فالواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم لا معقب لحكمه، كما قال: ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ).[الأنبياء:23]
والله عز وجل عدل لا يظلم أحدًا من خلقه مثقال ذرة ( وما ربك بظلام للعبيد ) [فصلت:46] (إن الله لا يظلم مثقال ذرة ).[النساء:40]
وأن يعتقد أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال سبحانه وتعالى: ( من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون) [الأعراف: 187] وقوله تعالى: (ومن يضلل فلا هادي له) [الأعراف:168] وغير ذلك من الآيات. لكن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد إلا على فعله وكسبه وتصرفه. فقد أعطاه عقلًا وسمعًا وإدراكًا وإرادة ليعرف الخير من الشر، والضار من النافع، قال تعالى: ( لمن شاء منكم أن يستقيم) [التكوير:28] وقال: سبحانه: ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس:9-10] ( إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا) [الإنسان:3] وبذلك تعلقت التكاليف الشرعية به من الأمر والنهي، واستحق الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية.
فقولك (فلماذا نحاسب على ما ليس لنا فيه تصرف) خطأ ظاهر، فإن كل عاقل يدرك أنه فاعل بالاختيار، يأتي المعصية باختياره وإرادته، كما يقوم بالطاعة بإرادته واختياره، وعلم الله السابق بحال هذا الإنسان ومصيره لا يعني أن الإنسان مجبور على سلوك طريق معين، بل قد جعل الله له الاختيار. ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).[الكهف:29]
وأما قولك ( وبما أننا خلقنا على قدرات ونفوس مختلفة….فلماذا الواجبات واحدة).
فجوابه: أن الشريعة لا تساوي بين الناس في التكاليف والواجبات، فأهل الأعذار لهم من الأحكام ما يناسبهم، كما أن لأهل القدرة ما يناسبهم،ولهذا شرع التيمم، والمسح على الخفين، وقصر الصلاة، والصلاة قاعدًا ومستلقيًا، والفطر في الصوم، والحج عن الغير، وغير ذلك من الأحكام المعلومة التي تراعي حال الكبير والمريض والعاجز.
وأما الفروق الحاصلة بين الناس في الهمة والإرادة والعزيمة، فهذه راجعة إليهم، وهم مطالبون بترقيتها وتنميتها، ويتفضل الله على من يشاء من عباده بمزيد إحسانه وتوفيقه، لا سيما لمن أقبل عليه وأخذ بأسباب الهداية قال تعالى: ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) [مريم:76] وقال سبحانه: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).[العنكبوت:69]
وأما قولك ( وما دامت القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالناتج أن الأمر ليس لنا فيه شأن به) جوابه: أنك مطالب بالعمل الذي هو راجع لاختيارك وإرادتك - كما سبق- ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حيث قالوا: فيم العمل؟ " عملوا فكل ميسر لما خلقه" متفق عليه.
فلا أعجب في هذا الإنسان الذي يدع ما أمر به، وهو في مقدرته، ويجادل في شيء غائب عنه، لم يطلب منه البحث فيه، وهو يرى الناس من حوله يجتهدون ويحصلون ويفوزون بالدرجات.
وقولك ( فربما أكون ملتزمًا وأعمل كل الواجبات ثم يقلب الله قلبي، فأنقلب دون ذنب منى) فإن الله تعالى ( لا يضيع أجر من أحسن عملًا ) وما هو بظلام للعبيد، وهو يحب المحسنين، وهو عند ظن عبده به، وهو أرحم بعبده من الوالدة بولدها.
ولهذا تكون سوء الخاتمة -عياذًا بالله من ذلك- لأهل التفريط والتقصير، أو لأهل الاجتهاد المدخول الذي صاحبه رياء وسمعة، فهو محسن فيما يبدو للناس، لكن الله أعلم بنيته وقلبه.
فالواجب على السائل أن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأنه هو الغفور الرحيم الكريم الجواد، يسبغ على عباده ألوان النعم رغم تقصيرهم وعصيانهم، بل مع كفرهم وطغيانهم.
وعليك أن تشتغل بما ينفعك، وأن تدأب في تحصيل الطاعة لتفوز مع الفائزين، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وكن متشبها بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، لم يكن معرفتهم بالقدر وسبق القلم، وآيات الهداية والإضلال موجبًا لقعودهم عن الأعمال، بل دفعهم ذلك إلى بذل ما في وسعهم رضي الله عنهم، فهنيئًا لهم، ونسأل الله أن يلحقنا وإياك بهم، وأن يدخلنا في زمرتهم.
والله أعلم. (1)
يجب على العبد أن يؤمن بأمرين:
الأول: أن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بإرادته ومشيئته، وأنه علم ما سيكون، وكتب ذلك كله في كتاب، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه سبحانه وتعالى عدل لا يظلم أحدا مثقال ذرة، لأنه غني عن خلقه، لا يحتاج إليهم، وهو المتفضل عليهم في جميع الأحوال، فكيف يظلمهم!
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر/49، وقوله: ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) الحديد/22، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه مسلم (2653).
والأمر الثاني: أن العبد له مشيئة واختيار، بها يفعل ويترك، ويؤمن ويكفر، ويطيع ويفجر، وعليها يحاسب ويجازى، مع أن الله سبحانه يعلم ما يكون عليه، وما سيختاره، وكيف سيكون مصيره، لكن الله لم يجبره على فعل الشر، ولا اختيار الكفر، بل وضح له الطريق، وأرسل له الرسل وأنزل له الكتب، ودله على الصواب، فمن ضل فإنما يضل على نفسه، ومن هلك فإنما يهلك عليها.
قال تعالى: ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) الكهف/29، وقال: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) الإنسان/3، وقال: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزلة/7، 8، وقال: ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الأعراف/43، وقال: ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) السجدة/14. فبين سبحانه أن الإنسان يؤمن ويعمل والصالحات، باختياره ومشيئته، فيدخل الجنة، أو يكفر ويعمل السيئات باختياره ومشيئته، فيدخل النار.
وكل إنسان يعلم من نفسه ومن النظر إلى من حوله، أن أعمالنا - من خير وشر، وطاعة ومعصية – نفعلها باختيارنا، ولا نشعر بسلطة تجبرنا على فعلها، فأنت تستطيع أن تسب وتشتم وتكذب وتغتاب، كما تستطيع أن تحمد وتسبح وتستغفر وتصدق وتنصح، وتستطيع أن تمشي إلى أماكن اللهو والباطل والمنكر، كما تستطيع أن تمشي إلى المساجد وأماكن الخير والطاعة، وهكذا يستطيع الإنسان أن يضرب بيده، ويسرق ويزوّر ويخون، ويستطيع أن يساعد المحتاج، ويبذل الخير، ويقدم المعروف بيده. وكل إنسان يؤدي شيئا من هذه الأعمال، لا يشعر بالجبر ولا بالقهر، بل يفعلها باختياره وإرادته، ومن ثم فإنه سيحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وما كتبه الله تعالى وقدره، أمر لا يعلم به العبد، ولا يصح له أن يعتمد عليه، أو يحتج به، كما لا يصح أن يعترض على ربه، لم جعلت هذا في الأشقياء، وذاك في السعداء، فإن الله لم يظلم هذا الشقي، بل أعطاه المهلة والقدرة والاختيار، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب، وذكّره وأنذره بأنواع من المذكّرات، كالمصائب والابتلاءات، ليتوب إليه، ويقبل عليه، فإذا اختار طريق الغواية، وسلك سبيل المجرمين، فلن يضر إلا نفسه، وهو من أهلك نفسه، كما قال تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) الشمس/9، 10
وقال: ( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) آل عمران/117
وقال: ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) التوبة/70
والحاصل أن الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق، الذي قدر الأشياء وكتبها، وميز السعداء من الأشقياء، لا يعني أن الله جبر عباده على الطاعة أو المعصية، بل أعطاهم القدرة والإرادة والاختيار، فبها يفعلون، وعليها يحاسبون، وما ربك بظلام للعبيد.
والله أعلم. (2)
المصدر:
- موقع إسلام ويب
- موقع الإسلام سؤال وجواب