الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج1

الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج1 | مرابط

الكاتب: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي

2430 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحرية والفردية

"الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة، فها هو عصر النهضة يأتي كرد فعل لفكر القرون الوسطى، ويتحرر الفرد من الانضباط الكاثوليكي الطويل" (1)

وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطا وثيقًا، فأصبحت الفرديّة تعني استقلال الفرد وحريته، وفي ذلك يقول جون ديوي "كانت فكرة الحرية مرتبطة في تقاليد مذهب الأحرار -عند كل من الأمريكيين والإنجليز بفكرة الفردية؛ أي: بالفرد نفسه من حيث هو فرد، وكان هذا الارتباط وثيقًا وكثير الورود على الألسنة، حتى خاله الناس أمرًا ذاتيًا أصليًا"(2)

وقد جاءت هذه الفردية بمفهومين مختلفين:

أحدهما: الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا المعنى هو الذي غلب على الفكر الليبرالي منذ عصر النهضة وإلى القرن العشرين، وهذا هو الاتجاه التقليدي في الأدبيات الليبرالية.

والثاني: الفردية بمعنى استقلال الفرد من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، هذا هو الاتجاه البراجماتي، وهو مفهوم حديث للفردية.. ومن خلال هذين المفهومين يتبين حقيقة الفردية في الفكر الليبرالي، وهو الأساس الذي تعود إليه الليبرالية، ومن خلاله يتضح معناها.

أولًا الفردية التقليدية:

يربط الليبراليون الفردية بالطبيعة البشرية، فحالة الطبيعة الأولى هي الصورة الحقيقية للإنسان، فيرى هوبز أن الطبيعة الإنسانية شريرة أنانية، تؤكد على الذات وتسعى لتحقيقها وحمايتها، ولكن جون لوك يختلف معه في أن الإنسان شرير، ويوافقه في تأكيده لذاته (3)

وقد كان هوبز أكثر أصالة في تصوره الليبرالي لحقيقة الإنسان من جون لوك (4)، مع أن لوك وصل لذات النتيجة بطريقة أخر ىحيث قرر الملكية الخاصة بصورة أنانية محضة.

فقد قرر لوك أن الله تعالى أعطى الأرض لبني آدم مشاعا بينهم، وجعل العمل هو المبرر الوحيد للملكية (5)، ولكن لوك وقع في تناقض خطير، حيث اعتمد في قوله بأن الله أعطى الأرض لبني آدم مشاعًا بينهم على أساس ديني خبري، ثم زعم أن العمل هو الوسيلة الوحيدة للملكية بناء على ما قررته الطبيعة، وهذا مستند عقلي، وقد أراد لوك أن يعطي العمل قيمة عليا فجعله أساس الحرية الفردية.

وقد بنى "كانت" نظريته الأخلاقية على استقلال إرادة الفرد في مقولته الشهيرة "إن الأخلاقية تنحصر في معاملة الأفراد كغايات" (6) ولهذا يقول "اعمل دائمًا بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونًا كليا للطبيعة.. واعمل دائمًا بحيث تعامل الإنسانية في شخصك، وفي أشخاص الآخرين كغاية لا بمجرد وسيلة.. واعمل بحيث تكون إرادتك -باعتبارك كائنًا ناطقًا- هي الإرادة المشرعة الكلية"(7)

وهو يقصد التأكيد على استقلال الفرد الذاتي، وأن إرادته يجب أن تكون إرادة حرة مستقلة، ولكن رؤية "كانت" جاءت نظرية وليست عملية، ولهذا اعتبرها جون ديوي أخلاقا صورية (8) 

المنفعة والفردية

وقد ارتبطت الفردية بالمنفعة التي ترى "أن الخير هو اللذة، والشر هو الألم، ومن هنا فإن أفضل حالة يمكن بلوغها هي تلك التي يبلغ فيها  تفوق اللذة على الألم أقصى مداه"(9)

وهذا النوع من الفردية نجده لدى بنثام(10)، فإن فكره الفلسفي يعتمد على منفعة فردية من خلال السعادة التي تتحقق عبر الملكية الخاصة، والتي تعني النفعية في صورتها الخالصة، وهي ملكية أي شيء قد يأتي منه فائدة أو مصلحة أو لذة، أو خير أو سعادة (11)، وقد كانت منفعة بنثام هي الوشيجة التي قرّبته من الليبرالية لدعم برنامجه القانوني المبني على المنفعة.

فالفردية والنفعية والأنانية مترابطة بصورة وثيقة، يقول ستيقن لوكس في كتابه الفردية: "فالمذهب الأنوي في الأخلاق، هو ذلك المذهب الذي يسلم بالمبادئ الأخلاقية بوصفها مبادئ فردية على نحو قاطع. لكن يوجد هناك مذهب يصل بتلك المبادئ الفردية إلى أقصى حد ممكن، ذلك المذهب يمكن أن نؤرخ له بصورة أساسية من القرن التاسع عشر، والذي سوف نطلق عليه من الآن فصاعدًا "المذهب الفردي في الأخلاق"(12) ويمكن القول بأن تطور الفردية والأنانية هو تطور مزدوج يحمل وجها إيجابيا؛ أي: تقدم الشخصية الفردية، كما يحمل وجهًا سلبيًا؛ أي: تقدم الأنانية من وجهة نظر المجتمع والفرد في آن واحد (13)

وتحقق الإنسان لفرديته لا يتعارض مع الوضع الاجتماعي العام؛ ﻷنه كلما زاد سعي الفرد لمصلحته الخاصة فإن قانون الطبيعة يقوم بتنظيم الأمور الفردية المتعددة لتؤدي النفع الاجتماعي العام، وهذه العملية التوفيقية بين الفرد والمجتمع نسبها الليبراليون إلى الطبيعة، وقد سماها آدم سميث "اليد الخفية" وهي التي قال عنها ريكاردو (14): "إن السعي وراء الميزة الفردية يرتبط بشكل يدعو إلى الإعجاب مع الخير العام للكافة"(15)


الإشارات المرجعية:

  1. تاريخ الفكر السياسي 358/1
  2. الحرية والثقافة ص33
  3. انظر: في فلسفة السياسة ص100
  4. السبب في خلاف لوك لهوبز هو أن طبقة البرجوازية أرادت تسويق فكرة الحرية الفردية التي تبرر لها كسب الأموال بأي طريق، ولكنها عدلت عن رأي هوبز لأنه ليس له قبول كرجل ملحد بالإضافة إلى أن الوحشية التي صور بها الإنسان ليس لها قبول نفسي، وأيضًا النتيجة التي توصل لها وهي ضرورة الاستبداد للخروج من حالة الطبيعة، وقد عدلت إلى لوك ﻷنه مسيحي، وخاطب المجتمع بطريقة دينية توصل للمطلوب، انظر الليبرالية إشكالية مفهوم ص68
  5. انظر نصوص جون لوك في كتاب: الليبرالية إشكالية مفهوم ص70
  6. تطور الفكر السياسي 89/4
  7. كانت أو الفلسفة النقدية ص199
  8. انظر: مفهوم الليبرالية عند جون ديوي ص65
  9. حكمة الغرب 213/2
  10. جيرمي بنثام: فيلسوف وعالم اقتصاد إنكليزي، ولد سنة 1748م، وتُعرف فلسفته بالبنثامية، وخلاصتها: أن المتعة هي غاية الحياة الأساسية، وأن هدف القانون هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.
  11. نقلا عن الليبرالية إشكالية مفهوم ص56
  12. المرجع السابق ص50
  13. المعجم النقدي لعلم الاجتماع ص415
  14. دافيد ريكاردو: عالم اقتصاد إنجليزي، ولد سنة 1772م، يعتبر مؤسس المدرسة الكلاسيكية في علم الاقتصاد، وقد تأثر بآرائه كل من توماس روبارت مالتوس وجون ستيوارت مل وكارل ماركس
  15. نقلا عن تطور الفكر السياسي 913/4

المصدر:
د. عبد الرحيم بن صمايل السلمي، حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها، ص146

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #الفردية
اقرأ أيضا
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
861
الحداثة الغربية والإمبريالية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحداثة الغربية والإمبريالية


إن هذا الإله الصناعي الحديث إغتال عرقا بأكمله العرق الأحمر أي السكان الأصليين في الأمريكتين وأخذ زبدة عرق آخر العرق الأسود عن طريق النخاسة واستعباد ملايين مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة مليون إنسان باعتبار أن عبدا واحدا يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله تسعة عبيد

بقلم: عبد الوهاب المسيري
468
ماذا كان يفعل ابن تيمية إذا أشكلت عليه مسألة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ماذا كان يفعل ابن تيمية إذا أشكلت عليه مسألة


الفائدة الحادية والستون حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم

بقلم: ابن القيم
498
الخوف من الله حقيقته وفضله ج1 | مرابط
تفريغات

الخوف من الله حقيقته وفضله ج1


من العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن ينقل عن بعض المتصوفة سواء كانوا نساء أو رجالا أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من نارك إلى آخر الخرافة المزعومة لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى بل -كما ذكرنا- كلما كان مقربا إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يحمل الناس أن يعيشوا هكذا ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه ولا -أيضا- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم ف...

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
647
الشعر الجاهلي واللهجات ج3 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللهجات ج3


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يناقش موضوع الشعر الجاهلي واللهجات وما قاله طه حسين بخصوص ذلك ثم الرد عليه

بقلم: محمد الخضر حسين
637
لماذا نحب الرسول الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الثالث


آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت هذه الآثار كانت عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا أو ما بقي منها مع الصحابة بعد موته لكن الآن آثاره صلى الله عليه وسلم فقدت ويصعب نسبتها إليه عليه السلام أي: بعض الناس يقولون: في تركيا هناك شعرة وسيف لكن ليس بمؤكد نسبتها له صلى الله عليه وسلم فلذلك لا يجوز التبرك بشيء منها بعد موته مادمنا غير متأكدين من أنها له عليه الصلاة والسلام

بقلم: محمد المنجد
694