البحث عن مصدر القرآن الكريم ج1

البحث عن مصدر القرآن الكريم ج1 | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

284 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الأمر أمامنا أوضح من أن يحتاج إلى سماع هذا الاعتراف القولي منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يتوقف على دراسة تلك الناحية الخلقية من تاريخه.

أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من طبيعته شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟

فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه- أهلًا بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟

سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم؛ فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن والقبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئًا في السماء تناله الفراسة أو تلهمه الفطرة أو توحي به الفكرة لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة.

ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا، ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيه للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم. ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق، وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟

أخبار الأمم الخالية

أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضًا بإعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون: إن محمدًا قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها قرنًا، فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟! إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه عليه السلام لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء

{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ٥ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.

لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدراسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محررًا في القرآن.

حتى الأرقام.. طبق الأرقام: فترى مثلًا في قصة نوح -عليه السلام- في القرآن أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا. وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية. وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا" وهذا السنون التسع هي فرق مابين عدد السنين الشمسية والقمرية. قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر. فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.

كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم

أكاذيب وأوهام

نعم؛ إنها لعجيبة حقًّا: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم -في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم مشغولًا برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعيًا بالأجر، أو تاجرًا بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وربما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم.

أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العلمي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجًا عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة. وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلًا لهذه الظاهرة وأقرب فهمًا لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة، فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}

ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.

فأما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة أو بالروية، وهذا كلام قد يلوح حقًّا في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار.

ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه. فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزًا في غريزة النفس، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، إما بسرعة كما في الحدس, وإما ببطء كما في الاستدلال والاستنباط والمقايسة. وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عمن جاءه ذلك الإلهام.

فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟

ذلك ما سيأتيك نبؤه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد:

"أحدهما" قسم العقائد الدينية.
"والثاني" قسم النبوءات الغيبية.

العقائد الدينية

الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها:

فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنبه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه، بعد معاونة الفطر السليمة له، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهًا قاهرًا دبره، وأنه لم يخلقه باطلًا، بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة، فلا بد أن يعيده كرة أخرى؛ لينال كل عامل جزاء عمله؛ إن خيرًا وإن شرًّا. هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة، بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب، فعلى أية نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية، وتلك الأوصاف التحديدية؟

إن ذلك ما لا يوحي به العقل بتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

أنباء المستقبل

أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق:

أما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحًا يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلًا الشاهد من هذه مقياسًا للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكمه محاطًا بكل تحفظ وحذر، قائلًا: "ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها ولم يقع ما ليس في الحسبان". أما أن بيتَّ الحكم بتًّا ويحدده تحديدًا حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين: إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه: صَدَقَ أو كَذَبَ، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين، وإما رجل اتخذ عند الله عهدًا فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلًا روى أخباره عن واحد منهما.

فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخير الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاطَ علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقحم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطًا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ، بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفوًا ما تعجز صروف الدهر وتلقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفًا واحدًا مما ينبئ به {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

أمثلة من النبوءات القرآنية:

لنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة والألمعية؟ وسنحصر الكلام في ثلاثة أنواع:

١- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.
٢- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.
٣- ما يتصل بمستقبل المعاندين.

١- فيما يتصل بمستقبل الإسلام:

مثال هذا ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه وصيانته {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟

إنها آيات مكية من سور مكية. وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟. عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه. فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعًا ولو ضئيلًا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟

ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربو في نفسه الأمل حتى يصير حكمًا قاطعًا؟ وهبه امتلأ رجاءً بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح. وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها. وكم من نبي قتل. وكم من كتاب فُقد أو انتُقص أو بُدل.

وهل كان محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبيًّا يوحي إليه {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظًا لديه {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}

فلا بد إذًا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه. ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المنقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علمًا بمجراها ومرساها. فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن.

سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد، وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن؛ كُلًّا أو بعضًا؛ كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعًا راياته، وأعلامه. حافظًا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية: كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}.

ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا.

ذلك بأن الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، والله بالغ أمره، ومتم نوره، فظهر وسيبقى ظاهرًا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله.

"ومثال آخر" ما جاء في التحدي بهذا القرآن وتعجيز العالم كله عن الإتيان بمثله {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.

فانظر هذا النفي المؤكد، بل الحكم المؤبد! هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات بين العرب مفتوح على مصراعيه، وأن الناقد المتأخر متى أعمل الروية في تعقب قول القائل المتقدم لا يعييه أن يجد فيه فائتًا ليستدرك؛ أو ناقصًا ليكمل، أو كلامًا ليزدد كمالًا؟ ألم يكن يخشى بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون؟

وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يضع أحدهم صيغة المعارضة، ثم يتناولها سائرهم بالإصلاح والتهذيب كما كانوا يصنعون في نقد الشعر، فيكمل ثانيهم ما نقصه أولهم، وهكذا، حتى يخرجوا كلامًا إن لم يبزه فلا أقل من أن يساميَه ولو في بعض نواحيه؟ ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة، بل على الإنس والجن؟ إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجل يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئٌ يديه من تصاريف القضاء، وخبر السماء، وهكذا رماها بين أظهر العالم، فكانت هي القضاء المبرم سُلَّط على العقول والأفواه، فلم يهم بمعارضته إلا باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح، على مر العصور والدهور.

"ومثال ثالث" تلك الآية التي يضمن الله بها لنبيه حماية شخصه والأمن على حياته حتى يبلِّغَ رسالات ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}

إن هذا وايم الله -ضمان لايملكه بشر، ولو كان مَلَكًا محجبًا تسير الحفظة من بين يديه ومن خلفه. فكم رأينا ورأى الناس من الملوك والعظماء من اختطفتهم يد الغيلة وهم في مواكبهم تحيط بهم الجنود والأعوان. ولكن انظر مبلغ ثقة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا الوعد الحق: روى الترمذي والحاكم عن عائشة، وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال: “يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله”

وحقًّا لقد عصمه الله منهم في مواطن كثيرة كان خطر الموت فيها أقرب إليه من شراك نعله، ولم يكن له فيها عاصم إلا الله وحده.

من ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة، ورواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتخافني؟ قال: $"لا". قال: فمن يمنعك مني؟ قال: “الله يمنعني منك، ضع السيف” فوضعه.

وحسبك أن تعلم أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف.

ومن أعظم الوقائع تصديقًا لهذا النبأ الحق ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة حنين، منفردًا بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض ببغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب” كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده. رواة الشيخان عن البراء ابن عازب ورواه مسلم عن العباس وسلمة بن الأكوع ورواه أحمد وأصحاب السنن عن غيرهم أيضًا.

وهكذا أمتع الله به أمته فلم يقبضه إليه حتى بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحتى أنزل عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}


المصدر:
محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم ص 65

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر تفريغات

مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص


أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان درجات وشعب يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن المؤمنين يتفاوتون بحسب علمهم وعملهم وان بعضهم أكمل إيمانا من بعض وليس إيمان جبريل وأبي بكر وعمر كإيمان آحاد الناس وهذا خلاف عقيدة المرجئة وهو ما يوضحه الكاتب في المقال

بقلم: محمد صالح المنجد
1106
معرفة مذهب السلف | مرابط
اقتباسات وقطوف

معرفة مذهب السلف


فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين: أحدهما: أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة والثاني: أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة ومن أهل الحديث والتصوف وأهل الكلام كالأشعري وغيره فصار مذهب السلف منقولا بإجماع الطوائف وبالتواتر لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا كما يفعل أهل البدع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
524
النساء وهوس العمل | مرابط
المرأة

النساء وهوس العمل


قضية صلاح المرأة ترتبط بداية بعقيدتها ودينها وخلقها فمن كانت تنشد القرار في البيت الأصل مساعدتها لا إعلان الحرب عليها ونبذها ومهاجمتها كأنها الفاسدة. ويعلم الله أن هناك أخوات مسلمات يعانين الأمرين من أب وزوج لا يصلي ومع ذلك لا نسمع صوتا يوجه لهؤلاء! وكم من امرأة صلحت على يد رجل!

بقلم: د. ليلى حمدان
627
مشاركة المرأة في الاحتفالات العامة | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

مشاركة المرأة في الاحتفالات العامة


لقد أخطأ المؤلف حينما استخدم مصطلحات معاصرة وأسقطها على أحداث السيرة فالاحتفالات مصطلح معاصر له مدلول يفهمه العامي والمتعلم بمجرد سماعه فتسمية أحداث السيرة بمثل هذه المصطلحات تحريف لها واستدلال في غير محله

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
516
جذور الخطاب المدني المعاصر | مرابط
اقتباسات وقطوف

جذور الخطاب المدني المعاصر


يبدو أن الخطاب المدني المنتشر في بلادنا الإسلامية قد حظي باهتمام بالغ لدى الباحثين في محاولة لمعرفة الجذور التي أدت إليه يقول البعض أنه نتاج مباشر للمدرسة العقلانية بينما يظن آخرون أنه الامتداد الطبيعي لمدرسة المعتزلة أو أنه نتج بسبب الانبهار الشديد بالغرب وبين يديكم مقتطف هام من كتاب مآلات الخطاب المدني يقف فيه إبراهيم السكران على هذا التساؤل الهام والآراء المنتشرة حوله

بقلم: إبراهيم السكران
678
موقف شحرور من قدرة الله | مرابط
فكر مقالات

موقف شحرور من قدرة الله


ويوضح شحرور مذهبه فيقول: هل قضى الله سلفا أن يحكم هتلر ألمانيا ويسبب كوارث الحرب العالمية الثانية وهل حكم المستبدين والطغاة من قضاء الله الجواب: كلا ﻷنها لم تخضع لقوله كن فيكون فهو يحتج بالمصائب فالحرب والطغاة والله يقول بأن ذلك كله في كتاب قبل أن يكون لكن شحرورا يزعم أن حركة تصحيح عقيدة المسلمين التي يريدها في هذا الباب تتلخص في قوله بأن الله لم يكتب الشقاء والسعادة والغنى والفقر وطول العمر وقصره على أحد أبدا منذ الأزل وفي هذا المقال استعراض لرؤية شحرور للقدر ورد عليه

بقلم: يوسف سمرين
1333