التكليف والحرية

التكليف والحرية | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

1852 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من شروط التكليف طاعة وحرية
 

وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين في قضية القدر، وفي قضية الإيمان، وفي قضية التكليف والجزاء، فيقصرون النظر على شرط الحرية، ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء، وكأنه من اللازم عقلًا أن يكون الجزاء مقرونًا بالحرية المطلقة، وهي في ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال في فهم خلق الإنسان؛ فمن بحث عن الإيمان بالتكليف غير ناظر إلى شرط «الطاعة»، فلا جرم يضل عنه ولا ينتهي فيه إلى قرار؛ لأنه يبحث عن شيء آخر ولا يبحث عن التكليف ولا عن الإيمان.
 
في القرآن خطاب متكرر إلى العقل، وبيان متكرر لحساب الإنسان العاقل على الخير والشر، مع إسناد الإرادة إليه في استحقاقه للثواب والعقاب.
 
وفيه آيات صريحة تسند الإرادة إلى الله، وتقرر أنه — سبحانه وتعالى — هو الخالق المقدر الذي يقدر الهداية والضلال، ويعطي كل شيء خلقه ويهديه، وهي آيات كثيرة مقصودة بالتكرار، وإن لم تبلغ في الكثرة عدد آيات الخطاب والتكليف، وآيات التذكير بالعقل والنظر والتمييز والتفكير. فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (البقرة: ٢١٣). قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ (الأعراف: ٢٩، ٣٠). سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (الأعلى: ١–٣). وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (إبراهيم: ٤). يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (إبراهيم: ٢٧).
 
•••
 

الله هو الفعال لما يريد

وكثرة الآيات بهذا المعنى تبعد عن الذهن أن يكون فيها مجال للتأويل بغير معناها الظاهر على اختلاف العبارة والمناسبة، فمعناها الظاهر الذي لا تأويل فيه أن الله -سبحانه وتعالى- هو الفعَّال لما يريد، الذي يخلق عباده ويخلق ما يعملون.
 
أفي هذا تناقض في حكم العقل إذا نظرنا إلى الأمر كله نظرة المعقول، ولم نقصر النظر إلى النصوص أو إلى واجب الاعتقاد بمقتضى هذه النصوص؟
 
إن الرجوع بالقضية إلى أسسها المحتملة على كل احتمال ينفي التناقض، ويرينا كيف يكون هذا الاعتقاد «حلًّا للمشكلة» من أسسها المفروضة جميعًا، وخروجًا من التناقض الذي يلزمها على كل احتمال غير هذا الاحتمال.
 
وليكن الإنسان روحًا وعقلًا خلقه الله، أو يكن تركيبًا عارضًا من تراكيب المادة لم يخلقه أحد، على قول المؤمنين بالمادة مجردة من الفكر والإرادة.
 
وليكن التكليف إرادة من عند الله، أو يكن ضرورة من قضاء الواقع لا يرتبط بها أمر ولا جزاء.
 
فكيف يتصور العقل إرادة الإنسان على كل احتمال؟
 
إنه لا يتصورها إرادة مطلقة من جميع القيود؛ لأن إرادة إنسان واحد تنطلق بغير قيد هي قيد لكل إنسان سواه، وكيف يأتي هذا الإنسان الواحد بإرادته المطلقة منفردًا بها بين أمثاله المقيدين؟
 
أما أن يوجد الناس جميعًا بإرادة مطلقة لكل منهم على سواء، فهذه هي الإحالة العقلية في الفرض والتقدير قبل الوصول بها إلى الإيجاد والتحقيق.
 
فإذا كانت الإرادة المطلقة هي إرادة الله، فخلق الناس مكلفين بغير إرادة لهم شيء غير معقول وغير مقبول؛ لأن سقوط التكليف لا معنى له في هذه الحالة إلا أن يخلق الناس جميعًا متشابهين متماثلين متساوين في العمل الصالح الذي يساقون إليه كما تُساق الآلات، فلا فضل إذن للعاقل على غير العاقل، ولا تمييز للإنسان على الجماد المجرد من الحس، فضلًا عن الحيوان.
 
فإذا وجب تكليف الإنسان، فالعقل الإنساني لا يوجبه إلا كما ينبغي أن يوجب على حالة واحدة لا سواها، وهي حالة الإرادة المخلوقة يودعها فيه الخالق كما ينبغي أن تودع، وهي لا ينبغي أن تودع إلا على هذا الفرض الذي يدعو إليه القرآن.
 
إن الحرية المخلوقة حرية صحيحة كما ينبغي أن تكون في احتمال العقل المدرك المميز الذي يهتدي بإذن الله لما اختلفوا فيه.
 
ولا يقال: إن الحرية التي تُخلق ليست بحرية؛ فإن الحرية غير القيد، سواء كانا مخلوقين أو مطبوعين، وسواء كانا من عالم الروح أو من عالم المادة عند التمييز بينهما، كما تتمايز قيمة المعدن نفيسًا وغير نفيس، وكلاهما مخلوق أو مصنوع؛ فإن صُنْعَنا للآنية الذهبية وللآنية النحاسية لا ينفي نفاسة الأولى، ولا يُسوِّي بين الآنيتين المصنوعتين، وليس في العقل شيء يسمى حرية مطبوعة تعلو على الحرية المخلوقة بالانطلاق من جميع القيود؛ لأن الانطلاق من جميع القيود غير معقول وغير موجود.
 
•••
 

حرية المخلوقات

وإذا وجدت للمخلوقات العاقلة حرية أو وجدت لها إرادة، فلنرجع إلى العقل لنرى كيف يتصورها العقل -أي عقل- وكيف تكون على احتمال واحد دون كل احتمال.
 
إنها لا تكون سواء في كل إنسان؛ لأنها إذا امتنع فيها خلاف القوة لم يمتنع فيها خلاف الزمن والعمر، ولا خلاف المكان والجسد، ولا خلاف الصغر والكبر، ولا خلاف الحركة والجمود.
 
وإذا امتنع فيها كل هذا الخلاف فليست هي بشيء؛ إذ ليست الموجودات التي لم تتمايز ولم تتنوع بأشياء يقبلها التصور، بل هي عدم ينقطع عن الوجود، أو كائن لا تمييز فيه ولا تكليف، ولا حسنة ولا سيئة، ولا ثواب ولا عقاب.
 
فإذا وجد المخلوق حرًّا ذا إرادة، فلا وجود له إلا بهذا الاختلاف في حكم العقل كيفما كان حكم النصوص.
 
وإذا قضى العقل بهذا دون سواه، فالعقل هو الذي يتصور إرادة الله وإرادة الإنسان على احتمال واحد دون سواه.
 
وحكم الإيمان هنا وحكم العقل متماثلان؛ إذ كان كل ما عدا حرية «الإيمان» فرضًا غير معقول، بل غير موجود.
 
•••
 

القول بكفاية العقل

ونحن إذن في حلٍّ من القول بكفاية العقل وحده لتلقي خطاب التكليف؛ إذ كان المؤمن والفيلسوف معًا يذهبان بالعقل بين نقائض الفروض، فلا يستقران على فرض ممكن أو صالح غير اعتماد التكليف على العقل، واعتماد العقل على الإيمان، والإنكار الجزاف يوقع العقل في نقيضين، وهو تعطيل للعقل أفضل له من كل تعطيل.
 
وإنما تساورنا الحيرة في مسائل الإيمان عامة من خطأ شائع يوهم أناسًا من المتدينين والمنكرين: أن الإيمان على الدوام تسليم بما يأباه العقل وبما يتقبله — إذا تقبله — وهو مغمض العين، مكتوف اليد، يتساوى منه النظر وترك النظر، بلا اجتهاد ولا محاولة ولا موازنة بين ما يجوز وما يمتنع كل الامتناع.
 
هذا إيمان يُلغي العقل ويلقي به بعيدًا إلى طرف التصديق بغير سؤال ولا انتظار جواب؛ فإما عقل ولا تصديق، وإما تصديق ولا عقل: ضدان لا يجتمعان.
 
•••
 

الإيمان

والفرق بعيدٌ بين الإيمان الذي يلغي العقل، والإيمان الذي يعمل فيه العقل غاية عمله، ثم يعلم من ثَمَّ أين ينتهي وأين يبتدئ الإيمان.
 
إن الإيمان هنا نتيجة لعمل العقل غاية جهده، وليس نتيجة لإهماله وإبطال وجوده.
 
والعقل يستطيع أن يصل إلى هذه النتيجة، فتلزمه حجة الدعوة إلى التصديق بالغيب المجهول.
 
والعقل يستطيع أن يعلم بضرورة الإيمان؛ لأن إنكار هذه الضرورة نقيضة عقلية، وليس بنقيضة للدين والعقيدة وحسب، ولا سبيل للعقل إلى الإيمان بموجود كامل مطلق الكمال يصح أن يؤمن به غير الاعتراف بضرورة هذا الإيمان ولزومه — منطقًا — قبل لزومه لهداية الضمير.
 
فالموجود الذي يصح أن نؤمن به هو وجود كامل أبدي ليست له حدود.
 
والموجود الذي ليست له حدود لا يحيط به إدراك العقل المحدود.
 
فما النتيجة اللازمة لهذه الحقيقة التي لا شك فيها؟
 
هي إحدى اثنتين: إما إنكار جزاف، وإما تسليم بحقيقة تفوق إدراك العقول.
 
الإنكار معناه أن سبب الإيمان الوحيد يكون هو السبب الوحيد لكل تعطيل.
 
والإنكار الجزاف يوقع العقل في نقيض، وهو تعطيل للعقل أفضل له من الإنكار.
 
•••
 

الوجود المطلق

إن الموجود السرمدي الكامل المطلق الكمال هو الإله الذي نريده بالإيمان، وهذا هو حقه في إيمان العقلاء بوجوده وربوبيته.
 
ولكن العقل المحدود لا يحيط بالوجود المطلق الذي ليست له حدود.
 
أفيقول العقل إذن: لا إيمان بهذا الموجود المطلق؛ لأنه الموجود الذي يصح في العقل أن نؤمن به ونبحث عنه، ولا يصح في العقول إيمان بغيره؟
 
العقل لا يقول هذا.
 
والعقل إذا قال بضرورة الإيمان على هذه الصفة، وبهذا الحق، لم يكن قد ألغى عمله وأبطل وجوده، بل هو يبلغ بذلك غاية عمله، فهو عقل يزيد عليه إيمان.
 
إن العقل الذي يزيد عليه الإيمان هو العقل الذي خاطبه القرآن بالتكليف، أو هو العقل المؤمن الذي تعنيه النبوة بالتذكير والتبشير، وهو المسئول أن يستمع إلى النبي المرسل من عالم الغيب، فلا معذرة له بعد حجة الغيب والتسليم، وبعد حجة الشهادة والتفكير.
 
•••
 
ومع التسليم بهذا الموجود الكامل، لا يعرف عقل الإنسان تكليفًا غير التكليف الذي بسطته نصوص القرآن، فلا معنى للتكليف أصلًا إن لم تكن فيه طاعة وحرية، ولا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق وإرادة المخلوق.

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، الإنسان في القرآن، ص37
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التكليف #الحرية
اقرأ أيضا
عن قبح اللوطية وانعكاس الفطرة | مرابط
الجندرية

عن قبح اللوطية وانعكاس الفطرة


ثم أكد قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عليها الرجال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأمر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرجال شهوة من دون النساء ولهذا قلب الله سبحانه عليهم ديارهم فجعل عاليها سافلها وكذلك قلبوا هم ونكسوا في العذاب على رؤوسهم.

بقلم: ابن القيم
491
الساعة الخامسة والسابعة صباحا | مرابط
تعزيز اليقين

الساعة الخامسة والسابعة صباحا


في الساعة الخامسة صباحا والتي تسبق تقريبا خروج صلاة الفجر عن وقتها تجد طائفة موفقة من الناس توضأت واستقبلت بيوت الله تتهادى بسكينه لأداء صلاة الفجر إما تسبح وإما تستاك في طريقها بينما أمم من المسلمين أضعاف هؤلاء لا يزالون في فرشهم بل وبعض البيوت تجد الأم والأب يصلون ويدعون فتيان المنزل وفتياته في سباتهم وما إن تأتي الساعة السابعة -والتي يكون وقت صلاة الفجر قد خرج- وبدأ وقت الدراسة والدوام إلا وتتحول الرياض وكأنما أطلقت في البيوت صافرات الإنذار حركة موارة وطرقات تتدافع ومتاجر يرتطم الناس فيه...

بقلم: إبراهيم السكران
1834
المؤامرة على المرأة المسلمة ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

المؤامرة على المرأة المسلمة ج2


وعندما قامت الثورة الفرنسية مطالبة بما أسموه حقوق الإنسان وحرية الإنسان حصلت المرأة على شيء مما يمكن أن نعتبره اعتراف بأنها إنسان وبأن لها روح وبأنها بشر وأخذ المفكرون والأدباء يدعون إلى ذلك وإن كانت دعوتهم تتلبس بالرذيلة والكلام عن البغايا والرأفة بهن والشفقة عليهن وتتحدث عن الراهبات وأنهن منافقات ويزنين في السر وما أشبه ذلك لكن بدأ هناك شعور في أوروبا أن للمرأة روحا وأنها إنسان وليست بشيطان

بقلم: سفر الحوالي
696
شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: كل المخلوقات طائعة لله ومع ذلك نجد أن البشر لا يطيعون


تقول الشبهة: جاء في القرآن أن كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى فكيف يستوي ذلك مع ما نجده في حال الإنسان حيث نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر والمقال الذي بين يدينا يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويوضح الخطأ فيها

بقلم: محمد عمارة
1588
تعلمت من أوقات الفراغ | مرابط
فكر مقالات

تعلمت من أوقات الفراغ


أوقات العمل تملكنا ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب لأن مالك وقته يملك كل شيء ويصبح في حياته سيد الأحرار

بقلم: عباس محمود العقاد
5257
إضاءة في سبيل العلم وطلبه | مرابط
مقالات

إضاءة في سبيل العلم وطلبه


هل جربت يا طالب العلم قبل كل كتاب تقرؤه أو درس تحضره أو مادة تسمعها أن تتضرع إلى الله وتسأله أن يبارك لك في هذه القراءة وهذا الدرس وأن يفتح على قلبك وأن ييسر لك سبيل العلم النافع وأن لا يكلك إلى نفسك وأن يجعل ذلك كله سبيلا إلى رضوانه.

بقلم: د. طلال الحسان
1586