شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني

شبح الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد أسد

2102 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن الفظائع المروعة التي اقترفها الفرسان الصليبيون الأتقياء، وإن التخريب والانحطاط اللذين خلفوهما في بلاد الإسلام التي اجتاحوها ثم خسروها، كل هذه هي التي أنبتت البذور السامة لعداوة طويلة الأمد ولصلات متحرّجة بين الشرق والغرب، ولولا ذلك لما كان ثمة ضرورة إلى مثل هذا الشعور، ثم لو أن الحضارتين الإسلامية والغربية كانتا، كما نعتقد، مختلفتين تمامًا في أسسهما الروحية ونظامهما الاجتماعي لوجب أن تكونا قادرتين على التسامح فيما بينهما والعيش جنبا إلى جنب على اتصال ودّي.

 

ولقد كان في الجانب الإسلامي دائمًا رغبة مخلصة للتسامح المتكافئ وللاحترام. وحينما أرسل الخليفة هارون الرشيد رسله إلى الإمبراطور شارلمان كانت هذه الرغبة هي التي تحدو به إلى ذلك، ولم يكن ذلك منه مجرد رغبة في الاستفادة المادية من صداقة الفرنجة. أما أوروبة فكانت في ذلك الحين من الناحية الثقافية فطرية إلى حد أنها لم تقدر هذه الفرصة حق قدرها، وإن كانت لم تبد لها كرها. وأخيرًا ظهر الصليبيون فجأة عند الأفق وقطعوا هذه الصلات بين الإسلام وبين الغرب.

 

الأثر الثقافي للحروب الصليبية

 

ولم يكن ذلك لأن الصليبيين راموا الحرب، فإن حروبا كثيرة كانت قد نشبت بين الشعوب ثم نشبت فيما بعد في مدى التاريخ الإنساني، وكم من عداوة انقلبت بعد ذلك صداقة، إلا أن الشر الذي بعثه الصليبيون لم يقتصر على صليل السلاح ولكنه كان قبل كل شيء وفي مقدمة كل شيء شرًا ثقافيا. لقد نشأ تسميم العقل الأوروبي عما شوّهه قادة الأوروبيين من تعاليم الإسلام ومثله العاليا أمام الجموع الجاهلة من الغرب. وفي ذلك الحين استقرت تلك الفكرة المضحكة في عقول الأوروبيين من أن الإسلام دين شهوانية وعنف حيواني، وأنه تمسك بفروض شكلية وليس تزكية للقلوب وتطهيرًا لها، ثم بقيت هذه الفكرة حيث استقرت، وفي ذلك الحين أيضًا نُبز الرسول محمد بقولهم "كلبي".

 

امتداد الحمية الصليبية

 

لقد بذرت بذور البغضاء، إن حمية الصليبيين الجاهلية كان لها ذيولها في أماكن كثيرة من أوروبة فشجع ذلك نصارى الأندلس على الحرب لإنقاذ بلادهم من نير الوثنيين. وأما تدمير إسبانيا المسلمة (الأندلس) فقد اقتضى قرونًا كثيرة حتى تم.. ولما تطاول أمد هذا القتال على وجه الحصر أخذ الشعور ضد الإسلام في أوروبة ينشب جذوره ثم يثبت. ولقد انتهى باستئصال شأفة العهد الإسلامي في إسبانية بعد اضطهاد بالغ الوحشية والقسوة، مما لم يشهده العالم قط، وإن كانت أصداء الفرح قد تجاوبت في أوروبة على أثر ذلك، مع العلم بأن النتائج التي تلت كانت القضاء على العلوم والثقافة والتبذل بها جهل العصور الوسطى وخشونتها.

 

ولكن قبل أن يتاح لصدى هذه الحوادث أن يخفت في إسبانية حدث حدث ثالث عظيم الأهمية، زاد في فساد الصلات بين العالم الغربي وبين الإسلام: ذلك هو سقوط القسطنطينية في يد الأتراك. لقد كانت أوروبة ترى بقية من الزهو اليوناني والروماني القديم على بيزنطيوم (القسطنطينية) وكانت تنظر إليها على أنها حصن أوروبا ضد برابرة آسية، وبسقوط القسطنطينية فُتح باب أوروبة على مصراعيه للسيل الإسلامي. وفي القرون التي تلت والتي امتلأت بالحروب لم تبق عداوة أوروبة للإسلام قضية ذات أهمية ثقافية فحسب، بل ذات أهمية سياسية. وهذا زاد في اشتداد تلك العداوة.

 

ومع هذا كله فإن أوروبة قد استفادت كثيرًا من هذا النزاع. إن النهضة أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص كانت تُعزى في كثير إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب. ولقد استفادت أوروبة أكثر مما استفاد العالم الإسلامي ولكنها لم تعترف بهذا الجميل وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام، بل كان الأمر على العكس، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ثم استحالت عادة.

 

ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذُكرت كلمة "مسلم" ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوروبي رجلا كان أم امرأة. وأغرب من هذا كله انها ظلت حيّة بعد جميع أدوار التبدل الثقافي. ثم جاء عهد الإصلاح الديني حينما انقسمت أوروبة شيعا ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها في وجه كل شيعة أخرى، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها. بعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر.

 

وإن من أبرز الحقائق على ذلك أن الفيلسوف والشاعر الفرنسي فولتير، وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر، كان في الوقت نفسه مبغّضًا مغاليا للإسلام ولرسول الإسلام.

 

وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ فيه علماء الغرب يدرسون الثقافات الأجنبية ويواجهونها بشيء من العطف، أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزّب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبة وبين العالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر. ثم أصبح احتقار الإسلام جزءا أساسيا من التفكير الأوروبي.

 

والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوّهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من الوثنيين. غيير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذا عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها. أما تحامل المستشرقين على الإسلام غريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين الأولين.

 

كيف استمر الحقد الأوروبي الصليبي؟

 

ولقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف يتفق أن نفورًا قديمًا مثل هذا -وقد كان دينيا في أساسه وممكنا في زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية- يستمر في أوروبة في زمن ليس الشعور الديني فيه إلا قضة من قضايا الماضي؟

 

ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدًا، فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التي تلقّنها في أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة -والتي كانت من قبل تدور حول تلك الاعتقادات المهجورة- في قوّتها تتحدى كل تعليل عقلي في جميع أطوار ذلك الإنسان، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلام. فعلى الرغم من أن الشعور الديني الذي كان السبب في النفور من الإسلام قد أخلى مكانه في هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية، فإن النفور القديم نفسه قد بقي عنصرا من الوعي الباطني في عقول الأوروبيين.

 

وأما درجة هذا النفور من القوة فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر، ولكن وجوده لا ريب فيه. إن روح الحروب الصليبية -شكل مصغر على كل حال- مازال يتسع فوق أوروبة، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقف يحمل آثارا واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال.

 


 

المصدر:

  1. الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد، ص55
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
لماذا لا نستمتع بالنعم | مرابط
فكر مقالات

لماذا لا نستمتع بالنعم


حديث رائع للدكتور إياد قنيبي يدور حول استشعار النعم التي وهبنا الله إياها وأحاطنا بها وكيف أن كثيرا من المسلمين لا يدرك هذه النعم أو يشعر بها فقد بهتت أدوات استشعار النعم في داخله وبات لا يولي نظره إلا لأهدافه التي لم يحققها أو فشل في تحقيقها فيغيب عن ناظريه قدر النعم العظيمة التي ما زال يملكها

بقلم: د إياد قنيبي
2379
موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

موقف من حياة سيدنا عمر رضي الله عنه


إن كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله وهو آمر بالمعروف وناه عن المنكر ولهذا كان الصحابة الكرام جميعا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما

بقلم: سفر الحوالي
476
سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4 | مرابط
تفريغات

سلسلة كيف تصبح عالما: الدرس الرابع ج4


إن الإسلام دين يحرر العقل ويهتم جدا بالحجة والبرهان والدليل فهو يأمر المسلمين بالتدبر والتفكر في كل شيء حتى إنه يناقش أمورا في غاية الحرج يناقش أمور العقيدة والعقيدة: أن تؤمن بالله عز وجل عن طريق الحجة والبرهان والدليل

بقلم: د راغب السرجاني
598
أزمة غياب العقلانية بين الباحثين الغربيين | مرابط
فكر مقالات

أزمة غياب العقلانية بين الباحثين الغربيين


من الظواهر الأليمة والمنتشرة بشكل واسع بين الباحثين الغربيين هي أزمة التفكير النصوصي الجامد وغياب العقلانية المفتوحة وهذا ما سبب احتباس وتخلف العلوم الغربية وضعف هيمنتها على العالم ومن المضحك بين الباحثين الغربيين أنهم في سياق البرهنة والاثبات يدورون في حلقة نصوصية متقوقعة ولا يفكرون بعقول مفتوحة غير مرتبطة وخاضعة لنصوص وفي هذا المقال يناقش الكاتب هذه الإشكالية ويوضح معالمها

بقلم: إبراهيم السكران
1401
قواعد السلف في مؤلفاتهم | مرابط
مقالات

قواعد السلف في مؤلفاتهم


أحب أن يعلم من لم يكن يعلم أن أسلافنا -رضي الله عنهم- وغفر لهم منذ ألفوا كتبهم وضعوا لها قواعد يعرفها أهل هذا العلم ويجهلها من جنح عن أصولهم وعمى عليه طريقهم. فهم منذ بدأوا يكتبون أسسوا كتبهم على إسناد الأخبار إلى رواتها وبرئوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد ولم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبر صحيحا أو ضعيفا أو زائدا أو ناقصا أو موضوعا مكذوبا لأنهم كانو يعلمون حال الرواة ومنازلهم من الصدق والكذب ومن الورع والاستخفاف ومن الأمانة والهوى.وكأنهم أرادوا بهذا أن يجعلوا كتبهم في التاريخ وغير التاريخ سج...

بقلم: محمود شاكر
223
لماذا نصوم الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نصوم الجزء الثالث


لقد عرفنا الكثير من موجبات صيامنا ومقتضياتها وأول موجب للصيام: أن صيام رمضان قاعدة من قواعد الإسلام الخمس فمن قال: لا أصوم جاحدا منكرا لما شرع الله فقد أسقط بناء الإسلام ولم يبق له حظ فيه كمانع الزكاة الجاحد لفرضيتها وكتارك الصلاة الجاحد لفرضيتها فالكل يكفر والعياذ بالله إذا نصوم لتلك الفضائل التي اشتمل عليها الصيام والميزات العظيمة التي ينالها المؤمنون في الدنيا والآخرة

بقلم: أبو بكر الجزائري
723