كثيرٌ ممَّن يُطيل الجَدَلَ والمناظرة لا يُفرِّق بيْن بيان إثبات الحُجَّة وبين الإقرار بها، فيجعل لازمَ إثبات الحُجَّة أن يُقرَّ المحجوج بها، وهذا ليس من العلم والنظر، ولا مِن مقاصد التشريع في شيءٍ؛ وذلك أنَّ محل الإقرار في القلْب، واللِّسانُ ناقلٌ لِمَا في القلب، والصِّدق في هذا شاقٌّ جدًّا، حتى ربما ظهر الحقُّ لجميع السامعين، ويبقى المحاجَج في سَكْرة نفي ثبوت الحُجَج، والتهوين منها، والتعلُّقُ بالإقرار تعلقٌ بباطن لا يمكن الوصولُ إلى حقيقته، فإلْقاء الحُجَّة مع بيانٍ ووضوحٍ يفهمها المجادَل والسامِع لو أرادَا الفَهْم - كافٍ في قيام التكليف عليه؛ لذا لَمَّا كان أعظمُ تكليف - وهو الإسلام - يكفي في ثبوته الإسماعُ على وجهٍ ولُغةٍ يفهمها المخاطَب؛ قال - تعالى -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} (التوبة:6)، فكفَى السماعُ الواضح الصحيح، ولم يُنتظر الإقرارُ؛ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14)، فمن باب أوْلى الاكتفاءُ بما دونه مِن التكليف.
قال الإمام أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.
وليكتفي صاحب الحق بالقدر الكافي من البيان وتكراره، من غير استرسال مع لجاجة صاحب الباطل، فكل قول باطل يندثر ويتلاشى بانخفاض صوت صاحبه، وأما الحق فيعيش في النفوس ويبني بها صروحًا لا تندثر بموت أصحابها فضلًا عن أصواتهم (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
المصدر:
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، مقال متى يحسن الرد على المخالف.