أثر الإيمان في بناء الأمم ج1

أثر الإيمان في بناء الأمم ج1 | مرابط

الكاتب: د سفر الحوالي

461 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

الإيمان وواقع الحياة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، الذي علَّمنا الإيمان والتوحيد، وحذرنا من الشرك والضلال والبدع، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت أعظم أمة في تاريخ الإنسانية، أعظمها إيمانًا وعدلًا، وأخلاقًا، وأطيبها حياةً في هذه الحياة الدنيا، وأسعدها عند الله تبارك وتعالى في الدار الآخرة...، أما بعد:

فإن الحديث سيكون عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم، ولماذا تنهار أمم وشعوب؟ ولماذا تبقى غيرها؟ فالأمر يحتاج إلى وقت طويل؛ ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا.

وإن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج؛ إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد -وأمراض الأمم عامة- ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة.

وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الأمر لا يعني تعصبًا لمذهب معين، ولا يعني قسرًا وفرضًا للناس على رأي من الآراء البشرية أبدًا، ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفرادًا وشعوبًا أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.

 

واقع إيماننا وارتباطه بالمادة

إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيرًا عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها -هم- صراعًا كصراع الوحوش في الغابات،ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم -إلا ما ندر- لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية.

حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة -وأكثرهم من هذه الأمة- أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزًا كبيرًا من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر.

ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذا نبي الهدى والرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرنا فيقول: {ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا أحد والله يساويه فضلًا؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل "بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي.. نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمتي.. أمتي}.

ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلًا، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيدًا، فقوله:{ ما الفقر أخشى عليكم } أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ بالله منه، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف ومذهب وعن كل دين محرف.

 

الإيمان والتكافل الاجتماعي

إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" [الماعون:1-3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: "مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ" [المدثر:42-44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة "فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ" [البلد:11-14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.

 

المادة والإيمان

يجب على أمة القرآن وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلغي النظرة إلى أن أسباب الانهيار هو ضعف أو قلة الموارد الاقتصادية أو الجوانب المادية تمامًا؛ وبالتالي: علينا البحث عن أسباب زوال الوجود وأسباب الانهيار من خلال هدي رسولنا وسنة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 

سبب زوال الأمم

لقد بيّن الله لنا في كتابه الكريم أوضح البيان حال الأمم قبلنا، والعجب أنه ما من أمة أهلكها الله تبارك تعالى إلا وهي في حال القوة! ويشهد بذلك كتاب ربنا وكذلك التاريخ وواقع الأمم.

قوم نوح دمروا في وقت قوتهم وتمكنهم، وقوم عاد الذين قالوا: "مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" [فصلت:15] فلم يروا أن أحدًا أشد منهم قوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيهم: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ" [الفجر:6-8] وثمود: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [الفجر:9] الذين نحتوا الجبال، وبنوا وشادوا المصانع، فهل أتاهم عذاب الله وهم في حالة ضعف؟! أو في حالة انهيار اقتصادي؟! أبدًا فقد أتاهم وهم في أقوى ما يمكن أن يكونوا عليه من القوة والتمكن، وفرعون -أيضًا- متى أهلك؟ ومتى دمر الله هذه الأمة القبطية الفرعونية؟ وهل دمرت وهي في حالة ضعف؟! لا، بل دمرت وانهارت وسقطت وهي في أشد قوتها، عندما تكبر زعيمها، ذلك الرجل الذي بلغت به الوقاحة والجرأة على رب العالمين أن يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] وأن يقول: "فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى" [القصص:38] ففي أشد القوة والتمكن دمره الله..، إلى غير ذلك مما لا يخفى علينا، كما قال الله تبارك وتعالى: "وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ" [سبأ:45] وفسر المعشار بأنه عشر العشر.

فالأمم قبلنا قد سادت وشادت وبنت، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أهلكت وعذبت لسبب ليس هو الضعف المادي بأي حال من الأحوال.

وكذلك أتى التاريخ شاهدًا لذلك، عندما دمَّر الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر فهل دمرت مملكة الفرس والروم، لأنها كانت تعاني من ضعف مادي؟! أبدًا، فلقد كان الفرس يستعمرون الجزء الشرقي من العالم وينهبون خيراته، وكان الروم يستعمرون الجزء الغربي، ويكفي أن نعلم أن الروم كانوا مستعمرين لـبلاد الشام ومصر وغرب إفريقيا بكاملها، فكانت مستعمرة رومانية.

إذًا: في أوج القوة والعظمة سقطوا وذهبوا، لماذا؟ لأنهم واجهتهم وقابلتهم جيوش التوحيد، التي عقد لواءها خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك البلد الطيب الطاهر، تلك الجيوش القليلة العدد والعدة، لكنها ذهبت وانطلقت ذات اليمين وذات الشمال، فأطاحت بأعظم دولتين في تاريخ القرون الوسطى، فكيف انهارت؟! ولماذا انهارت؟ وهل كان سبب الانهيار هو الضعف المادي أو الاقتصادي أو التفكك السياسي أو أو...إلخ؟!

ومع الأسف هذا هو الذي نقرأه في التاريخ، أو نسمعه في محاضرات أو ندوات أو ما يكتب في الصحافة، وفي الكتب، حتى أدى ذلك إلى أن غفلت أمة الإسلام عن هذه الحقائق الذهنية، فأصبحت أمة مادية تنظر إلى التاريخ، وإلى أسباب البقاء والفناء، والحياة الطيبة، وإلى أسباب الحياة الشقية.. نظرة مادية بحتة.

 

أثر الإيمان في حياة الرسول والصحابة

كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيش؟! وكيف كان كسرى يعيش؟! وهل هناك مجال للمقارنة؟! رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم، وأفضل الخلق عند الله وأحبهم إليه، ومع ذلك يربط الحجر على بطنه من الجوع، ويمكث الشهر والشهرين ولا يدخل بيته إلا الأسودان (التمر والماء) ولم يشبع من خبز الشعير، ولم يجلس على خوان قط (على مائدة) كما جلس من بعده.

ولو قرأنا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها صورة أصحاب الصفة؛ لوجدنا العجب العجاب!! كيف كان الصحابة الكرام يعيشون؟! وكيف كان أهل الصفة يعيشون؟ كيف كان الناس وكيف كانت حاجتهم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! بل إن هذا الحديث الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ما الفقر أخشى عليكم } قد ذكره؛ لأن الصحابة الكرام بلغهم أن أبا عبيدة قد قدم بمال من هجر، فاجتمعوا -الحاجة جمعتهم، وهذه الحالة الاقتصادية لو قورنت بوضعنا اليوم؛ لقلنا: إنها مجاعة، ومع ذلك فهذه كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه حياة أصحابه.

فكيف كانت حياة كسرى؟! وماذا نقول عن حياته نذكر فقط بعض ما قاله المؤرخون عن حياته وبعد أن هزم ودخل سعد بن أبي وقاص المدائن، ودخلوا الإيوان (القصر الأبيض) وهم يذكرون الله شاكرين حامدين يقولون: "كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ" [الدخان:25-27] فلما دخلها سعد رضي الله عنه كيف كان حال كسرى؟!

يقول بعض المؤرخين: لما دهمه المسلمون ورأى أن المدائن ستسقط، ولا حيلة له ولا مفر..، اصطحب معه ما خف من متاعه وشهواته، فما هو هذا الخفيف؟ اصطحب ألفًا من الطباخين والطهاة -فقط- وترك الباقي، وأخذ معه ألفًا من البزاة -الذين يعلمون الجوارح والصقور وغيرها لتصطاد لهم- ومن الجواري نحو ذلك؛ وحملوا من النفائس ألف حمل أو ما أشبه ذلك، هذا فقط وهو هارب أخذ الشيء الكثير والعجيب، ليهرب به من وجه هؤلاء المؤمنين وترك من الكنوز العظيمة التي أورثها الله لأمة الإيمان تطبيقًا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ما الفقر أخشى عليكم} وتطبيقًا لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} انظروا لم يقل: لتستثمرن أموالهما لتنمية أو لتحسين أوضاع المسلمين، لا، وإنما لتنفقن في سبيل الله، ولذلك ورث المسلمين هذه الكنوز، وأنفقت في سبيل الله، فإذا كان هذا حاله وهو هارب، فكيف حاله وهو مقيم؟! فهذا طاغوت الضلال الذي مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه حياته وتلك حياة خليل الله وحبيبه وصفيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 

من أسباب الحياة الطيبة

فالعبرة في الحياة الطيبة والحياة السعيدة (في بقاء الأمم) في سعادتها في الدنيا والآخرة، ليست أبدًا في ذلك الجانب الذي يزعمون؛ وإنما هي في الإيمان بالله والتمسك بكتابه، قال تعالى: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه:123-124] أي: أن الذي يتبع هدى الله لا يضل ولا يشقى، فهو على الصراط والطريق المستقيم وعلى الحق؛ وأيضًا لا يشقى بتسليط أعداء الله عليه، ولا بفقر، ولا ببلية لاحقة بعذاب من عند الله يرسله عليه، وأيضًا إن من لم يسر على الصراط المستقيم وأعرض عن ذكر الله فله من المعيشة الضنك بقدر إعراضه عن ذكر الله، وعكس ذلك قوله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" [النحل:97] إذن فإن طيبة الحياة وسعادتها بقدر الإيمان، وشقاوتها ونكدها بقدر الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، فهذه قاعدة مقررة، وليست العبرة بكثرة ذات اليد ولا بالقلة؛ مع أن لها جانبًا كبيرًا لا يغفل، لكن ليست العبرة والأساس بها، وإنما هو في اتباع هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع ما أنزل الله عز وجل.

 

حال بني إسرائيل في ظل فرعون

فكيف كان حال بني إسرائيل -كما ذكره الله في القرآن وكما هو مذكور في التاريخ- في ظل فرعون؟ هذا الطاغوت الذي لم يحدثنا الله تبارك وتعالى عن طاغوت كالحديث عنه، ولكن! ماذا وعدهم الله؟ وكيف كان فرعون يصنع بهم؟ كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم ويفعل بهم الأفاعيل، ولا حيلة لهم على الإطلاق في هذا المجتمع الظالم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر عن وعده لهؤلاء، فقال: "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" [القصص:5] سبحان الله! الله إذا أراد أمرًا فلا مرد له، فقد قضى الله وقرر أنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء لأنهم كما قال تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ" [القصص:4] وشيعًا: أي أن المجتمع الفرعوني كان طبقات، وكان أردؤُها طبقة بني إسرائيل.

والله تعالى يعد بأنه يريد أن يمنُّ على هؤلاء المستضعفين، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ وفعلًا تحقق ذلك لمّا أن كان بنو إسرائيل على دين الله، ولما اتبعوا نبيه، رغم ما فيهم من التواءات، وبالرغم مما قاسى موسى عليه السلام وما عانى كما شكى ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فقال: {قد عانيت من أمر الأمم من قبلك ما لم تعان} ومع ذلك فقد قال تعالى: "وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ" [الأعراف:137] فتحقق وعد الله عز وجل مع أنهم كانوا أمة في الحضيض، وأمة عصاة غلاظ القلوب والأكباد، إلا أنهم ابتعدوا عن التخاذل فترة ما أورثهم الله، ومن أصدق من الله قيلًا، فكيف بهذه الأمة وقد قال تعالى: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" [الأنبياء:105] فلو قلنا: إن الأرض هي الجنة فلا إشكال -كما هو قول بعض المفسرين- ولكن أيضًا كتب الله عز وجل ذلك وحققه في الدنيا، فأورثت هذه الأمة، ومكنت في هذه الدنيا؛ لأنها كانت على الإيمان بالله تبارك وتعالى.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان
اقرأ أيضا
في القرآن كفاية الجزء الثاني | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

في القرآن كفاية الجزء الثاني


في القرآن كفاية تأتي هذه الشبهة في مقولة تظهر صاحبها في صورة المكتفي بالقرآن مصدرا للحجة والاستدلال فإذا استدللت لحكم شرعي بدليل من السنة النبوية قذف بهذه المقولة في وجهك مدعيا كفاية القرآن في إقامة الدين دون الحاجة لمصدر آخر وقد يعضد صاحب هذه المقولة مقولته ببعض الأدلة القرآنية كمثل قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء أو قوله سبحانه: ما فرطنا في الكتاب من شيء

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2333
الأمة الوسط الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الأمة الوسط الجزء الأول


من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى

بقلم: عمر الأشقر
843
الديمقراطية الأمريكية | مرابط
فكر اقتباسات وقطوف الديمقراطية

الديمقراطية الأمريكية


والحقيقة أن الديمقراطية المتعارف عليها عالميا الآن هي المستوحاة من النموذج الأميركي وما ترك المسلمون للشورى إلا رغبة في محاكاة هذا النموذج بالذات فلا يوجد تعريف واضح لها يمكن الرجوع إليه لفصل التجربة التاريخية والتجربة التاريخية الناجحة حاليا هي الأمريكية ولا أميركا دون رأسمالية

بقلم: عمرو عبد العزيز
469
مميزات التوحيد في الإسلام | مرابط
تعزيز اليقين

مميزات التوحيد في الإسلام


البحث في مميزات تشريع الإسلام في التوحيد وقضاياه من أهم ما ينبغي لطلبة العلم الحرص عليه ﻷن هذا المبحث يعد من أهم الموضوعات التي تبين محاسن الإسلام وتفوقه على كل الأديان وتثبت بأنه دين منزل من عند الله تعالى لا تعبث فيه أيدي البشر كما هو في سائر الأديان فضلا عن أن إدراك تلك المميزات من أهم ما يزيد من تقوية إيمان المسلمين بتوحيدهم لربهم وتمسكهم بدينهم.

بقلم: سلطان العميري
874
هل فعلها الصحابة؟ | مرابط
مقالات

هل فعلها الصحابة؟


أول ما بدأت تعلم العلوم الشرعية وضعت لنفسي قاعدة لم تخني أبدا كنت كلما احترت في أمر ما أو مسألة صارت مثار جدل وشد وجذب أسأل نفسي: هل فعلها الصحابة؟ من فعلها؟ لماذا تركوها؟ ولماذا فعلوها؟ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم معيار من خلاله نعرف حدود ما يمكن أن نختلف فيه أو بعبارة أدق حدود ما يختلف فيه أهل العلم.. إياك أن تتخيل أنك ستكون أعبد أو أتقى أو أورع لله منهم! أو أحب للنبي صلى الله عليه وسلم منهم!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
269
الدليل العقلي عند السلف ج2 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج2


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
309