العمل الذي قام به رفاعة الطهطاوي
لقد كان العمل الذي قام به رفاعة طهطاوي -ومن ورائه محمد علي- هو على وجه التحديد على التحو التالي:
كان في حياة المسلمين -في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي- نقطة ارتكاز واحدة، هي الإسلام -بصرف النظر مؤقتا عن كل ما أصابهم من تخلف عن حقيقة هذا الدين- فجاء رفاعة الطهطاوي فوضع إلى جانب نقطة الارتكاز الضخمة القائمة، نقطة ضئيلة غاية الضآلة هي "الحضارة الغربية" ودعا المسلمين إلى الانتقال إليها والارتكاز عليها.
ورويدا رويدا في حياة المسلمين أخذت تلك النقطة الضئيلة تكبر وتتضخم، وتصبح نقطة ارتكاز ثانية في حياة المسلمين إلى جانب الإسلام، مع التضاؤل التدريجي في نقطة الارتكاز الأولى بمقدار ما تتضخم النقطة الثانية.. حتى يأتي وقت تصبح تلك النقطة الضئيلة هي نقطة الارتكاز الرئيسية، وتصبح نقطة الارتكاز الضخمة السابقة نقطة جانبية ضئيلة تكاد تنمحي من الوجود.
لقد استغرقت عملية الانتقال التدريجي ما يقرب من قرن من الزمان، ولكنها كانت عملية مستمرة لا تتوقف، بل تتوسع على الدوام، وعلى النحو الذي سنتحدث عنه في الفقرات التالية، متتبعين مراحل الانتقال في مجالات الحياة المختلفة، الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والسياسية والاقتصادية.. وبالذات في قضية تحرير المرأة، ولكن يبنغي هنا أن نتوقف لنسأل: لماذا حدث هذا الانتقال؟
لماذا حدث الانتقال إلى النمط الغربي العلماني؟
هل هي الهزيمة العسكرية أمام الغرب الظافر، وولع المغلوب بتقليد الغالب؟ إن هذا وحده لا يكفي لتفسير ما حدث خلال ذلك القرن من الزمان، الذي تغرب فيه العالم الإسلامي، ونسى أصوله كلها كأنه لم يكن مسلمًا في يوم من الأيام، بل كأنه لم يعايش الإسلام من قبل ثلاثة عشر قرنا متوالية بلا انقطاع.
هل الهزيمة العسكرية وحدها تكفي لتفسير هذا التحول الهائل، بل هذا الانهيار الهائل خلال قرن واحد من الزمان؟ في الأمة صاحبة العقيدة لا تؤثر الهزيمة العسكرية كل هذا التأثير، بل قد لا يكون لها تأثير على الإطلاق... لقد هُزم المسلمون هزيمة شديدة في أحد، يكفي في تصويرها قوله تعالى "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"
وهزتهم الهزيمة هزا شديدًا لأنهم لم يكونوا يتصورون أن يهزموا قط ما داموا مؤمنين وأعداؤهم كفار، حتى قالوا مستنكرين في دهشة: أنى هذا!؟ أي كيف يتأتى لهذا أن يحدث!
"أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا"
ولكن التوجيه الرباني بعد العزيمة كان البلسم الشافي للجراح "ولا تهون ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"
ومنذ هذا التوجيه وعته الأمة وعملت به، فلم تعد الهزيمة توهنها، ﻷنها تستعلي بالإيمان، وتتأسى بالذين وصفهم الله "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "
حتى حين هزموا الهزية المنكرة أمام التتار والصليبيين..
لقد كانت غارة التتار كاسحة، حتى إنها أزالت الدولة العباسية من الوجود، وخربت بغداد، وأذلت أهلها فجرى النهر أربعين ليلة أحمر من كثرة ما أريق من دماء المسلمين... ووصل الرعب والضعف بالمسلمين إلى أن التتري كان يلقى المسلم في شوارع بغداد وليس معه سيفه، فيقول للمسلم: ابق هنا حتى أعود إليك السيف لأقتلك، فيبقى المسلم من الضعف والذل واقفا في مكانه حتى يعود إليه التتري بالسيف فيقتله! ومع ذلك كله لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى التتار على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام! إنما كانوا في نظرهم مجموعة من الهمج الوثنيين المتبربرين لا يستحقون إلا الاحتقار المطلق حتى وهم منتصرون!
وكانت غارات الصليبيين مفاجئة للمسلمين وهم على غير استعداد.. واستغرقت قرنين من الزمان.. لقي المسلمون فيها هوانا شديدًا حتى ختم الله لهم بالنصر عليهم أيام صلاح الدين، بعد أن أقاموا دويلات نصرانية في مصر والشام.. ومع ذلك لم تذل أرواح المسلمين بحيث ينظرون إلى النصارى على أنهم خير منهم، أو أنهم جديرون بالاحترام! بل كانوا في نظرهم هم المشركين عباد الصليب.
وكانوا يحتقرونهم احتقارا شديدا من أجل شركهم ومن أجل فساد أخلاقهم، وكانوا يقولون عنهم إنهم دياييث، يكون الواحد منهم سائرًا مع زوجته في الطريق فتلتقي بصديق لها، فيتنحى الزوج ليتيح للمرأة أن تتحدث مع صديقها ما شاءت من الحديث.
الهزيمة العسكرية وحدها لا تؤثر إذن في الأمة ذات العقيدة مهما كانت شديدة وغير متوقعة.
هل الفارق العلمي والمادي هو السبب؟
ولكن قد يقال إن التفوق العلمي والحضاري والمادي الذي ووجه به المسلمون -مع الهزيمة- هو الذي أثر فيهم هذا التأثير، وحولهم هذا التحول، ﻷنهم فوجئوا به دفعة واحدة، فانكشف لهم مقدار تخلفهم الرهيب.. وهو قول ظاهر مقنع.. وقد كان لاكتشاف المسلمين مدى تخلفهم إزاء تفوق الغرب أثر في انبهارهم بما عند الغرب ولا شك.. ولكن هذا وحده لا يفسر فضلا عن أن يبرر!
لقد كان المسلمون في بدء حياتهم "متخلفين" في ميدان العلم وفي الجانب المادي والتنظيمي من الحضارة بدرجة لا تقاس إلى جانب ما كان لدى القوتين المجاورتين فارس والروم.. وكان المسلمون في حاجة إلى الاقتباس منهم والأخذ عنهم في هذين الميدانين، ولكنهم لم يشعروا قط أن أعداءهم أعلى منهم، ولا أن ما عند أعدائهم من أفكار ومعتقدات وأنماط سلوك خير مما عندهم.
بل نظروا باستعلاء الإيمان إلى هذا كله على أنه جاهلية عمياء لا تهتدي بالهدى الرباني ولا تطبق في حياتها منهج الله.. فأخذوا العلم الذي كانوا يحتاجون إليه، وأخذوا من الجوانب المادية والتنظيمية ما وجدوا أنفسهم في حاجة إليه، وطوعوه لمنهج حياتهم، ولم يأخذوا شيئًا من معتقدات الجاهلية ولا أفكارها ولا أنماط سلوكها.. وكان هذا هو المسلك الصحيح بالنسبة للأمة المسلمية حين تشعر بحاجتها إلى شيء تفتقده عندها وتجده عند الأمم الجاهلية من حولها.
أما في هذه المرة فقد كان مسلكها مختلفًا كل الاختلاف..
كان مسلكها هو الانبهار بما عند الغرب.. الانبهار الذي يؤي إلى الانهيار أمام القوة الغالبة، وتسليم القياد لها بلا تحفظ، والرضى بالتبعية الكاملة لها، بل الامتنان والاغتباط إذا قبلت القوة الظافرة أن تعتبرها من بين الأتباع!!
كيف حدث ذلك؟!
المصدر:
- محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص191