فوائد إيمانية من معركة عين جالوت وأسباب النصر فيها
كانت موقعة عين جالوت من أهم المواقع في تاريخ الأرض، وليس فقط في تاريخ المسلمين، كان للموقعة آثار لا تحصى ولا تعد، أدرك جميع المسلمين أن النصر من عند الله عز وجل، وأن موالاة الكافرين لا تجر على المسلمين إلا الويلات، قتل المسلمون فيها الهزيمة النفسية، وسقط حاجز الخوف من التتار.. وغيرهم، وفنيت القوة العسكرية التترية تمامًا في بلاد الشام وغيرها، وقامت دولة المماليك قيامًا قويًا، وحملت على عاتقها صد الهجمات التترية بعد ذلك، كما قامت بتحرير الشام من الممالك الصليبية، ثم واجهت الاستعمار الصليبي البرتغالي بعد ذلك، وظلت تحمي بلاد المسلمين (270) سنة كاملة، وهكذا عادت الهيبة لبلاد المسلمين ولأمة الإسلام بعد غياب سنوات طوال.
من العجب أن التتار بدءوا يدخلون في دين الله عز جل! وهي من المرات القليلة أو الوحيدة التي يدخل فيها الغزاة في دين من يغزونهم سبحان الله! إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وحدث ذلك بعد عين جالوت.
فهذه وقفات مع أسباب النصر في موقعة عين جالوت:
أولًا: الإيمان بأن النصر من عند الله عز وجل وليس من عند غيره.
ثانيًا: التربية الإسلامية للشعب على حب الجهاد في سبيل الله.
ثالثًا: الوحدة بين جيوش المسلمين والقتال تحت راية واحدة.
رابعًا: القدوة المتمثلة في قطز القائد الذي نزل إلى خندق الجنود، فكان فعله أبلغ من ألف خطبة ومقال.
خامسًا: الإعداد الجيد للجيش والخطة، واختيار المكان، وإعداد السلاح، وبذل المال.. وغير ذلك من أمور إعداد القوة.
سادسًا: عدم الاستعانة بالصليبيين.. أو غيرهم.
سابعًا: الشورى الحقيقية الواضحة في منهج قطز رحمه الله، لما جمع الناس واستشارهم في أمر الجهاد.. وغير ذلك.
ثامنًا: رفع الروح المعنوية للجيش، والاهتمام بالجانب النفسي لهم.
تاسعًا: نظافة اليد والبذل من المال وتولية الصالحين، والإعراض عن المفسدين والمنافقين.
عاشرًا: الشكر المباشر لله عز وجل والتواضع له، وسنة الله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
فتلك عشرة كاملة لو جمعها جيش -والله- لن يهزم قط.
وفاة قطز
تبقى في القصة مفاجأة هامة، فإن قطز لم يبق في كرسي الحكم إلا أحد عشر شهرًا وسبعة عشر يومًا فقط، ولم يكمل السنة، مات قطز بعد انتصاره في عين جالوت بخمسين يومًا فقط، ولكن سبحان الله! قيمة الرجال لا تقاس بطول العمر ولا بكثرة المال ولا بأبهة السلطان، إنما تقاس بالأعمال الخالدة التي تغير من وجه التاريخ ومن جغرافية العالم، وهي في ذات الوقت تثقل في ميزان الله عز جل.
يظن كثير من الناس أن زمن المعجزات قد انتهى، ولكن أخطئوا، فإن الله عز وجل قد ترك بين أيدينا معجزة لا تنتهي ولا تندثر، تلك هي كتاب الله عز وجل القرآن، ومن أعظم معجزات القرآن صناعة الرجال، فالقرآن هو الذي بث هذه الروح في الرجال من أمثال قطز وصلاح الدين ويوسف بن تاشفين وخالد بن الوليد.. وغيرهم من قادة المسلمين.
والكتاب القرآن ما زال في أيدينا وسيبقى إلى يوم القيامة، فهو معين الأمة الذي لا ينضب، وسيخلق الله عز وجل للأمة دائمًا رجالًا في كل زمن يجددون لها الدين، ويبعثون في نفوس أبنائها الأمل، ويقودونها إلى عز الدنيا ونعيم الآخرة، ويحققون وعد الله عز وجل الذي سطره في كتابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
وبعد إخواني في الله! انتهت قصة التتار، وانتهت قصة عين جالوت، ومات جنكيز خان وهولاكو لعنهما الله، وكذلك مات قطز والظاهر بيبرس رحمهما الله، ومات الجند الظالمون، ومات الجند المؤمنون، ومرت الأعوام والأعوام، والقرون والقرون، ولكن الذي بقي ولم ينته هو الدرس والعبرة، الذي بقي هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)، الذي بقي هو السنة الإلهية التي لا تتبدل ولا تتغير: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران:160].
والله أسأل أن يجعل لنا في التاريخ عبرة.
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
وجزاكم الله خيرًا كثيرًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر:
محاضرة للدكتور راغب السرجاني، بعنوان: التتار وغزو العراق