يستحق النصرة. وإليك ما حدث في طليطلة:
قال د. عبد الرحمن الحجي عن سقوط طليطلة وموقف حكام الطوئف: قام حاكم بطليوس عمر بن محمد الأفطس الملقب بالمتوكل على الله ببعض واجبه تجاه طليطلة في محنتها، التي لو أدى بقية ملوك الطوئف ما يجب عليهم لما لاقت هذا المصير، ولحموها وحموا أنفسهم، كان بعضهم لا همَّ له إلا تحقيق مصلحته وإشباع أنانيته، وكأن الأندلس وجدت لمنفعته وليتربع على كرسي حكم؛ مهما كان قصير العمر ذليل المكان مهزوز القواعد.
وبسبب هذا التخاذل سقطت كثير من الولايات الأندلسية في الفترة الزمنية بين عامي (627هـ 655هـ)، وكان سقوط أكثر الممالك الإسلامية في الأندلس في أقل من ثلاثين عامًا، تنقلب خارطة الأندلس، ويتمكن منها عبّاد الصليب، وتصبح معظم الأندلس أرضًا نصرانية، تحارب الإسلام بكل ما تملك، من أجل سحقه ومحوه من الوجود.
يقول المقري في «نفح الطيب» واصفًا استعداد النصارى لإحدى المعارك: وجاء الطاغية دون بطء في جيش لا يحصى، ومعه خمسة وعشرون ملكًا، وذهب إلى طليطلة، ودخل على مرجعهم البابا، وسجد له تضرعًا، وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين في الأندلس، وأكد عزمه على ذلك.
ويقول جوستاف لوبون في «حضارة العرب» إن الراهب بليدا أبدى ارتياحه لقتل مئة ألف مهاجر من قافلة واحدة؛ كانت مؤلفة من (140) ألف مهاجر مسلم حينما كانت متجهة إلى إفريقية.
وكانت نتيجةَ تخاذل المسلمين واستماتة النصارى، كما قال الشاعر:
كم جامع فيها أعيد كنيسة فاهلك عليه أسىً ولا تتجلد
أسفًا عليها أقفرت صلواتها من قانتين وراكعين وسُجد
كم من أسير عندهم وأسيرة فكلاهما يبغي الفداء فما فُدي
كم من عقيلة معشر معقولة فيهم تود لو أنها في ملحد
كم من تقيٍّ بالسلاسل موثق يبكي لاخر في الكبول مقيَّد
ضجَّت ملىء كة السماء لحالهم وبكى لهم من قلبه كالجلمد
أفلا تذوب قلوب إخواننا مما دهانا من ردى أو من ردي
أفلا تراعون الأذمة بيننا من حرمة ومحبة وتودد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم وسيوفكم للثأر تتقلد
يا حسرتي لحميّة الإسلام قد خمدت وكانت قبل ذلك توقد
المصدر:
- علي محمد الصلابي، دولة الموحدين، ص293