المادية تنهدم

المادية تنهدم | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

2301 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مصير الإنسان

سئل رهط من علماء الغرب عن مصير الإنسان، فقال العالم المشهور «سير جوليان هكسلي» ما فحواه: إن أدوار التطور الكبرى قد انتهت بالنسبة إلى النوع الإنساني، إلا ما يكون منها خاصًّا بالدماغ والفكر، فإن النوع الإنساني لا يزال قابلًا في هذه الوجهة للمزيد من التقدم والنماء، وليس المنظور أن يكون هذا التطور «عضويًّا حيويًّا» في بنية الدماغ، فإن حكم الدماغ من حيث النماء الجسدي كحكم سائر الوظائف الحيوية … ولكن الأفكار التي تتولد من مباحث العلم والفن على الأجيال المتعاقبة تزيد محصول الإنسان من المعرفة فتزداد قدرته على التفكير الصحيح تبعًا لذلك، ويحدث التجاوب بين العارفين في البيئة الواحدة فيصحح بعضهم تفكير بعض، ويأتي من تجمع الأفكار وتصحيحها ما هو منتظر للنوع الإنساني في مجموعه من تطور العقل وصحة التفكير.
 
والذين خالفوا السير جوليان هكسلي في تطور الدماغ من البنية الجسدية لم يخالفوه في اعتقاده أن التقدم سيأتي من معالجة التفكير، وأن مرانة الذهن على التفكير في مصاعب الحياة هي التي يرتبط بها النماء في حجم الدماغ وفي قدرته على الفهم والإدراك، ثم في تعوده أن يعمل بداهة وارتجالًا ما يعمله اليوم بعد التنبه والاجتهاد.
 
وقرر هكسلي وموافقوه من العلماء والمفكرين الذين سئلوا عن مصير الإنسان أن هذه الآراء جميعًا أبعد ما تكون عن «المادية» أو عن تلك الفلسفة التي تربط مصير الإنسان بجسده، وبالمعيشة المادية التي تعيشها الجماعة وتفرضها على عقول أفرادها.
 
فلا عمل للمادية في توجيه مستقبل الإنسان، وإنما هي الأفكار والعلوم مناط التقدم كله، ومناط الاتجاه -من ثم- إلى أطوار من الرقي والنماء تعلو على أطواره اليوم.
 

خطر الكوارث والحروب

وعقب المفكرون الدينيون على هذه الآراء فوافقها الكثيرون منهم، ولكنهم قالوا: إن نجاة النوع الإنساني مما يهدده غدًا لن يكون معلقًا بأفكاره العلمية ولا بمباحثه في شئون الفلسفة الطبيعية؛ لأن هذا النوع الإنساني إنما يأتيه خطر الفَناء من جانبين اثنين: أحدهما كوارث الكون الكبرى ولا حيلة له في دفعها بعلومه وفلسفاته، والجانب الآخر كارثة الحرب الذرية، وهي بعض آثار التقدم العلمي، ولن يكون خلاص النوع الإنساني منها على يد العلم المتقدم؛ لأنه هو مصدر الخطر ووسيلة الكارثة المرهوبة، وسلاح الحرب الشعواء التي تودي بحياة هذا النوع أو تبقي ما بقي منه في حالة كحالات الهمجية الأولى. وقد سئل أينشتين مرة: ماذا يكون سلاح الحرب العالمية الرابعة إذا كانت الذرة هي سلاح الثالثة؟ فقال جادًّا غاية الجد وساخرًا غاية السخرية: تكون سلاحها الحجارة! يشير بذلك إلى رجعة الإنسان كرة أخرى إلى العصر الذي سبق عصر القوس والسيف، فضلًا عن عصر الطيارة والصاروخ.
 
قال أولئك المفكرون: إن الخطر إذا كان من نفس الإنسان فلا نجاة له بعلوم العقل ومخترعات الصناعة، وإنما تكون نجاته بعلم من عالم الروح تنتفع به الضمائر والعقول.
 
إنما تكون نجاته بالدين، وبالإيمان الديني والعقيدة الإلهية، ولا نجاة له في غير هذا الطريق.
 

هدم المادية

وكل هذه الآراء من أقوال كبار المفكرين إنما تهدم المادية باسم الفكر والمعرفة، وتعتمد على الفارق بين جانب الإنسان العقلي وجانبه الجسدي لترجيح القول باعتماده في تقدمه بعد اليوم على الناحية الفكرية منه، أو على الناحية التي تأتي من تجمع المعلومات والانتفاع بها في حياته العلمية.
 
ولكن الفلسفة المادية -فيما نرى- لن تنهدم من ناحية التفكير وحده، ولا من ناحية الدماغ المفكر دون النظر إلى مادة بدنه ومادة الكائنات الطبيعية من حوله، بل تنهدم الفلسفة المادية لا محالة من كل نظرة واقعية ننظرها إلى حقيقة تركيبها مستقلة عن الفكر، بل عن الدماغ وهو محمول على المادة من بعض نواحيه.
 
إن المادة نفسها ليس لها قوام أصيل يقاس بغير مقاييس الفكر المحض، كما تقاس الفكرة عن الروح وعن عالم التجريد والمجردات.
 

قياس المادة

فقد كان العلماء وغير العلماء يقيسون المادة بالشبر أو بالشعرة وبالقصبة أو القيراط وبالمتر أو جزء من ألف من المتر، وكان هذا كله مما يوصف بالامتداد ويدخل في العقل الإنساني بقياس الامتداد في الفضاء أو الامتداد في الزمان، ولكن هذا الامتداد من ناحيته الزمنية أو المكانية يزول اليوم أمام المقاييس التي تقاس بها ذرات المادة وخلايا الحياة في تركيباتها الجسدية، ويوشك أن يعود العلم بالمقاييس جميعًا إلى شيء لا امتداد له كالنقطة الهندسية التي يعرفها الرياضيون بأنها شيء لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا اتساع ولا امتداد على الإجمال وأنها مع ذلك أساس جميع الأبعاد.
لقد وصلنا اليوم إلى القياس بوحدة الأنجستروم Angstrom، وهو قياس واحد على عشرة آلاف من الميكرون Micron.
 
وما الميكرون بالنسبة إلى المقاييس التي تفهم بالامتداد؟
 
الميكرون هو جزء واحد من ألف ألف جزء من المتر الواحد.
 
فهناك إذن أشياء يبلغ من دقتها أن تقاس أو تحسب بحساب جزء من عشرة آلاف مليون من أجزاء المتر الواحد …
 
فما الفرق في التصور بين هذا الجزء وبين المعاني الذهنية التي تدرك بالتقدير الرياضي أو التقدير الفلسفي المجرد من كل مادة محسوسة؟ إن هذا الفرق ينتهي بما نسميه «المادة» إلى نهاية لا تدرك بغير التقدير والتفكير، بل يسهل تقدير الروح والتفكير فيها بمقياس المعاني الذهنية، ويظل إدراكنا لوحدة الأنجستروم صعبًا عسيرًا لاختلاطه اللاحق به من عالم المحسوسات.
 
ويقال أيضًا في الكلام عن تفجر الذرة: إن هذه الشرارة تنقدح في جزء من عدة آلاف جزء من الدقيقة، وإنها تصل بالإشعاع إلى جزء من عدة آلاف جزء من السنتيمتر بسرعة الشعاع.
 
فكيف يدرك هذا الجزء بحساب الامتداد الزمني أو حساب الامتداد في الفضاء؟
 
إن دقة واحدة تستنفد الثانية، ونحن نقسم الثواني إلى ثوالث، فلا نتصور كيف تكون الدقة بعد انقسامها إلى ستين ثالثة، فكيف نتصور الجزء من الآلاف الكثيرة بحساب هذا الامتداد؟!
 
وماذا بقي من الفارق بين حقيقة المادة وحقيقة الروح؟ وماذا بقي من الفرق بين نهاية عالم الخفاء ونهاية عالم الشهود على يد التجارب العلمية ولا نقول على يد السبحات الصوفية أو التجليات الروحية؟
 
على أن هذه الأجزاء المادية التي تحسب بالملايين لا تدرك بالبصر الإنساني حين تتجمع تحت المنظار الكبير، وإنما تدرك إذا عولجت بالأصباغ الكيمية، ثم ظهرت لونًا تلمحه العين ولم تظهر بغير هذه الصورة إلا مقدورة مفروضة بعلم الحساب.
 
وكذلك تدرك الناسلات وتدرك الصبغيات التي سميت بهذا الاسم؛ لأن الصبغة هي الوسيلة الوحيدة التي تقرب الملايين منها إلى عالم الإدراك أو عالم المحسوسات.
 
وإلى هنا يمكن أن يقال: إن العالم المحسوس يشملها ما دامت الصبغة تظهر منها الملايين أو أضعاف الملايين.
 
ويصح هذا القول إذا كانت الصبغة تظهر لنا الخصائص التي تحتويها الناسلة الواحدة من جملة هذه الملايين.
 
والناسلة الواحدة لا تظهر منها خاصة واحدة للصبغة ولا للحساب؛ لأن هذه الخاصة لا تنتقل دفعة واحدة من الخلية إلى مكانها المقدور في تكوين جسم الإنسان، بل تنتقل ثم تنقسم مرة ثم تنقسم ألوف المرات، ثم تخرج منها في كل مرة صورة بعد صورة بعد مئات الصور يتولد منها في النهاية كل ما احتوته واشتملت عليه قبل هذه التقسيمات.
 
فالناسلة التي يتولد منها الجنين وتنشئ في النهاية لون العين أو لون الشعر أو لون البشرة، لا تنتقل بهذه الخاصة مباشرة أو على صورة واحدة، ولكنها تخرج منها خاصة بعد خاصة بعد أخرى على الترتيب الذي لا يختلف في حالة من الحالات، وتمضي الناسلات بخواصها المختلفة في حيزها الصغير فلا يختلط بينها عمل واحدة بعمل الأخرى، ولا يتيسر للنظر ولا للصبغة ولا للحساب أن يفصل في لمحة واحدة بين هذه الأحوال.
 
فإذا كانت الصبغة تدخل عشرات الملايين من هذه الجزيئات في عالم الحس بالمنظار الكبير، فأين من عالم الحس تلك الخاصة التي تفرقت في كل جزء من هاتيك الجزيئات التي لا ترى بالصبغة ولا بغير الصبغة!
 
كل ما يلزمنا لإدراك المعاني المجردة يلزمنا هنا لإدراك الناسلة بخاصتها التي كمنت فيها وراء العين ووراء الحدس ووراء الحساب.
 

نهاية المادة على يد الماديين

وعلى هذه الوتيرة تنتهي المادة على أيدي الماديين في صميم علومهم التي عزلوها قديمًا عزل الأبد عن عالم المعنى وعالم الروح وعالم الخفاء.
 
ولقد صح عند الذين استخدموا المادة لنكران كل عالم غير العالم المحسوس، أن القرن التاسع عشر كان عصر الكفر بما وراء الطبيعة أو بما وراء المادة، وعصر الإيمان بالمادة دون سواها ودون ما وراءها، وأصح من ذلك أن القرن العشرين هو عصر الكفر بالمادة وعصر العودة إلى ما وراءها، وعلى أساس المقررات المادية يجوز للباحث «الطبيعي» أن يقول: لعل القرن الحادي والعشرين سينفذ بالعقول والضمائر إلى عالم الروح من خلال الذرة على شعاع من نور.

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، الإسلام والحضارة الإنسانية، ص53
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عباس-العقاد #المادية
اقرأ أيضا
العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني


عندما نختار أن نأخذ مرحلة الحروب الصليبية بالذات فإن ذلك له دلالته الخاصة من جهة أنها تحكي أو تشابه الواقع الذي نعيشه الآن والمرحلة التي تحياها هذه الأمة في ظل هذه الهجمة الخبيثة الماكرة التي يستجمع الغرب فيها قواه مرة أخرى فما أشبه الليلة بالبارحة إن المؤرخين يقولون: التاريخ يعيد نفسه ونحن نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا هذه هي سنة الله تعالى في الأمم وبالذات في الأمة الإسلامية كل حياتها كر وفر وكل مواقفها إقبال وإدبار

بقلم: سفر الحوالي
739
آراء المذاهب الفقهية في اختلاط الرجال بالنساء | مرابط
تعزيز اليقين إنفوجرافيك المرأة

آراء المذاهب الفقهية في اختلاط الرجال بالنساء


اهتمت المذاهب الفقهية بشكل بالغ بمسألة الاختلاط بين الرجال والنساء ويبدو أن معالجة الموضوع تكررت وترددت في مختلف الكتب المعتمدة في المذاهب وبين يديكم نضع بعض النقولات من المذاهب الفقهية فيما يخص موضوع الاختلاط ونعرضه في شكل إنفوجراف تيسيرا على القراء

بقلم: إبراهيم السكران
1420
الفائدة في خلق ما يؤذي | مرابط
اقتباسات وقطوف

الفائدة في خلق ما يؤذي


إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي؟! فالجواب: أنه قد ثبتت حكمة الخالق فإذا خفيت في بعض الأمور وجب التسليم ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب وما خلق شيء يضر إلا وفيه منفعة.

بقلم: ابن الجوزي
287
أولياء الله ومزاعم ابن عربي | مرابط
اقتباسات وقطوف

أولياء الله ومزاعم ابن عربي


وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذاكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
839
حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج3 | مرابط
تفريغات

حكم قطز والاستعداد لمواجهة التتار ج3


صرح قطز لأمرائه أنه ما طلب الملك إلا لحرب التتار فبدأ الأمراء المماليك يترددون فقد وصلت أنباء التتار المخيفة عن حرب التتار لكن قطز رحمه الله بدأ يضرب لهم مثلا رائعا في فهمه للإسلام ويعطي لهم قدوة راقية في الجهاد لقد أعلن قطز لهم أنه سيذهب بنفسه لحرب التتار ويكون مع جنوده في قلب المعركة ولن يرسل جيشا ويبقى هو في عرينه بمصر بل سيذوق مع شعبه ما يذوقون ويتحمل ما يتحملون ولو أرسل قطز جيشا وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد ولكنه لم ير هناك وسيلة أفضل من ذلك لتحميس القلوب الخائفة وتثبيت الأفئدة المضط...

بقلم: د راغب السرجاني
663
شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: نحن أحق بالشك من إبراهيم


بين يديكم رد على الشبهة المتكررة التي يزعم مروجوها أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شك في ربه وذلك استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فيقول البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الشك إلى إبراهيم وإلى نفسه.. بين يديكم رد على هذا الزعم.

بقلم: قاسم اكحيلات
485