من يمتلك الحقيقة

من يمتلك الحقيقة | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2044 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أقسام الناس في امتلاك الحقيقة

كثيرًا ما نشعر بالامتعاض الشديد تجاه الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة في كل القضايا التي يتحدثون عنها، سواء أكان ذلك في القضايا الدينية أو حتى في القضايا الحياتية العادية، وإذا تأملنا أحوال الناس -أعني المنتمين إلى الإسلام منهم- في موقفهم من امتلاك الحقيقة، نجد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
 
1- فمنهم من يعتقد بأنه صاحب الحق دائما وفي كل القضايا، وأن مخالفه على باطل وخطأ.
2- ومنهم من يعتقد أنه على الحق في بعض المسائل ومخالفه فيها على خطأ، ولكنه يؤمِن أيضًا بأن كثيرًا من المسائل التي يرى فيها الصواب أنها مسائل اجتهادية، وأن قول مخالفه يحتمل الصواب، وله حظ من النظر.
3- أمّا القسم الثالث فهو قسمُ أصحاب نظرية (نسبية الحقيقة) حيث يرون أن الأمر نسبيٌّ في جميع الاختلافات، وأن الجميع يمتلك قدرًا من الحقيقة، وأنه ليس هناك شيء من الآراء يُسمّى باطلًا، بل قد يصل بعضهم إلى أن يرى أن الأديان الأخرى غير الإسلام موصلة إلى الله تعالى!
 
ولكي لا يكون الخلاف مجملًا فيضيع الحق فيه بين عبارات عامة غير محررة فإن التفصيل في هذه القضية بحسب موضوع الخلاف قد يكشف عن اللبس الذي يعتري البعض فيها.

 

فنبتدئ أولًا بالخلاف بين الأديان:

 

إن هذه القضية في القرآن والسنة إلى درجة من الوضوح والجلاء بحيث لا تحتاج إلى أكثر من إيمان واتباع، فالأدلة فيها ليست مُشكِلة ولا خفية، فالقرآن والسنة يدلان بوضوح وقوة على أن كل الأديان بعد ظهور الإسلام باطلة، وأن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كُلِّه، وأن من يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وأن فكرة التثليث عند النصارى، والتكذيب بالنبي عندهم وعند اليهود = كُفرٌ بالله صريح، وما يتعلق به البعض من نصوص الثواب العامة فإنه من المجمل أو المتشابه الذي يُرد إلى المحكم البيّن، وإلا فلا يمكن أن يجتمع فهمهم لتلك النصوص مع سائر النصوص الواضحة في الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم  والتحذير من معصيته ومخالفته.
 
ونحن نقرأ في الفاتحة في كل صلاة: {ٱهدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة:٦-٧]، والمراد بالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: اليهود. والمراد بالضَّآلِّينَ: النصارى. قال ابن أبي حاتم الرازي: «لا أعلم بين المُفسّرين في هذا اختلافا».
 
وهذا إذا كان في الأديان المنسوخة التي لَحِقها التحريف؛ فإن بطلان الشرك وإنكار الإله من باب أولى وأحرى.

 

ثانيًا: الخلاف بين طوائف الأمة الإسلامية في القضايا الاعتقادية:

 

بيّن النبي صلى الله عليه وسلم للناس ما يجب عليهم اعتقاده كما بين لهم ما يجب عليهم عمله أو تركه، ولم يجعل الله تعالى أمور الاعتقاد موكولة للآراء؛ فإنها لا تُجْمِع على شيء في قضايا الاعتقاد، ألسنا نرى أنّ استحسانات بعض الناس قادتهم إلى عبادة الفأر و البقر والحجر والشمس والقمر، كما أن آراء أخرى جعلت أصحابها يعتقدون أن دفع الضر مرتبط بخيط يحيط مِعصَم الإنسان.
 
بينما نجد أن الإسلام قد جاء في قضايا الاعتقاد ببيان واضح، ونور إلهي لا ريب فيه، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ما يجب عليهم في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وقضائه وقدره وملائكته واليوم الآخر، وأكَّد على أهمية الاتباع وعدم الاختراع في قضايا الدين اعتقادًا وعملًا فقال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». وقال «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

ولا شك أنَّ العُدول عن الإيمان والتسليم بما في نصوص الوحيين إلى معارضتها بالآراء من أكبر الـمُحدثات في الدين ولا ريب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على أمته أشد الحرص، ومهتما غاية الاهتمام ببيان الدين، وهو قد بلّغ النصوص المتعلقة بالاعتقاد على كثرتها دون أن يُرشد أمته إلى موقف خاص يقفونه تجاهها يختلف عن موقفهم من نصوص الأحكام، ولو كانت هناك طريقة معينة خاصة يريد منا التعامل بها مع نصوص الاعتقاد لأرشدنا إليها، خاصة وأن المخالفين في أبواب الاعتقاد يدّعون أن ظواهر تلك النصوص سيء في حق الله تعالى، بل ويصرح بعضهم أن ظاهرها كُفر! ولو كان الأمر كذلك لوجدنا البيان والإرشاد من أغير الناس على ربه وعلى العقيدة -محمد صلى الله عليه وسلم -.
 
وقد تلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه الحقائق بتسليم وإيمان، فلم يعارضوها بقياسات فاسدة، ولا بآراء مجردة، ويُعرَف صدق ذلك بمعرفة أحوالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم تجاه ما يُشكل عليهم من أمور الديانة، فقد كانوا يسألونه ويستوضحون منه في مختلف أبواب الدين، وهذا محفوظ عنهم في مصنفات السنة وكتب الآثار، فإذا عُلم ذلك فإننا لا نجدهم استشكلوا نصوص الاعتقاد التي سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حصل من أفراد المسائل المتفرقة مما هو محفوظ في باب القدر قوبل بالتسليم بعد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم، بينما لا نجد مثل هذه الاستشكال في نصوص الصفات التي امتد الخلاف بين الأمة في الموقف منها إلى يومنا هذا بعد أربعة عشر قرنا من وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
 
وفي أواسط وأواخر عهد الصحابة بدأ التغيّر في هذا الصفاء الاعتقادي في عدد من الأبواب، كالإيمان والكفر، والشفاعة، والقدَر، والغلو في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا نجد بين الصحابة اختلافا في الموقف من هذه التغيرات، ولا يوجد أي صحابي انتسب إلى هذه الأقوال المنحرفة، بل كان لهم موقف قوي في إنكارها.
 
مثال ذلك: أُخبِرَ ابن عمر أن قومًا بالبصرة من طُلاب العلم وقُرّاء القرآن يُنكرون القدر، قال: «إِذَا لَقِيتَهُمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ لأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ».
 
وقد حفظ التابعون عن الصحابة علومهم، فنقلوا عنهم التفسير والفقه والقضاء والحديث، ودوّنت أقوالهم في مصنفات ضخمة كمصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما، فلم نجد عنهم ما يخالف موقفهم من تلكم النصوص في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
 
ومع امتداد الزمن وموت الصحابة وفتح البلدان والاختلاط بين الثقافات والأديان، تأثر بعض المسلمين بمواد علمية مستمدة من ثقافات أخرى أوجبت لهم موقفا من نصوص الاعتقاد وقضاياه يختلف كل الاختلاف عن منهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأت فرق ومذاهب صار لها حضور بين الناس حتى تبنى بعض ملوك بني العباس شيئا من هذه المذاهب فانتصر لها بالقوة، وحارب العلماء الذين التزموا بالنهج الأول كأحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، وقصته في الابتلاء والسجن والضرب في ذلك معلومة.
 
والصواب في هذه الاختلافات ليس مع الجميع بل مع من سار على نهج أصحاب رسول الله الذي ورثوه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني ذلك قطع الأواصر والعلائق بين المسلمين من جهة التعامل والتعاون خاصة مع استهداف المسلمين فيما هو أكبر من ذلك من أصول ديانتهم.
 
فالمطلوب في هذا الخلاف بيان الحق بدليله، ونصيحة المسلمين، وإرشادهم إلى الحق الذي كان عليه أوائل هذه الأمة، وبيان خطأ ما نشأ من التفرق بعد ذلك.

 

ثالثا: جانب الاختلاف بين الفقهاء في المسائل الفقهية

 

وهذا تحدثنا عنه في فصلٍ مستقل في هذا الكتاب، فراجعه أيها القارئ الكريم مشكورًا تحت عنوان لماذا يختلف العلماء؟

 


 

المصدر:

أحمد يوسف السيد، كامل الصورة، ص125

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كامل-الصورة #من-يمتلك-الحقيقة
اقرأ أيضا
الاحتجاج بخصوصية نزول الآيات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاحتجاج بخصوصية نزول الآيات


إن أغلب محاولات الإصلاح بالقرآن الكريم تواجه بهذه الدعوى أن الآية نزلت في الكفار أو نزلت في الشرك الأكبر فلا ينبغي الاستدلال بها في كذا وكذا والحقيقة أن هذه دعوى خاطئة وهذا مقتطف لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يعلق على نفس القضية

بقلم: محمد بن عبد الوهاب
2316
بين مقام الشك ومقام اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مقام الشك ومقام اليقين


ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخم شأن الشك وعدم الحسم ويقزم اليقين واليقينيات بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة إلى المزيد من طرح الأسئلة فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرا بحسم الإجابات

بقلم: إبراهيم السكران
469
الحكمة من خلق الإنسان؟ | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الإنسان؟


ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس له ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه ليسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي فإذا ما بصره الله وعلمه وأنبته وتملك وأصبح له وظيفة وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه نسي الله وتمرد على حدود الله وانتهك محارم الله وحدوده فأين العقول؟!

بقلم: د. عائض القرني
606
أدلة النبوة: أساس اليقين | مرابط
تعزيز اليقين

أدلة النبوة: أساس اليقين


أدلة النبوة هي أساس اليقين ولهذا كثرت وتنوعت لأن من سنة الله تعالى كثرة أدلة المطالب الكلية رحمة بالعباد وتيسيرا لهم لسلوك طريق الرشاد

بقلم: د. عيسى السعدي
272
مراجعة لكتاب الاسترقاق القيمي | مرابط
مناقشات

مراجعة لكتاب الاسترقاق القيمي


العناصر التي تعزز أي مشروع تغريبي هي كتلة مقومات ومنها: التغطية السياسية والشرعية والنخبة الثقافية المسوقة وضعف الممانعة الشعبية وذكر ستة نماذج لمشروعات تغريبية وقام بتفصيلها وإبراز هذه العوامل الفاعلة فيها

بقلم: إبراهيم السكران
2273
الجندر المفهوم والحقيقة والغاية ج1 | مرابط
الجندرية

الجندر المفهوم والحقيقة والغاية ج1


ومن القضايا التي تحاول البرامج الجندرية التصدي لها: الوظيفة الاجتماعية للرجل والمرأة على افتراض أن الرجل يهيمن على المرأة ويمارس قوة اجتماعية وسياسية عليها ضمن مصطلح المجتمع الذكوري وبالتالي يجب منح المرأة قوة سياسية واجتماعية واقتصادية تساوي القوة الممنوحة للرجل في جميع المستويات حتى في الأسرة

بقلم: حسن حسين الوالي
743