العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني

العبر من الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: سفر الحوالي

656 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

جهاد نور الدين ضد الصليبيين

الحملة الصليبية الثانية جمعت أكثر من خمسة ملوك من ملوك أوروبا، وهم ملوك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، كما جمعت كثيرًا جدًا من الأمراء، ومن كبار رجال الدين، حملة عاتية واجهها نور الدين.. بماذا؟ كم كانت مملكته؟ كانت مملكة نور الدين جزءًا بسيطًا من شمال العراق وبلاد الشام، هذا كل ما كان يملكه نور الدين، ومع ذلك لما أن قام على هذه السيرة والسنة الحميدة نصره الله تبارك وتعالى نصرًا مؤزرًا؛ فما مات رحمه الله إلا وقد صار يملك كل بلاد الشام ومصر والحجاز وجزيرة العرب، وما بقي إلا الإمارات الصليبية، وأهمها إمارة القدس التي قدر الله أن يكون فتحها على يد قائده صلاح الدين؛ ولهذا يجب أن نقف عند سيرة هذا الرجل؛ لأنا عندما نتحدث عن نور الدين فنحن نتحدث عن الأمة مجتمعة، إذ كيف تحول من أمير لمقاطعة إلى أن يصبح سلطانًا كبيرًا يهزم أوروبا كلها، لا بد من أخذ العبر من حياته ومن سيرته.

 

ترجمة نور الدين بقلم الإمام الذهبي

اخترت لكم ما كتبه الإمام الذهبي مؤرخ الإسلام الثقة الثبت رحمه الله تعالى، لنستعرض بعض ما ذكره من حياة هذا الإمام القائد رحمه الله تعالى، يقول: (كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد -ونِعم الرايتان- قلَّ أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها، وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولًا حصونًا كثيرة -وذكر حصونًا كثيرة جدًا- وأظهر السنة بـحلب وقمع الرافضة. فهو الذي ألغى الأذان على طريقة الرافضة في حلب وما جاورها، ولهذا أراد الباطنيون أن يغتالوا بعض قواده، واغتيل بالفعل بعض من كانوا موالين له من الأمراء).

من أعظم أعماله: أسس العلم على العقيدة الصحيحة والعلم الصحيح، فأنشئت دور العلم، ويذكر المؤرخون أنه لما قدمت الحملة الصليبية الأولى كان عدد المدارس في بلاد الشام مدرسة واحدة فقط، وهي التي تسمى دار الحديث أو ما أشبهها، وهي عبارة عن كليات علمية أو مراكز علمية متكاملة، مثل المعاهد أو الكليات المتخصصة، وعند قدوم الحملة الصليبية في أيام صلاح الدين كان عددها أكثر من تسعين مدرسة.

إذًا: الأمة نهضت نهضة علمية ودعوية؛ ولهذا من حقها أن تنتصر بإذن الله سبحانه وتعالى، أنشأ نور الدين المارستان -المستشفى- ودار الحديث، والمدارس والمساجد، ومن العجب في حياته أنه كان يتعرض للشهادة، ويسأل الله سبحانه وتعالى دائمًا أن يرزقه الشهادة، مع أنه لم يمت في معركة، كما سنرى إن شاء الله.

يقول كاتب سره أنه كان يسمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير. يقول الذهبي رحمه الله: (جهز جيشًا لجبًا مع نائبه أسد الدين شيركوه؛ فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وأباد العبيديين واستأصلهم، والحمد لله).

قال سبط ابن الجوزي رحمه الله: (جاهد -أي: نور الدين - وانتزع من الكفار نيفًا وخمسين مدينة وحصنًا)، أي: أكثر من خمسين مدينة وحصنًا انتزعها نور الدين في وقت يعتبر وجيزًا. يقول ابن الأثير: (طالعت السير فلم أقرأ فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا منه للعدل).

 

عجائب من أخبار نور الدين

ذكروا أمثلة عجيبة من عدل هذا الرجل قال: (كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة) أي: أنه جاهد وأخذ سهمه من الغنيمة من جملة المسلمين.. أخذه وأخذ ينميه فكان أحد مصادر دخله، وهو يملك هذه البلاد.

وكان له مصدر آخر عجيب للدخل، يقول سبط ابن الجوزي: (كان له عجائز -كان هناك عجائز يتعامل معهن- وكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر -هذا السلطان نور الدين الذي يحارب ملوك أوروبا جميعًا- فيعطيها العجائز فيبعنها سرًا ويفطر على ثمنها؛ لأنه كان كثير الصيام نافلة، فيفطر من القوت الحلال الذي تبيعه له العجائز؛ حتى لا يأخذ من بيت المال أي شيء، ومثل هذا جدير أن ينصره الله سبحانه وتعالى).

ومن عجائب أخباره: أن زوجته طلبت منه مالًا وألحت عليه، فتذكر أن من جملة سهمه من الغنيمة ثلاثة دكاكين له في حلب؛ فأعطاها إياها فقالت: لا تكفي ثلاثة دكاكين. زوجة السلطان الذي يحكم ما يعادل الآن ست أو ثمان دول، قال: ليس لي إلا هذا، وأنا خازنٌ للمسلمين، لا أملك أي شيء. قال: وكان يتهجد كثيرًا، لم يترك في بلاده على سعتها مكسًا.

 

من تواضع نور الدين

ومن تواضعه رحمه الله أن أحد القواد أو المقربين إليه قال له في إحدى المعارك: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف! فقال: ومن أنا حتى يقال لي هذا؟ حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو!

يقول: من أنا حتى إذا مت ضاع المسلمون؛ قد حفظ الله البلاد قبلي وبعدي. انظروا إلى كيفية معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، وهيبة الله وجلاله.

ولهذا نجد شيئًا عجيبًا عندما نستعرض شيئًا من موقفه من هذه القضية. قضية التواضع، أعجب المسلمون إعجابًا شديدًا بـنور الدين محمود، وأخذوا يضجون في الدعاء له لما نصره الله، ولما أبطل المكوس والضرائب والعشور التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولما رأوا عدله وجهاده وتمسكه بالسنة كانوا يلهجون له بالدعاء في رمضان وغيره.

قال: وكانوا إذا دعوا له يطيلون في الدعاء، فيمدحونه بما ليس فيه؛ فغضب، وقال: إن خطباء المساجد يبالغون في الدعاء لي؛ فجمع المقربين له وقال لهم: لا بد أن تعدلوا هذا، فكتبوا له صيغة، وكلما وضعوا صيغة يخففها؛ حتى اتفقوا على صيغة واحدة فقط يدعى له بها في المساجد وهي: (اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آغ سنقر ناصر أمير المؤمنين)؛ لأنه يدافع نيابة عن الخليفة. فقط لا يزاد في الدعاء على هذه الصيغة، ولا داعي للمديح والاستطراد فيما لا خير فيه.

ولما قيل له في ذلك وعوتب قال: مقصودي ألا يكذب على المنبر، فأنا بخلاف كل ما يقال، أفرح بما لا أعمل. يقول: لا أحب أن أحمد بما لم أفعل؛ لأن من قلة العقل أن يقولوا: فتح وجاهد وفعل، وأنا ما فعلت، يقول: تكفي هذه الصيغة. اكتب بها نسخًا حتى نصيرها إلى جميع البلاد.

ثم قال: ثم يبدءون بالدعاء: اللهم أره الحق حقًا، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه... يقول: دع الناس يدعون فقط من جنس هذا الدعاء، أما المدح والثناء فأنا لا أريده، ومن قلة العقل أن أدعهم يثنون علي بما ليس فيّ أو بما يغرني ويفتنني.

ولهذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: (كان دينًا تقيًا، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق). لا ينفق عنده سوق الشعراء الذين كانوا يمدحون من قبله ومن عاصره من الملوك والسلاطين، فيحشو فم الشاعر باللآلئ والتي يبلغ ثمن اللؤلؤة الواحدة عشرة آلاف دينار. لا سوق لهم كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.

ولهذا قال فيه أسامة بن منقذ:

سلطاننا زاهدٌ والناس قد زهدوا     لـه فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة     من المعاصي وفيها الجوع والعطش

يقول: نحن الشعراء نعتبر أيام الخليفة نور الدين مثل أيام رمضان، طاهرة من المعاصي، لكن فيها الجوع والعطش، الشعراء لا يجدون سوقًا، سواء قالوا القصائد أو لم يقولوا؛ فالأموال تذهب للجهاد.

وهنا نقف وقفة: أسامة بن منقذ هذا كان فيه نوع من الموالاة للصليبيين، وكان يحب الدنيا؛ حتى إنه ذهب مع معين الدين أنر الذي كان في دمشق موالٍ للنصارى، وكان سفيرًا بينه وبين الصليبيين، وكثير من الشعراء والكتاب في كل زمان ومكان يبيعون دينهم، ويخونون أمتهم مقابل شيء من المال أو الشهرة، نسأل الله العفو والعافية.

هناك موضوع يتعلق بالرياضة نؤخره قليلًا؛ لأنكم قد تستغربون أن السلطان نور الدين محمود كان له اهتمام بالرياضة، فنؤجل هذا الموضوع؛ حتى نتعرض لمسألة العدل الذي اشتهر به هذه السلطان.

 

تحكيم نور الدين لشرع الله

كان نور الدين عند ملوك الترك، وتربى على أيديهم، والذي رباه مودود رحمه الله الذي قتل في المسجد، ثم كان ابنه نور الدين، فهم تربوا على نفس التربية، وكان عند ملوك الترك شيء يسمى الياسق، وهو عبارة عن قوانين وضعية، وأكثرها قوانين عسكرية، وهي تطبق على الرعية دون الرجوع إلى الشرع وإلى القضاة، عرف اتخذ وأصبح شرعًا.

وفي أيام التتار ظهر ذلك وطغى، حتى أن شيخ الإسلام رحمه الله أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى دين الله وإنما يتحاكمون إلى الياسق.

يقول المؤرخون: انتشر الفساد، وقطع الطريق؛ فجاء قواد الجيش وقالوا لـنور الدين: لابد أن تطبق الياسق أو تأخذهم بنوع من السياسة -كما تسمى أحيانًا- فقد كثر الدعار وأصحاب الفساد، ولا يجيء من هذا شيء -أي: لا يزول هذا- إلا بالقتل والصلب، ثم قالوا لرجل يسمى الشيخ عمر الزاهد وكان من العباد، وكان يحبه -وهذه من المظاهر العجيبة في سيرة نور الدين أنه كان يحب العلماء والزهاد والعباد جدًا- اكتب لـنور الدين في ذلك؟

فكتب الشيخ عمر قائلًا: إن الدعار والمفسدين وقطاع الطريق قد كثروا، ومثل هؤلاء لا يجيئوا إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له. أحيانًا العلماء قد ينافقون أصحاب السلطة، لكن السلطان العادل لا يقبل هذا النفاق.

العالم كتب إلى السلطان يقول: إذا إنسان أُخذ ماله في البر، وذهبنا به إلى المحكمة فإن القاضي يريد شهودًا، ومن أين له شهود على ما يقول؟ فتضيع الحقوق، فلا بد أن يؤخذ الناس بالظنة وبالتهمة، ويطبق عليهم قانون الياسق، فلما قرأ نور الدين الكتاب قلبه، وكتب على ظهره: إن الله تعالى خلق الخلق، وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها, ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها، فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى.

فلما وصل الكتاب إليه في الموصل جمع الشيخ عمر أهل الموصل فقرأ الكتاب عليهم، وقال لهم: انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد. انظروا كيف أن الزاهد يكتب له يأمره بغير الحق، والملك يكتب فيذكر العالم بضرورة اتباع الحق.

وكان نور الدين يقرب الفقهاء والقضاة والعلماء، وأخباره بذلك مشهورة، ولم يكن لأهل اللهو واللعب واللغط في مجلسه أي مكان، وكان كلما دعي أو طلب إلى قضية يتمثل قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51].

ومرة حصلت له واقعة، وجاء رجل وشكاه إلى القاضي؛ فأمر القاضي أن يعامله كما يعامل أحاد الناس، وذهب إلى القاضي متمثلًا بهذه الآيات، وجلس حتى أصدر القاضي حكمه، وحكم له، فقال: أما وقد ظهر أن الحق لي، وقد حكمت وفق الشرع، فأنا قد وهبته لذلك الخصم. سيرة عجيبة!

 

نور الدين وموقفه من المكوس والعشور

تكاثر الصليبيون وتكاثرت الأمم الغربية من كل مكان تمول هذا العدوان على العالم الإسلامي، وكان نور الدين محمود يعيش في قلة -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله- من العدد والمال.

ماذا يصنع نور الدين؟ يحتاج إلى المال، والجهاد لا بد له من المال، ووجد أن من قبله كانوا يأخذون الضرائب.. المكوس.. العشور من الرعية المسلمين، ويجمعونها ليجاهدوا بها الصليبيين، والمعارك تكون خاسرة ولا يوجد نصر، وأحيانًا نصر وأحيانًا هزيمة، فما رضيت سيرته المتأسية بالخلفاء الراشدين هذا الأمر.

وكان يرى أنه لابد من إبطال هذه المكوس والضرائب، فأمر بإبطالها جميعًا، وكتب إلى جميع البلاد والقرى والأمصار أنه قد ألغاها إلغاءً أبديًا، وأنه يطلب من كل الخطباء في دولته من فوق منابر الجمعة أن يطلبوا من المسلمين جميعًا أن يسامحوه على ما أخذ منهم فيما مضى، وأن يستغفروا الله تعالى له من ذلك.

وكان يقوم الليل ويبكي كلما تذكر ذلك، ويقول: اللهم ارحم العشار المكاس. ويبكي ويقنت؛ لأنه كان يأخذ العشور والمكوس من المسلمين، ولما أمر بذلك قال له قادة جيشه وأركان حربه: إن فعلت ذلك لم يبق لنا شيء نجاهد به الصليبيين.

فقال لهم: إن كان الجهاد لا يأتي إلا من هذا المال الحرام فلا نريد الجهاد. قالوا: إنك إن لم ترد الجهاد أنت جاهدك أعداؤك. قال: لا نجاهدهم إلا بالحلال، والله تعالى هو المستعان. فألغى ذلك كله، فكانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى نصره، وبارك له في القليل الذي أعطاه.

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: (أسقط المكوس في بلاده، وقد ذكرته في تاريخنا الكبير مفصلًا، ومبلغه في العام: خمسمائة ألف دينار وستة وثمانون ألف دينار وأربعة وسبعون دينارًا من نقد الشام )، انظروا إلى هذه المبالغ الباهظة التي أسقطها لما علم أنها حرام، ولم يستعن بها في الجهاد، ليس لم يستعن بها على شهواته أو ملذاته؛ بل حتى في الجهاد يقول: لا نصرف في الجهاد إلا ما كان حلالًا.

ويذكر صاحب البرق الشامي أنه كتب أكثر من ألف منشور إلى الرعية من أجل هذه المسألة.

 

تأسي نور الدين بالنبي صلى الله عليه وسلم

كان نور الدين رحمه الله يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمور كثيرة، يقول المؤرخون: كانت تُقرأ عنده السيرة والعلم، فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج للحرب متقلدًا السيف، أو معلقًا إياه في حمائل تدور حول الرقبة كأنها القلادة.

قال: سبحان الله! ولماذا نحن نحزم السيوف في حزام ونجعلها في الوسط؟ فأمر أفراد جيشه أن يغيروا الأحزمة، وأن يلبسوا السيوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلبسونها؛ لعل الله ينصرنهم، كان يريد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الأمور، وذلك بغية أن ينصره الله سبحانه وتعالى، وقد نصره الله سبحانه وتعالى، وجدير بمثله أن ينصر؛ لأنه على هذه الحالة.

يقول المؤرخون: كان قد أقبل يعد للجهاد آلته مما آتاه الله، ونشط في البناء والتعمير؛ حتى أنفق فيهما مئات الألوف، وقد أعانه على ذلك أنه لم تكن له نفقات قصور ولا خدم ولا حشم ولا جوارٍ، ولا مجالس أنس تملأ أفواه الندامى فيها بالدر والدنانير جوائز على أبيات من شعر الملق السخيف، وإنما كان يبني المدارس والمساجد والمستشفيات، ويقيم أسوار المدائن وقلاعها... إلى آخر ما ذكروه.

 

رياضة نور الدين

هذا الرجل العجيب كان لديه رياضة، ولكن ما نوع الرياضة التي كانت عند نور الدين؟ رياضة للتخدير، أو لتفريق الأمة وتمزيقها، والتشتيت حتى بين الزوجين؟
لا. إنها رياضة من نوع خاص، ومع ذلك انتقد فيها وأجاب عنها رحمه الله، يقول عنه سبط ابن الجوزي: (لم يلبس نور الدين حريرًا ولا ذهبًا، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان كثير الصوم، وله أورادٌ في الليل والنهار، ويكثر اللعب بالكرة).

كيف يجتمع هذا الوصف؟! لم يلبس الذهب ولا الحرير، ومنع الخمر.. بل ومن العجائب أن ابن نور الدين رحمه الله توفي وعمره أقل من عشرين سنة بسبب مرض أصابه يسمى (القولنج)، فأصر عليه الأطباء أن يشرب الخمر، وقالوا: لا علاج لك إلا أن تشرب الخمر، فقال: والله لا أشربها، وأبى أن يشربها ويعصي الله.

فجاءوا له بفقيهين أحدهما شافعي والآخر مالكي، وقالا له: لا بأس أن تشربها -ضرورة- فأقسم أنه لا يعصي الله سبحانه وتعالى، ولا يموت وفي جوفه شيءٌ مما حرم الله، وتوفي رحمه الله. هذا ابن نور الدين، فكذلك كان أبوه، نقول: مع هذه السيرة كان يكثر اللعب بالكرة، كيف يلعب بالكرة؟ وما نوع هذه الكرة؟

كانت نوعًا من أنواع الرياضة تشبه (الجولف)، عبارة عن كرة ترمى ويستقبلها الناس بصولجان وما أشبه ذلك، كانوا يستخدمون فيها الخيول ويلعبون بها، وكان نور الدين محمود رحمه الله يركب الفرس هو وجيشه ويلعبون هذه الكرة، فلما أنكر عليه وقيل له: كيف تفعل ذلك؟

قال: والله ما أقصد اللعب، وإنما نحن في ثغر، فربما وقع الصوت -ربما نادى المنادي للجهاد- فتكون الخيل قد أدمنت الانعطاف والكر والفر، أي: نكون مستعدين للجهاد، هذا هو اللهو وهذا هو الحق كما ذكر صلى الله عليه وسلم: أن كل لهو يلهو به المسلم باطل إلا ثلاثة ومنها: أن يكون الإنسان ملاعبًا فرسه ليجاهد في سبيل الله عز وجل.

حتى إن ابن كثير رحمه الله يثني على قوته، يقول نقلًا عن ابن واصل: (كان من أقوى الناس قلبًا وبدنًا، لم ير على ظهر فرسٍ أحدٌ أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعبًا بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكان بكمه تهاونًا بأمره، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها). يتأسف!

قال الذهبي رحمه الله: (قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد )، سبحان الله! اسمه نور الدين الشهيد في التاريخ، مع أنه مات على فراشه، فيقول الذهبي رحمه الله تعالى: (فلعل هذا إن شاء الله فألٌ حسن له)، وقد أدركها على فراشه بماذا؟ بتمنيها وبالسعي إليها؛ لأن (من تمنى الشهادة وهو صادق أعطيها وإن مات على فراشه) كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فتمنى الشهادة في سبيل الله فأعطيها.

 

العبرة من حياة نور الدين

لا أحب أن أطيل عليكم في سيرة هذا الرجل، فهي سيرة عجيبة، وجدير بنا أن نقرأها ونتأملها، وما ذكرت منها إلا موجزًا، وإنما نريد أن نصل إلى العبرة النهائية، أن هذا الرجل الذي افتتح إمارات الصليبيين، ثم رزقه الله سبحانه وتعالى بقائده صلاح الدين، فأكمل فتحها بعد حطين، وقضى على أوروبا التي اجتمعت عليه، هذه كانت صفت، وهذه كانت صفت الأمة التي كان فيها.

وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بمثل هذا الرجل الأمة بعد الفرقة والشحناء، جمعها على السنة بعد البدعة، فقمع دولة الرافضة وقهرها كما رأيتم من كلام العلماء رحمهم الله، وأزال البدعة من الأذان ومن غيره، وأعاد تدريس الحديث والسنة في المساجد، وقرب العلماء والفقهاء، ومكن للشرع والقضاة، وقطع دابر الدعارة والفساد، ومنع بيع الخمور والزنا وكل ما يتعلق بهما، وكان شديدًا في الإنكار على أهلها قويًا عليهم، فلما كان كذلك، طهر البلاد من الفساد ومن أكل الحرام، ومن المكوس والربا، وأمرها عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم في المرأة التي زنت ورجمها الصحابة الكرام قال: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه أو لغفر له).

دليل على أن المكس أعظم من الزنا، والربا كذلك، كما روى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح: (درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية) والعياذ بالله، فالربا والمكوس والضرائب وأكل الحرام عمومًا سواء للأمم أو للأفراد يباعد النصر، ويدمر الأمة، ويحول بينها وبين وعد الله تبارك وتعالى لها بأن تغلب أعداءها، وأن تهزمهم.

وقد قضى على ذلك كله، فنصره الله سبحانه وتعالى نصرًا مؤزرًا، وأبقى ذكره، وإن كنا نحن المسلمون -مع الأسف- في غفلة عن ذكره، لكن أبقى الله تبارك وتعالى ذكره عند المطلعين، وهو عند الغربيين أذكر وأشهر.

والمؤرخون الصليبيون كانوا يعجبون من سيرته؛ حتى إن أحد ملوك الصليبيين قال: ما غلبنا من ملوك المسلمين إلا نور الدين، وما غلبنا بكثرة جيوشه، ولكنه كان يعبد الله ويقوم في الليل يدعو علينا.

نعم هذا هو. يدعو الله، ويجاهد في سبيل الله، ويطهر البلاد من الفساد، ويجمع الأمة على الحق، وعلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يكن وحده بل كان معه العلماء الذين كانوا ينصحونه، والقضاة الذين أجلسوه وحاكموه مع الرجل كما يحاكم أي إنسان، وكان معه القواد أيضًا الذين كانوا يضحون ويجاهدون كما جاهد، ومنهم: صلاح الدين رحمه الله، فهو ليس رجلًا وحده، وإنما هي -كما قلت- أمة متجسدة في سيرة هذا الرجل، فهزم الله تبارك وتعالى الصليبيين في الحملة الأولى.

ولا نستطيع أن نستعرض سيرة صلاح الدين ولعل الله سبحانه وتعالى أن يتيحها في موعد آخر إن شاء الله، ولكن نقول: حسبنا بهذا الذي بدأ هذه البداية، وأن الله تبارك وتعالى قد هزم الغرب مجتمعين، فأظهر دينه، وهزم الأحزاب وحده سبحانه وتعالى على يد هذا الرجل.

فالعبرة قائمة، وتاريخه موجود، وجدير بنا أن ندرسه بعناية، لا كما هو موجود في مناهجنا، نور الدين ولد عام كذا، وتوفي عام كذا، وفتح الرها، وحارب الصليبيين، ووصل إلى دمشق، هذه السيرة، أي واحد يمكن أن يسردها، لا. لا بد أن نعرف لماذا انتصر؟ لماذا قرابة قرن من الزمان والمسلمون في ذل وانحطاط، ولماذا انتصر هذا الرجل؟ وكيف كانت الأمة علميًا ودعويًا وجهاديًا، وقبل ذلك كيف كانت عقائديًا، لما تحولت من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشهوات والملذات والجواري والترف والقصور والحشم إلى الجهاد، أكثر حياة صلاح الدين ونور الدين كانت في الخيام، كانوا يجاهدون في سبيل الله عز وجل، لما فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى، وإن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122].

فكل من استحق نصر الله، وهيأ نفسه له؛ فإن الله تعالى ينصره، بل ويمده بجند من عنده، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد في سبيل الله.

 


 

المصدر:

محاضرة العبر من الحروب الصليبية، للشيخ سفر الحوالي

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الحروب-الصليبية
اقرأ أيضا
من علوم اللغة: النحو | مرابط
تفريغات لسانيات

من علوم اللغة: النحو


الشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل وحتى حفظ عشرين ألفا من أشعارهم ونحو هذا كثير جدا في حال سلفنا فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم ولا أن يفتي في كثير من المسائل

بقلم: محمد الحسن الشنقيطي
313
المدارس العالمية وتعلم اللغات | مرابط
فكر لسانيات

المدارس العالمية وتعلم اللغات


لي تجربة مع ولدي كان العمل يعطيني بدلا للتعليم يدخله أغلى مدرسة دولية لكنني فضلت لغة دينه وأمته ثم لما اطمأننت عليها دفعته قبل الجامعة بعام أو عامين لتعلم الإنجليزية فأتقنها وها هو الآن يدرس بها فلا هو ضيع لغته ودينه ولا هو تأخر عن غيره من أهل اللغة التي يدرسونها منذ نعومة أظفارهم على حساب لغة قرآنهم وأمتهم.

بقلم: د.خالد حمدي
392
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1350
صيد الخاطر | مرابط
مناقشات

صيد الخاطر


أعدت قراءة صيد الخاطر في الأسابيع الماضية بشكل متقطع. ولكن بتمعن أو بالأحرى بعين أخرى غير تلك التي قرأت الكتاب قبل سنوات عين جديدة نسبيا وبأسئلة جديدة أكثر راهنية وأقل تجريدا. وصيد الخاطر لابن الجوزي من الكتب التي تستحق التكرار في مراحل عمرية مختلفة. وهو يقدم للقارئ خلاصات علمية وحصيلة تجارب وتأملات وخبرات حياتية شديدة الأهمية.

بقلم: عبد الله الوهيبي
196
حقيقة الصيام في الإسلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

حقيقة الصيام في الإسلام


إن الصيام مقاومة مستميتة لكل الشهوات المحيطة بالإنسان وللأسف يجهل السواد الأعظم من المسلمين اليوم معاني الصيام الحقيقية ويكتفون فقط بالامتناع عن الطعام والشراب وفي المقابل يغرقون في شهوات العين والأذن أو على أحسن تقدير يلتزمون الامتناع عن الشهوات نهارا ويغرقون فيها ليلا ولكن ليس هذا هو المقصود من الصيام وبين يدينا مقتطف للشيخ محمد البشير الإبراهيمي يشير فيه إلى هذه الحقيقة

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
1503
خير الأمة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير الأمة العربية


لست امرءا قانطا ولا متشائما ولا يائسا من خير هذه الأمة العربية بل لعلني أشد إيمانا بحقيقة جوهرها وطيب عنصرها وكرم غرائزها بل لعلني أشد إيغالا في الإيمان بأنها صائرة إلى السؤدد الأعظم والشرف السرى والغلبة الظاهرة إن شاء الله وأنها هي الأمة التي أرصدها بارئ النسم

بقلم: محمود شاكر
378