الأصل الذي خلق الله البشرية عليه، وأوجد آدم وحوّاء مفطورين عليه: أن الرجل يتكسّب ويعمل، والمرأة في قرارها ترعى شأنها وشأن زوجها وبيتها وذريتها، والله حينما جعل آدم وحواء في الجنة لم يكن فيها نصب ولا شقاء، وابتلى الله آدم وحواء بإبليس، وحذر آدم فقال "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى" .. قال "يخرجنكما" أي تخرجان جميعًا، ولكن "تشقي" أنت وحدك، لأنك أنت الذي تتكسب وتعمل وتكدح، وتنفق على زوجتك، وقد كنت مكفيا قبل ذلك في الجنة، وهذا مع أن آدم وحواء وحدهما في الأرض، لا توجد بشرية معهما؛ فلا خوف من الاختلاط، ولكن فطرة الله التي ركّب عليها الرجل والمرأة في تقاسم أعمال الحياة.
قصة امرأة عمران
الاختلاط تعرف خطره الفطرة البشرية الصحيحة غير المبدَّلة، والشرائع السماوية قبل رسالة الإسلام؛ فامرأة عمران أم مريم بنت عمران كانت عجوزًا عاقرًا، لا تلد، فجعلت تغبط النساء على أولادهن، فقالت: اللهم إن علي نذرًا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به؛ فيكون من سدنة المسجد وخدّامه، عابدا متفرغًا لذلك "إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" لكنها رزقت بنتا، "فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ" .. اعتذرت عن يمينها لربّها "إني وضعتها أنثى" والأنثى لا تصلح لذلك؛ فالتفرغ للمساجد والتعبد فيها من خصائص الرجال، والأنثى لا تختلط بهم؛ فأبطل الله نذرها لهذا السبب.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن جرير أيضًا، عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بَزَّة أن عكرمة قال "فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى" قالت: ليس في الكنيسة إلا الرجل؛ فلا ينبغي أن تكون مع الرجال، أمها تقوله، فذلك الذي منعها من أن تجعلها في الكنيسة، وينفذ نذرها بنذرها لخدمة الكنيسة.
قال الجصاص في أحكام القرآن : وإنما كُراه ذلك للمرأة في المسجد، ﻷنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد، وذلك مكروه لها، سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة.
هكذا كانت شريعة بني إسرائيل في النساء، حتى في مواضع الصلاة يتمايزن مكانا عن الرجال، فلما تمادين، مُنعن من حضور الصلاة مع الرجال؛ روى عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح، عن عائشة قالت: كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرّفن للرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد.
حال موسى عليه السلام مع المرأتين
وهكذا قص الله عن موسى عليه السلام حاله مع المرأتين وابتعادهما عن الرجال "وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ"
ابتعدت المرأتان عن الرجال، فلم تريدا المخالطة، فقضى موسى حاجتهما، قالت إحداهما "يأبت استئجره" يعني يقضي عنا العمل ونبتعد عن ميادين الرجال، ولما كان استئجار موسى يُفضي إلى قربه الدائم من المرأتين، قال أبوهما "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ" حتى تثبت الحرمة ويأمن من المحظور.
وهكذا لما قضى موسى أجل المؤاجرة أخذ أهله وارتحل؛ قال الله "فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ" قال لزوجته "امكثوا" لتبقى بعيدا، ويذهب وحده إلى النار ومن حولها من الرجال ليحادثهم ويؤانسهم ويأنسوا به، ثم يقضي حاجته منهم؛ وهذا ليس موضعا للمرأة فأبقاها بعيدا عنه.
حال زوج إبراهيم عليه السلام مع الضيوف
وكانت هذه الحال قبل إسرائيل وبني إسرائيل في مفارقة النساء مجالس الرجال ودواوينهم، وإن خدمن الرجال بالطعام والشراب على سبيل الاعتراض إلا أنهن لا يجالسن الرجال، بل يبتعدن عن مواضع قرارهم إلا عابرات، فلما جاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة رجال ضيوف، جالسهم إبراهيم وفارقتهم زوجته سارة، فكانت قائمة بعيدا عن موضع جلوسهم، كما في قوله تعالى "فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" .. فلما كانت لزوجة إبراهيم سارة صلة بالقصة مع الملائكة، ذكر حالها أنها "قائمة"، حتى لا يظن أنها معهم جالسة كجلوس إبراهيم، بل كانت في ناحية عنهم وقائمة أيضًا.
لأنه لا معنى لكونها قائمة، وهي بجوارهم لا تختلف عنهم في مجلسهم إلا بقيامها، ولو لم يكن لذكر حالها "قائمة" حاجة شرعية وأخلاقية، لما ذكرها، وإنما أريد بيان عفة زوج إبراهيم وطهارتها، ولا يظهر أن المعنى المراد هو القيام بخدمتهم فقط، ﻷن الله نسب الضيافة لإبراهيم، فقال "فما لبث أن جاء بعجل حنيذ" بل إن الله نسب دخول الملائكة في صورة ضيوف على إبراهيم، لا على أهله، فقال "إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ" ثم قال "فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ" تأكيدًا إلى أن أهله في موضع آخر غير مكان دخولهم وهو مكان الأضياف.
"فراغ إلى أهله" يعني: إبراهيم "فجاء بعجل سمين فقربه إليهم وقال ألا تأكلون" فهو الذي قرب الطعام، وهو الذي دعاهم إليه وليس زوجته، وإن كانت زوجته معه مُعينة له في الإتيان بالعجل وطبخه وتقديمه، إلا أن الله ما نسب ذلك إلا لإبراهيم؛ لمقام نبوته ولتحقق الإكرام لضيوفه، فهم ضيوفه لا ضيوف أهله، ولما احتيج لذكر زوجته، ذكرها قائمة، وهذا يبين أنها لا تجالسهم، وظاهر السياق: أنه لو لم يكن في الأمر بشارة لها بالولد ما ذُكرت في القصة.
حال النساء في الإسلام
وهكذا الأمر متقرر في مفارقة النساء مجامع الرجال، حتى لدى الجاهليين واليهود والنصارى قبل الإسلام وبعد البعثة، قال تعالى فيمن يخاصم محمدا في عيسى عليه السلام "فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " إشارة إلى عدم اختلاطهم، فجعل كلا يحضر ما يناسبه لا يختلط بغيره؛ فالصبيان لا يزاحمون مجالس الكبار؛ توقيرًا وصونا لها عن اللغط، والنساء لا يعتاد حضورهن مجالس الرجال؛ غيرة وصونا للعرض؛ وهذا دليل على استقرار الأمر عندهم جميعًا.
وهكذا كان حال الأنصار في المدينة؛ فلم تكن نساؤهم يجالسن رجالهم في المجالس في الأعراس والسمر، بل ولا مجالس العلم، فكانت أعراس النساء ناحية عن الرجال، ففي الصحيحين عن أنس، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم نساء وصبيانا من الأنصار مقبلين في عرس، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال "اللهم، أنتم من أحب الناس إلي"، فكان عرس النساء وأطفالهن إلى ناحية غير ناحية الرجال.
نزول الوحي على حال الناس وفطرتهم
وكانت نصوص الوحي تنزل مناسبة لحال الناس وطبعهم الذي تسير عليه حياتهم، ومن ذلك قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ" فنهى الله القوم، وخص النساء بالنهي عن السخرية بالنساء، لأن الأصل أن النساء لا يتعاملن مع الرجال، ولا يطّلعن على معايبهم بالمخالطة، وإنما مخالطتهن بينهن، فأكثر سخرية النساء بعضهن من بعض؛ فلم ينه الرجال عن السخرية بالنساء، ولا النساء أن يسخرن بالرجال، مع أن النهي واحد، ولكن وقوع ذلك نادر؛ لضعف أسبابه وهو المخالطة من المعاملة والمجالسة، فنزل الوحي على حال الناس وفطرتهم الصحيحة.
المصدر:
- الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، الطبعة الثالثة، ص19